مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
الإهداء
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
الإهداء
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
غريزة المرأة
غريزة المرأة
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
مقدمة الطبعة الثانية
لما صدرت الطبعة الأولى ومثلت الرواية وشاهدت أشخاصها على المسرح لاحظت أنا عيوبا، ولاحظ غيري من الإخوان والنقاد سواها، ففكرت في هذا كله، وبدا لي أن خير ما أصنع هو أن أحاول أن أنتفع بالنقد الذي وجه إلي، بغض النظر عن البواعث، فإن الحق حق على كل حال، وقد نقحت الرواية وزدت عليها فصلا هو الثالث الآن، وهذا التنقيح لا يغير موضوعها، بل يزيد فكرتها وضوحا والغرض منها بروزا، وأحسب هذه أول مرة يحدث فيها أن كاتبا - على الأقل في مصر - يتناول مؤلفا له بمثل هذا التعديل الجسيم، ولكني لا أرها بدعة سيئة ولا سنة غير محمودة، وما دام أن الكاتب نفسه قد اقتنع بصحة النقد ومطابقته لما يراه هو، فإن من الحماقة أن لا يعالج عمله بالإصلاح والتهذيب، ولا سيما إذا كان ميسورا، ومما سهل علي الأمر أن الطبعة الأولى نفدت بسرعة وأن الحاجة إلى طبعة أخرى كانت جلية.
وقد ألحقت بالرواية رواية مترجمة هي «الشاردة» لجون جالسوردي الكاتب الإنجليزي المعروف؛ ليقابل القارئ ويقارن كما يشاء؛ دفعا لكل وهم قد يسبق إلى الذهن.
وليس يسعني إلا أن أتقدم بالشكر لكل من تفضل بإيلاء روايتي «غريزة المرأة» عنايته، كائنا ما كان رأيه فيها، وأخص بالشكر صديقي الأستاذ الدكتور محمد حسين هيكل بك، وقد وفقت بين رأيه ورأيي في تسمية الرواية، وساعدني على ذلك الفصل الذي زدته.
إبراهيم عبد القادر المازني
مقدمة الطبعة الأولى
الحكاية التي تنطوي عليها هذه الرواية لا جديد فيها ولا ابتكار ولا عمل للخيال، وأعني النفور بين زوجين وما يؤدي إليه ذلك في الأحيان الكثيرة من تقوض بناء الأسرة والشقاء وخيبة الأمل في الحياة، وأمثال ذلك تقع كل يوم، وفي كل لغة مئات من القصص التي تدور على هذا المحور، فلا فضل لي أدعيه، ولا جهد أستطيع أن أباهي به؛ فإن الطريق مطروق والأرض ممهدة وما انقطعت الأرجل قط عن السير فيها، والأمثلة التي يمكن أن تحتذى لا تعد ولا تحصى، وفي وسع القارئ - بلا أدنى عناء - أن يهتدي إلى عشرات من الروايات التمثيلية وغير التمثيلية التي تتناول هذا الموضوع وتقلبه على كل وجه وتصفيه أتم تصفية وأوفاها؛ وهذا ما أحب أن أقرره في ذهن القارئ؛ فأنا لم أصنع شيئا حين جئت بقصة مذالة وتناولت موضوعا مبتذلا سبقني إليه كل من تناول قلما ليروي حكاية أو يصورها بأحسن ألف مرة مما أستطيع أنا أن أفعل، وفي وسعي أن أورد هناك أسماء مائة قصة هذا موضوعها، وليست هي كل ما يقرأ، بل بعض ما يتسع لقراءته وقت الذين لا يقصرون اطلاعهم على القصص والروايات، غير أني اعتقد أني وجهت الحوار في هذه الرواية توجيها يستحق العناية، ولهذا أكتب هذا التصدير، فما ثم شيء في حكاية زوجين فسد الحال بينهما ووقعت النبوة وانتهى الأمر إلى الفراق والنزاع، وما عسى أن يجرا في ذيلهما من المتاعب والأسواء، وإنما الشيء ما وراء ذلك كله من الأسباب الدافعة والعوامل التي من شأنها أن تفضي إلى هذا الحال، وقد عولج هذا الموضوع من قبل؛ غير أني حاولت في هذه الرواية أن أبرز سببا معينا ولو على حساب غيره من الأسباب، لأنه عندي السبب الأقوى، وما عداه - في يقيني - أقل وخامة في عواقبه إذا أغفل، وقد حاولت جهدي أن أشير إليه في أثناء الحوار وأنبه عليه، ولكني مقيد - في إدارة الحديث - باعتبارات شتى لا سبيل إلى الإغضاء عنها، منها ما هو واجب؛ من الاحتشام والتزام حدود الأدب واللياقة، ومنها - وهذا أهم - أن المفروض في الرواية أن الزوجين اللذين فسد ما بينهما لا يدركان هذا السبب ولا يفطنان إليه، وأنهما قد يحومان حوله ولكنهما لا يقعان عليه، ولو أنهما كانا يعرفانه ويدركان كنهه لصلح حالهما واستقر الأمر بينهما على حدود الوفاق.
