إن كرور أزمنة الجهالة على بعض البشر وتقلبات الظروف فيما بينهم قد أحدثت فيهم كثيرا من العوائد والأخلاق التي تنكر عليهم إذا دخلوا في نظام التمدن؛ ولذلك يجب أن يجتهدوا كثيرا في إزالتها ويستبدلوها بما يناسب روح العصر.
فلا يعتبر أولئك المدعون بالتمدن إذا كانت بيوتهم مشحونة بالأثاث العقيم كالفضة والنحاس وأنواع الخزف والأقمشة، ولم يوجد فيها كتاب أو مياومة ولا أدنى آلة للعلم. لكنما اعتبارهم يقوم إذا كانوا يعلمون أن زينة العقل تفوق زينة المسكن، وأن هذه نتيجة الأجيال المظلمة التي كانت تنطبق على الفخفخات والعظمات الفارغة، وتلك نتيجة الجيل المتنور الذي لا يقبل ما لا نفع فيه.
ولا تعتد بهؤلاء المتظاهرين بالتمدن إذا كانت رءوس نسائهم تتشعشع بأنوار الأحجار الكريمة ذات الثمن الوافر والعديمة الثمرة، ولم يكن في تلك الرءوس أدنى شعاع للعقل والآداب، بل يعتد بهم إذا رفعوا جميع تلك الظواهر الخيالية وأثبتوها للنفقة على تعليم نسائهم وتهذيبهن، كما أنهم لا يعتبرون أصلا مهما ضيقوا أثوابهم وأطالوا خيزراناتهم وهرولوا مسرعين إذا لم يوسعوا أفكارهم ويقيدوا جماح أميالهم المنحرفة.
ولا اعتبار لأولئك الذين ينفقون المبالغ الوافرة على تجهيز المآدب الفاخرة والولائم الحافلة في أيام المواسم والأعياد. ولا يدفعون فلسا واحدا لعمل الخير، لكنهم يعتبرون إذا جعلوا ذلك الإنفاق مخصوصا للأعمال الخيرية وعلموا أن عظمات المآدب والولائم إنما كانت معتبرة في هياكل الوثنيين عند تقديم الضحايا لآلهتهم يوم الموسم أو العيد.
ولا يعد مع المتمدنين أولئك الذين يتسابقون مسرعين إلى منازل بعضهم في الأيام الموسومة عندهم بالرسمية خابطين تحت شمس الصيف وغباره، وخائضين في أمطار الشتاء وأوحاله. ولا يوجه أحد منهم خطوة واحدة إلى فعل الجميل، وإذا وجد منهم من يقصد ذلك الفعل سد الآخرون طريقه بحجارة الملامة، كما يرجمونه بها لو تأخر في مسابقتهم إلى قضاء تلك الرسوم الباطلة.
ولا يقبل التمدن من تثور في أعراسهم صيحات زغاريت النساء وصراخات جوقات الرجال، خصوصا حينما يكون صدوح آلات الطرب داعيا إلى الهدو والسكوت، فهم يجمعون بين المتضادات؛ إذ يتركون الآذان مصدوحة ومرتاحة معا فلا يشتمون رائحة التمدن ما داموا معتنقين هذه العادة الخشنة.
ولا ينخرط في سلك المتمدنين كل أولئك الذين متى دخلت المنية بيت أحدهم نهضت ضوضاء الولاول وطارت صراخاتها الذريعة إلى قبة السماء؛ بحيث تقشعر الأبدان انفعالا منها ويستولي الكمود والانزعاج على كل سامعيها. ولكن قد يضمون إلى عقد التمدن بشرط أن يبطلوا هذه العادة القبيحة ويعلموا أنها موروثة من أزمنة عرب الجاهلية الذين كانوا يكلفون الطبيعة الإنسانية في هذا الأمر ما تستعمله بعض الحيوانات، ويتحققوا أن إنسانيتهم تكون ساقطة سقوطا حقيقيا حتى إنها لم ترث من أولئك القبائل سوى تلك العادة المستقبحة، وتركت كل ملائحهم الجليلة مثل الكرم والنخوة والحماسة وحماية الجار وقبول الضيف وهلم جرا.
وهكذا لا يدعون متمدنين كل الذين يجعلون الحزن شريعة ظالمة إلى حد أنها لا تسمح قط لمن يدخل تحت لوائها أن يستعمل أدنى شيء من لوازم الطبيعة إلا بعد بضع سنين؛ فلا يمكنه أن يخفف عنه حرارة الصيف بلبس الثياب البيض ولو اقتضى ذلك إلى الإضرار بصحته، ولا يقدر على تنقية جسمه من الأوساخ وتنشيط وظيفة التبخير في ذهابه إلى الحمام ولو افترس القمل جلده وأهلكه الاستقساء، ولا يستطيع الخروج إلى البستان لأجل استنشاق الهواء النظيف ولو تسرطن جميع دمه، ولا يؤذن له بسماع آلات الطرب أو أصوات الغناء ولو أوقعته الأكدار في داء المراق، ولا يسوغ له أن يصنع في بيته شيئا من المأكولات الطيبة عند إحساسه بقبولها حذرا من قول الناس عنه إنه قليل الحس، ولكنهم قد يحسبون من أرباب التمدن متى علموا أن الحزن شريعة تطلب عكس ما ينسبون إليها، وأنه انفعال كلما حدث في النفس لا يكف عن استنهاض ضده إيقاعا لرد الفعل، وكلما كان وقوع الفعل شديدا أو سريعا كان رده شديدا أو سريعا.
وهيهات أن يحسبوا متمدنين كل أولئك الذين يشرعون إذلال النساء وتحقيرهن وإهانتهن وربما ضربهن أيضا؛ بناء على أن هذا الجنس ساقط ولا يستحق أدنى اعتبار، مع أن الأمر على خلاف ما يظنونه؛ فإن الجنس النسائي جوهر لطيف للغاية وأهل لكل كرامة ويستحق كل الالتفات إليه، والطبيعة نفسها تدعو إلى إكرامه ومداراته؛ إذ إنه الجزء الأهم في الإنسانية، والمساعد العظيم لقيام الجنس البشري والينبوع الأول لتغذية الحياة ومواساتها في زمن قصورها.
ولا يحسب متمدنا ذلك الرجل الذي يزعم أن الإفراط في معاشرة النساء ومخالطتهن من واجبات التمدن غير عالم أن كثرة التهافت على المرأة تجعل الرجل ذليلا لديها، وكلما عز نفسا ارتفع عندها مقاما.
Bilinmeyen sayfa