ولما كانت حوادث الهيئة الاجتماعية تختلف جرما وموقعا كان لكل منها شأن يستوجب حكما يلائمه ويطابقه، ولكل حكم قوانين تناسبه وتشاكله. وهكذا تكون الأحكام وقوانينها مختلفة اختلاف الحوادث الجارية، فمتى استعمل الواحد محل الآخر نشأ خلل عظيم في نظام السياسة يستدعي خلل الهيئة جميعها؛ فلا يسوغ تنزيل واجبات الكبائر منزلة واجبات الصغائر، ولا يجوز إيقاع الحوادث العظيمة موقع الحوادث الحقيرة، بل يجب إعطاء كل حكمه ليستوفي كل حقه.
وبما أن الأحكام والقوانين تعتبر كأجزاء تؤلف جسم الشريعة في عالم السياسة، وجب أن يكون كل من هذه الأجزاء ثابتا على نقطة وضعه؛ وبناء على ذلك نرى أنه متى زاغ أحدها عن الوضع المعين له، يقع حالا في حركة الاضطراب ويستفز البقية إلى مشاركته في تلك الحركة، ولم يرجع إلى سكونه ويسترجع ما لم ينقطع تأثير الفاعل؛ بحيث إذا دام متواصلا ينهدم بناء ذلك الجسم ويتشتت شمل أجزائه حسبما يتم في الأجسام الرنانة.
ثم ولا يستعمل الحرب مكان السلامة ولا السلامة مكان الحرب؛ لأن الواحد يبدد والآخر يجمع، ومتى نزل أحدهما منزلة الآخر تزعزعت أساسات الهيئة.
رابعا:
حالة الصالح العام؛ إن أهم دواعي السياسة وأعظم بواعثها هو النظر الدائم إلى الصالح العام وتواصل السهر عليه، بحيث مهما أتقنت السياسة نظامها وأحكمته ولم تلتفت إلى هذا الصالح أو تغافلت عنه، فلا تعتبر إلا كمساعد على نثر عقد الهيئة الاجتماعية الذي لا يمكن دوامه منظوما ما لم تكن الملاحظة السياسة عاصمة له؛ إذ إن إهمال ما يسبب العمار هو تسبيب لوقوع الخراب، وهذه الملاحظة تنحصر جميعها في توقيع ما يئول نفعه إلى العامة إجمالا وإفرادا، ودفع ما يقضي إلى الضرر.
وذلك يستريح على خمسة أركان؛ وهي: تمهيد سبل العلوم، وتسهيل طرائق التجارة، وتقوية وسائط الصنائع والأشغال، ومساعدة الزراعة والفلاحة، وقطع أسباب التعدي.
أما الركن الأول: الذي يناط بتمهيد سبل العلوم: فهو يتضمن المساعدة على تشييد المدارس وتسهيل الدخول فيها لأجل كل من يرغب، وترقية الناجحين بالدراسة على قدر الاستحقاق.
وأما الركن الثاني: الذي يلاحظ تسهيل طرائق التجارة: فهو يتوقف أولا: على تقريب أبعاد الأسفار بواسطة إصلاح الطرقات. ثانيا: على إزالة مخاوف ومعاثر الطريق وإيقاع الأمان والسهولة. ثالثا: على وضع حدود ونظامات تجري على كل أرباب هذه الحرفة؛ بحيث لا يمكن أحدا تجاوزها، رابعا وهو الأخير: على منع كل الصعوبات التي يمكنها صدم تقدم التجارة وإبطال كل عائق لسيرها.
والركن الثالث: الذي يخص تقوية وسائط الصنائع والأشغال: فهو يتأسس أولا: على إثارة هم ذوي الاختراعات بتعظيم جوائزهم ورفع شأنهم وتثبيت ما به يمكنهم اقتطاف ثمرات أتعابهم، ثانيا: على توسيع دوائر الأدوات الصناعية وتضييق مساحة التلف والمصاريف، ثالثا: على رفع كل ما يوقف الخطوات عن الهجوم إلى معاناة الأشغال، أخيرا: على المساعدة في تكثير المعامل وتسهيل مجراها.
وأما الركن الرابع: الذي يتعلق بمساعدة الزراعة والفلاحة: فهو يقوم برفع الجور عن الفلاح وفتح الطريق للزراع، وتعجيل خطوات الحصاد ومنع حشر العشار واحتشاد الخزان، وبملاشاة كل موانع البدار وتسديد جميع مطاليب الأرض.
Bilinmeyen sayfa