والمسألة هي أن غريزة حفظ الذات في الرجل أقوى، وأن حياة المرأة مدارها وقوامها غريزة حفظ النوع على الأكثر، هذا هو الأصل، والشواذ غير معدومة ولا قليلة، ولكن الشواذ لا تنفي الأصل ولا تحجبه، وليس هذا مكان الإفاضة في شرح هذا الفرق، وعلى من شاء التوسع أن يطلبه في الكتب والفصول التي تتناول هذا الموضوع، فالوفاق بين الرجل والمرأة لا يكون إلا إذا فهم كل منهما طبيعة الآخر وما تتطلبه كل من الغريزتين، والشقاق نتيجة العجز عن هذا الفهم، وقد تؤدي أسباب أخرى إلى الخلاف والجفوة، ولكن من المحقق أن العجز عن إدراك مطالب الغريزة النوعية في المرأة يؤدي بلا أدنى شك وفي كل حال إلى فساد ما بينها وبين الرجل، ومن الرجال من يكون سلوكه مرضيا للمرأة ومحببا لها فيه وهو لا يدري لماذا؛ لأن سلوكه معها لا فضل فيه إلا للفطرة الذكية، غير أن الفهم الصحيح لا يكون إلا ثمرة الدرس العلمي، وليست الغريزة النوعية في المرأة فوضى؛ فإن لها لقوانين قد يلحقها الاضطراب أحيانا ويصيبها الشذوذ، ولكنها حتى في شذوذها واضطرابها غير مستعصية على الدرس.
أكتب هذا وقد جربت الأمر بنفسي، ووقعت في مشاكل الجهل، ولم ينجني من عواقبها السيئة إلا التوفيق إلى درس طبيعة المرأة وغريزتها، فقد تزوجت أول ما تزوجت وأنا في العشرين لا أعرف عن المرأة إلا أنها أنثى، ولا عن الزواج إلا أنه وسيلة مشروعة لتعارف الجنسين، فقضينا ثلاث سنوات ونحن في جحيم لا تخمد ناره ولا ينقطع عذابه، فكاد يجنني أنا بدأنا متحابين، فما هي إلا شهور حتى صرنا إلى شر ما يمكن أن يصيب زوجين من النفرة وقلة الاحتمال، وعدم الاستعداد للتفاهم والعجز عن إصلاح الفساد، وكاد الأمر ينتهي إلى الفرقة النهائية لولا أنه اتفق أن قرأت فصلا في مجلة راقني يومئذ، وعرفت بعد ذلك أنه سخيف محشو بالخطأ؛ غير أنه دفعني إلى درس موضوع لم تكن لي به عناية، فأقبلت على الكتب ألتهمها، حتى الجاف الذي لا يطيقه ولا يفهمه غير الأخصائي؛ من مثل الكتب الطبية، وأذكر من بينها كتابا ضخما في الإمساك، ولما شبعت من القراءة واعتقدت أني وصلت إلى نتيجة يمكن الانتفاع بها شرعت أطبق العلم على العمل وأدرس طبيعة زوجتي، وصبرت على التجريب والاختبار أكثر من عام، وعشنا بعد ذلك ستة أعوام كأسعد ما يكون زوجان في هذه الدنيا التي لا تخلو من المنغصات، وقبضها الله إليه بعد ذلك، فكان مما عزاني أني لم أقصر، وأني إذا كنت عذبتها بجهلي ثلاث سنوات فقد استطعت أن أذيقها طعم السعادة النسبية ضعف هذا الزمن.
وليست هذه الرواية نقدا، ولقد هممت أن أجعل ختامها في بيت الزوج بعد تنفيذ حكم الطاعة على الزوجة، مع اختلاف يسير في النتيجة، ولكني خفت أن يعد نقدا لحكم الطاعة، وليس هذا ما قصدت إليه، ولقد تحريت في أثناء الحوار أن أبين أن الزوجة لم يكن لها دفاع، ولا هي تقدمت إلى المحكمة بما يصلح أن ينهض عذرا لها، ولو فعلت واستطاعت أن تثبت أن التفريق واجب لقضي لها به، ولكنها فقيرة مكروبة ممزقة الأعصاب، تكتفي بالفرار مما تكره.
وأرجو أن أكون قد وفقت في إبراز الفكرة التي وجهت الحوار إليها وشرحتها بإيجاز في هذه المقدمة، فإن ما عداها لا يعنيني لا كثيرا ولا قليلا، وبحسبي من القارئ أن يلتفت إلى هذا الذي أردته، وليكن رأيه بعد ذلك في الرواية وفي كاتبها ما شاء؛ فالكاتب لا قيمة له، والرواية أقل منه قيمة.
إبراهيم عبد القادر المازني
الإهداء
إلى التي عذبتها بجهلي ثلاث سنوات، والتي كادت تذهب ضحية لي كما ذهبت ليلى.
إبراهيم عبد القادر المازني
أشخاص الرواية
فؤاد:
زوج ليلى.
خيري:
ابن عم فؤاد.
حامد:
ابن خالة ليلى.
الشاب شوقي:
يوزباشي.
حماد:
عسكري بوليس.
ليلى:
زوجة فؤاد.
ثريا:
زوجة خيري.
الحاجة:
قريبة حامد.
فريدة:
خادمة في بيت فؤاد.
الفصل الأول
(حجرة مستطيلة تتصل بشرفة مؤدية إلى الحديقة ببابين من الزجاج، وإلى اليسار باب واسع يفضي إلى غرفة المائدة، والستار مشدود على بكره إلى اليمين بحيث يرى المرء الغرفة وبابها على الشرفة، وفي الركن مما يلي الباب مكتب دقيق الحجم عليه زهرية، وفوقه صورة زيتية لمنظر، وبين بابي الشرفة كرسي فوقه على الجدار صورة «رأس» بالباستيل، وإلى يمين الباب الثاني كرسي كالأول، وفوقه صورة مائية لمنظر ريفي، وفي الركن مما يلي الكرسي حمالة خشبها من نوع خشب الكرسي، وفوقها زهرية من الصيني بلون السماء تسبح فيها السحب وفيها شجيرة، وإلى اليمين باب آخر يفضي إلى المكتبة، والسجادة في وسط الغرفة، والأرض خشب مصقول كما يبدو من حولها، وثم بضعة كراسي أخرى، والطابع العام هو الأناقة مع البساطة واجتناب الكظ، وحسن الجمع بين الضوء والألوان.)
الوقت: قبل الظهر.
يرفع الستار عن الخادمة الجديدة «فريدة»، وهي فتاة مشرقة الديباجة سوداء الشعر، وعيناها كالمخمل الأسود، وتحت إبطها منفضة صغيرة من الريش الناعم، وهي تغني بصوت خفيض؛ فعل الآمن أنه لن يفاجأ، الضامن العطف إذا فوجئ، وهي تظهر - حين يرفع الستار - خارجة من حجرة المكتبة متجهة إلى المكتب الصغير.
ويدخل وراءها على أطراف أصابعه كأنما كان متربصا «خيري»، وهو شاب يبلغ الثلاثين من عمره، مديد القامة، قوي البنية، رشيق الحركة، أسمر اللون، يلبس حلة صيفية رمادية محبوكة التفصيل، ثم يقف وراءها.
خيري :
صباح الخير يا فريدة.
فريدة (تفزعها المفاجأة فتند عنها صرخة خافتة) :
آه! سيدي خيري بك.
خيري (مسددا نظره إليها وعلى فمه طيف ابتسامة) :
وحدك يا فريدة؟
فريدة (تبدأ يداها تعبثان بالمريلة) :
آه.
خيري (بابتسامة عريضة) :
حسن؛ إني أريد أن أتحدث إليك قليلا.
فريدة :
تحدثني أنا؟
خيري :
نعم أنت، ولم لا؟ ألا تعرفين أني غمزتك بعيني ثلاث مرات على العشاء أمس وأنت تتظاهرين بعدم الالتفات؟
فريدة (متظاهرة بالدهشة) :
غمزتني يا سيدي! لست أفهم مرادك.
خيري :
كلام فارغ، هل تريدين أن تقولي إن فتاة رشيقة زكية مثلك لا تدرك لغة العيون الطبيعية التي كان أدم وحواء يتناجيان بها؟! هل تطلبين مني أن أصدق أنك لم تفهمي غمزتي وأنت تضعين الشواء؟! لقد قلت لك بأفصح لسان وأقوى بيان إني أريد أن أكون لك كروميو، ألم تسمعي به. (تهز رأسها)
مستحيل؛ إن كل رجل روميو، وكل امرأة جولييت، والبارحة بعد أن رقدوا جميعا انتظرتك تحت، في المطبخ، في الظلام وحدي؛ لعلك تنزلين إلي، لشد ما خيبت أملي يا فتاتي الجميلة! انتظرت، وانتظرت، ساعة كاملة، وأنت لا تجيئين، ذهب تعبي ووقتي سدى، وكلت أعصابي بلا طائل واتسخت ثيابي بلا مقابل.
فريدة (بخبث) :
هل كنت جوعانا؟
خيري (يزوم) :
اممم، نعم جوعان، بل قولي: ظمآن إلى حسنك.
فريدة :
أوه يا سيدي! لم أكن أعرف.
خيري (مقاطعا) :
حسن هذا.
فريدة (متممة كلامها) :
إنك رجل، رجل، نعم رجل تاجر؛ ثم إنك متزوج.
خيري :
ليس لي حيلة يا فريدة، فإنك جميلة، وأنا ... أنا ... أنا شاب وإن كنت متزوجا، وفي عروقي دماء حارة لا ماء بارد، والزواج لا يعمي عن الجمال الذي في الدنيا، ولست أرى الزواج على كل حال يعصمني من فتنة هذا الحسن. (يمد ذراعيه إليها فتتراجع نحو باب الشرفة، ولكن ببطء.)
فريدة :
لا، لا، لا يا سيدي أرجوك.
خيري :
قبلة واحدة يا فريدة، قبلة خفيفة من هذا الفم الحلو كعربون للصداقة. (يطوقها ويطبع على فمها قبلة طويلة وهي مستسلمة مجاوبة، وفي أثناء ذلك، وبينما هو حان عليها وهي كالسكرى مغمضة العين تمر ليلى على الشرفة فتراهما في عناقهما فتنحدر إلى الحديقة.)
فريدة (ترده عنها في رفق) :
ألا تشبع؟! قلت واحدة وهذه عشر.
خيري :
أتكرهين أن تكوني محبوبة؟!
فريدة (بخبث ودلال) :
وهل أنت تحبني؟!
خيري :
ألم تخبرك شفتاي؟!
فريدة (وهي تحاوره ضاحكة) :
والشفاه أيضا لها لغة؟! كلا لم تقولا شيئا.
خيري (يدنو منها) :
لقد قصرتا إذن، فلنعد الكرة، وأنا الضامن في هذه المرة حسن أدائهما للرسالة. (يطوقها ويجذبها إليه فتلين له، وينظر في عينها ثم يهم بتقبيلها وقد اطمأن إلى استجابتها، ولكنها تلمح سيدها داخلا فتدفعه بعنف وتنزع نفسها من عناقه وتلطمه على خده.)
فريدة (بصوت عال) :
هذا جزاؤك وأنت المسئول.
فؤاد (مقهقها) :
برافو فريدة سأزيد مرتبك نصف جنيه من هذا الشهر مكافأة لك.
فريدة (وهي تخرج من باب غرفة الطعام) :
أشكرك يا سيدي.
فؤاد (يدس يديه في جيبي البنطلون) :
لم أكن أحسبك لعينا إلى هذا الحد.
خيري (يتحسس خده بكفه وهو يزوم ويقول لنفسه) :
وبعد أن تهيأت للتقبيل، إن حظي اليوم سيئ.
فؤاد :
اسمع يا صاحبي، لست أحب أن ألقي عليك درسا ولكنك أ ... مستحيل، حاول أن تضبط أعصابك داخل البيت على الأقل.
خيري (يجلس بفخذ على حافة المكتب ويخرج سيجارة) :
اسمع أنت، إن لك بيتا جميلا، وأنت ابن عم كريم، ولكني لن أستطيع أن أبقى هنا يا فؤاد؛ لأنه ينقصني ألزم ما يلزم لحياتي وهناءتي.
فؤاد :
وما هذا.
خيري :
امرأة أغازلها (ويمد يده بعلبة السجائر).
فؤاد (وهو يتناول سيجارة) :
ولكن لك زوجة، فماذا تروم فوق ذلك؟ أليست امرأة؟
خيري :
لا تتهكم، إن زوجتي هي زوجتي، أعرف ذلك، ولكن المصيبة أن لي مزاجا. فلست أستغرب أن لا تفهم، (يهز كتفه)
بل لك العذر إذا لم تفهم، غير أني أصارحك بأن مجالسة النساء ضرورية لي؛ إني أشعر حين أحدق في عيونهن وأشرب بلحاظي الخمر التي في خدودهن أن روحي تربو وتهتز وتتسع آفاقها وأصبح إنسانا آخر.
فؤاد :
ولكن ألا تفكر في شيء آخر؟
خيري :
أي شيء آخر هناك يستحق التفكير؟ هيه، إن المرأة هي قوام الحياة، والحب هو المحور الذي تدور عليه الدنيا، لا تصدق الجغرافيا، ولكن صدق التاريخ، ألم تسمع بأنطونيو وكليوباترا، وباولا وفرانشسكا، وروميو وجولييت، وليلى ومجنونها؟
فؤاد :
أظن ليلى آتية.
خيري :
من الحديقة؟ (ناهضا).
فؤاد :
نعم، لا، لقد عادت، وقفت وتلفتت ثم عادت، أظن ثريا نادتها.
خيري :
لا تطمئن يا صاحبي، ستعودان معا.
فؤاد :
أتكره أن تراهما.
خيري :
أكره؟ من الذي قال إني أكره، إني أحب ولا أكره خلقت لهذا دون ذاك، وهل فرغت من الحب حتى أحتاج أن أكره؟! إن ألسنة الجمال لا تنفك تناديني وتهتف بي وتدعوني إليها، وقد تلح أحيانا في الدعوة فلا يبقى لي مفر من الإجابة (تشرد نظرته)
وإنها الآن لتدعوني بقوة.
فؤاد (بتهكم) :
من عسى تكون هذه السعيدة؟
خيري (كاليائس) :
أووووه! لست أراك تفهم، إنه الجمال في حيثما يكون.
فؤاد :
وما يمنعك أن تذهب إليه.
خيري (يهز رأسه) :
لا أستطيع؛ أصبحت ثريا كالشرطي في ثوب امرأة، شارلوك هولمز لا يذكر بالقياس إليها.
فؤاد :
اخترع سببا.
خيري :
قد استنفدت أعذاري جميعا ونضب معين اختراعي.
فؤاد :
مسكين.
خيري :
أتذكر يوما سافرت معك إلى ضيعتك وأفلت منك في المحطة؟ هيه، هذه هي المرة الوحيدة التي نجوت فيها من رقابتها (يطرق وينفض السيجارة) ، ومع ذلك من يدري؟! إني لا أعرف أبدا أين أنا منها. (يسمعان حفيف أثواب ولغطا قريبا فيلتفتان. )
خيري :
ألم أقل لك؟! (تدخل ثريا وليلى، وليلى تبلغ الخامسة والعشرين، وهي معتدلة القامة ممشوقة القد هادئة الخطى متزنة الحركات ذهبية الشعر بارعة الوجه، ولكنها تبدو في هذه اللحظة باهتة اللون وفي محياها سهوم، وفي نظرتها إصرار وعلى شفتيها زمة كأنها تريد أن تكبح شيئا يعالج أن ينفجر، ومما يزيد ذلك تأكيدا أنها في ثوب من الفوال قرمزي اللون مشدود إلى خصرها بحزام فضي على صورة أفعوان. أما ثريا فأطول منها قليلا وأكثر امتلاء، وشعرها بلون القمح الناضج، وعيناها زرقاوان، وحاجباها أسودان، وهما خطان دقيقان، وفمها صغير وعليه ابتسامة المستخف، يتقدم خيري إلى زوجته ثريا بذراعيه ويقبلها بحرارة.)
ثريا (تتلقى عناقه بهدوء وبنفس الابتسام) :
يا زوجي العزيز أتراني الأولى؟
خيري :
أي لغز هذا يا ثريا؟
ثريا :
التي قبلتها اليوم؟
فؤاد (ضاحكا) :
أو! هوهوهوهو!
خيري :
ثريا، كيف يدور برأسك الصغير خاطر كهذا؟!
ليلى (لنفسها) :
يا للرجال!
ثريا (لفؤاد) :
ماذا كان يقول لك، أراهن أنه كان يفضي إليك بآرائه فينا، أعني في النساء.
فؤاد (مرتبكا) :
هذا يا ثريا موضوع. أ ... أ ... (يلتفت إلى زوجته ليلى فيرى جمودها فيزداد ارتباكا)
أ ... لا يليق، أ ... أ ...
ثريا :
أعرف أنك رجل جاد.
ليلى (لنفسها) :
جاد، لو تعرف.
ثريا (مستمرة) :
وأن لك مشاغل أخرى، أما هو فليس بشيء إن لم يكن زير نساء.
خيري (متكلفا الحدة وإن ظل يبتسم) :
كيف يطاوعك قلبك على اتهامي ونعتي بمثل هذه الصفات؟!
ثريا :
لأنها الحقيقة.
ليلى (لنفسها) :
وأنا أشهد.
ثريا (مستمرة) :
أنك رجل لا غرض لك من الحياة إلا المرأة.
خيري (مغالطا برقة) :
المرأة؟! صدقت، ممثلة فيك.
ثريا (بابتسامة لليلى) :
يقولون في أمثالنا أن «اليد البطالة نجسة» (ثم لزوجها)
وما أظن بيدك إلا أنها ... أ ... أ ... ساعديني يا ليلى.
فؤاد (وهو يتناول يد خيري) :
في يد إبليس. (يضحكون فيفطن إلى ما وقع فيه ويسرع فينزع يده ضاحكا.)
هات سيجارة وتعال ندخن في الحديقة.
ثريا :
نعم، انج بجلدك.
خيري (يلتفت ويتلكأ وينظر إليها عاتبا) :
كيف؟
فؤاد (يتناول ذراعه) :
أطعها. (ويجره فيخرجان.)
ليلى :
ثريا، (تمسك ذراعها)
هل تعنين ما قلت الآن عن زوجك؟
ثريا :
أعني كل حرف.
ليلى :
ولكن هذا ... فظيع.
ثريا :
لا تراعي؛ فإني أعرف كيف أنتقم.
ليلى (مترددة) :
هل ... هل ... هل ... أعني هل تحذين حذوه؟! معذرة.
ثريا :
لا، لا، لا، إني أعرف وسيلة للانتقام أنجع وأوجع، إذا رأيت عينه تزوغ عمدت إلى جيبه.
ليلى (وهي لا تفهم) :
يظهر أنها طريقة دقيقة فإني لا أكاد أفهم.
ثريا (ضاحكة) :
إذا كان الخطب هينا؛ مجرد مغازلة، أو حتى قبلة، طلبت منه فستانا، وتارة يكون خاتما من ألماس، وتارة أخرى سوارا، وهكذا تبعا لدرجة الخيانة.
ليلى (بابتسامة خفيفة من الفم دون العين) :
ما أبدعها من طريقة!
ثريا :
لقد اضطررت إلى ذلك؛ لأنه إذا كان الرجل لا يشعر بواجبه عن طريق قلبه فأن من الممكن أن يشعر بذلك عن طريق جيبه.
ليلى :
ما أذكاك يا ثريا! وهل نجح العلاج؟
ثريا :
يا حبيبتي كيف يمكن أن ينجح؟! ألا ترين أني ما زلت من أحسن النساء ثيابا وأكثرهن حليا؟!
ليلى (تهز رأسها) :
صدقت، ولكني آسفة، حقيقة.
ثريا :
غير أنه ينقصني شيء واحد، معطف من الفرو رأيته في البون مارشيه وأرجو أن يتيح لي فرصة قريبة للفوز به.
ليلى (حائرة) :
بودي أن أساعدك، ولكن، ولكني، لا أقدر، كلا، لا أقدر على شيء.
ثريا :
طبعا، طبعا، أشكرك.
ليلى :
ولكن افرضي أنه لم يتح لك الفرصة فهل تنوين أن تقضي الشتاء كله مقرورة محرومة من فرو البون مارشيه.
ثريا :
لا تخافي علي ولا تثقي به، سأفوز بالمعطف قبل الشتاء بزمان طويل.
ليلى (بمرارة) :
ما أقسى هذه الحياة!
ثريا :
تعالي، تعالي، ما هذا الوجوم!
ليلى :
برغمي يا ثريا، لم أعد أطيق.
ثريا :
ولكن فكري، إننا أحوج إلى الصبر من الرجال، وعلينا يقع عبء الاحتيال لتظل حياتنا محتملة.
ليلى :
أعرف هذا، وإن كنت لا أدري لماذا ننفرد بالعبء ولا يحمل الرجال منه شطرا؟! وليس يغيب عني أني ... أني ... أني متسولة، لقد قلتها وأرحت صدري، ولكن هذا كله لا يصدني ولا يعزيني؛ لأن الحالة بلغت من السوء حدا صار كل شيء بعده يزيدني جنونا ونزوعا إلى التمرد.
ثريا :
مهلا، ألا يمكن أن تكوني مخطئة؟! إنه احتمال قد يتوقف عليه كل شيء.
ليلى :
هل أنت مخطئة؟
ثريا :
أنا على خلافك؛ أتلقى ما يكون بابتسامة المتسامح؛ ليس لي إلا حياة واحدة، وقد ارتبطت به، ومع كل عبثه لا أراني أخسر حبه ورعايته. بل لعلي حفظت حبه لي بهذا التسامح.
ليلى :
ولكن أمرنا مختلف جدا يا ثريا؛ أنتما متحابان، أما نحن فلم يبق بيننا حب، ولا ذرة، وقد صرت أشعر أنه مسئول عن تلف أعصابي، لا أدري لماذا، ولكني إذا رأيته مقبلا علي أحس كأن شيئا يجثم على صدري، وكأن حياتي رهن باطراح هذا العبء، ويخيل إلي حين يكلمني أن عقلي سيطير، وإذا ابتسم لي كما يفعل أحيانا، شعرت كأن يدا تقبض على عنقي وتأخذ بمخنقي ويكفي أن أراه قبل النوم ليجفوني الرقاد ويصيبني الأرق إلى الصباح، وإذا قبلني جمد الدم في عروقي ولا أدري كيف يقوى، لا شك أنه يتحامل على نفسه ويكرهها على التودد. كلا، لا أطيق أن أراه، ولا أريد أن أشعر أنه يلازمني في حياتي وأني مرتبطة به، ثلاث سنوات طويلات يا ثريا ونحن هكذا؛ لا تجمعنا صلة إلا صلة الورقة الرسمية، ولا يؤلف بين قلبينا تعاطف، ولا يدور في نفسينا خاطر واحد مشترك؛ كل رغبة لي تصادمها رغبة منه، وكل حال لي أو مزاج أو أمل يصادف نقيضه عنده، (تطرق)
لو كنت رزقت منه طفلا لأمكن أن أتعزى ولكن ... (تتردد ثم تهجم)
من أين أجيء به؟! أأشتريه؟
ثريا :
ما أراك إلا مبالغة يا ليلى، لا تدعي الخيالات تؤثر في عقلك، فإن الحياة لا تجري على هذا المنوال، ولو ترك كل امرئ خياله يجمح به ويهول عليه ويجسم له الأوهام لما استقام عيش ولا بقي بيت قائما.
ليلى :
ألا تصدقين؟! إني أقول لك إن لي ثلاث سنوات لا أبتسم إلا تكلفا، ثلاث سنين لم يخفق فيها قلبي خفقة الغبطة؛ لأن أعصابي تتمزق وكياني يتهدم، نسيت سرور النفس حتى لأنكره في وجوه الناس، وإني لأجيل عيني في حياتي فلا أرى إلا رسوما داثرة؛ كل آمالي قد ذبلت وتساقطت أوراقها وتناثرت أزهارها، وعفى الألم المخامر على نضرة الصبا، أين زهور الحب؟! أين أزاهير الشباب النضيرة؟! أين زهور الصبر والرضا والأمن والأمل؟! وفي كل يوم تموت لي زهرة جديدة، فأبكيها بقلبي لا بدموعي؛ لأنها جففت، ونشفت، وفي كل ليلة تتساقط حولي أوراق حياتي، لم يكد شبابي ينور يا ثريا حتى عاث فيه هذا الوباء الماحق، وأي خير في عيش مجدب الظاهر والباطن، مصفر القلب والوجه؟!
ثريا (مضطربة) :
مسكينة، مسكينة.
ليلى (بحدة) :
أنت تحتملين في سبيل حبه المضمون، وإن كنت تخسرين بعض لهوه وعبثه، ولكن أنا؟! أنا؟! أحتمل من أجل ماذا؟! من أجل أنه يطعمني ويكسوني؟! كفى، كفى.
ثريا :
معذرة يا أخت؛ لم أكن أدري. ليس لي حق.
ليلى (تضبط نفسها) :
أنا آسفة يا ثريا، لم أكن أود أن أنفجر، ولكن أرجو ألا يكربك ما سمعت، (ثم بمرارة)
على كل حال أنت في بيته هو، لا في بيتي أنا، وعلى أنه ليس لي بيت.
ثريا (بحنو) :
ثقي يا ليلى أني أكون سعيدة لو كان في وسعي شيء.
ليلى (مفترة) :
إني أعلم أنك كالأخت، وأن لي أن أعتمد عليك.
ثريا :
كل الاعتماد يا ليلى.
ليلى :
وقد أضطر أن أفارقه، نعم هذا ضروري، لم يبق منه مفر، وإن كنت لا أعلم أين أذهب، ولكني سأدبر أمري على نحو ما.
ثريا :
ليت زوجي لم يكن ابن عمه.
ليلى (بزراية) :
لم يخطر لي هذا يا ثريا، فما زال لي في هذه الدنيا قريب، وإن كان قريبي الوحيد - الأصل الذي نماني لا يزال باقيا منه فرع.
ثريا :
إنما أعني أنه ليس هناك سبب ملجئ، أو ضرورة قصوى، والتأني على كل حال محمود العاقبة وليس منه بأس، وما لا يصنع اليوم يمكن أن يصنع غدا، ولكن دعي للتفكير الهادئ وقتا.
ليلى :
التفكير الهادئ؟! وأين السبيل إليه إذا كانت النفس مزلزلة وبركان الصدر منفجرا يقذف بالحمم ويطيرني أشلاء؟! التفكير الهادئ لكأني بك تظنينها عملية حسابية، ولك العذر فإن القبلة عندك يعد لها فستان، والضمة بسوار، والعناق بخاتم من الماس أو الفيروز، وال ... وال ...
ثريا (مصدومة) :
ماذا جرى لك؟
ليلى :
نعم ولكني لست كذلك؛ لست أضع خسائري في كفة وثيابي وزينتي في كفة؛ ثيابي وزينتي! لو تعريت من كل ذلك ورضيت نفسي لكنت الرابحة، خذي كل ما علي، وهات لي رضا النفس وراحة الأعصاب، ألا تفهمين؟ إني متعته ولكني أنا ليس لي متعة، ليس لي حساب، لا يدرك أنه هو أيضا ينبغي أن يكون متعتي، إيه! دعينا بالله يا ثريا. (يسمعان خيري يناديهما، وتدخل فريدة في طريقها إلى حجرة الطعام.)
ثريا :
خيري ينادينا، تعالي، على كل حال نصيحتي لك، وأنا أكبر منك، ألا تتهوري (يخرجان). (يدخل فؤاد من باب المكتبة فيصادف فريدة عائدة من حجرة الطعام.)
فؤاد (وهو مطرق) :
أقول يا ثريا، آه، أين ذهبت يا فريدة.
فريدة :
كانت هنا الآن يا سيدي (تذهب إلى النافذة)
إنها نازلة إلى الحديقة مع ستي.
فؤاد (يداه في جيبي البنطلون وهو يتمشى مفكرا) :
أووه!
فريدة (تقف بعد أن كانت خارجة) :
سيدي!
فؤاد (مفيقا) :
لا شيء؛ إنما أردت أن أسأل هل سيدتك تثير أ ... أ ... ذلك موضوع.
فريدة :
لا، أبدا.
فؤاد :
لا أعني بالكلام؛ فليس هذا ضروريا، ولكن بالإشارة، بالمعاملة.
فريدة :
إن سيدتي لا تكاد تشعر بما حولها ، عيناها تتخطياني ولكنها تتخطى كل ما تراه أيضا.
فؤاد (يمط شفتيه) :
ربما، بل صدقت، على كل حال، (مترددا ولنفسه)
لا أدري أينا المسكين في هذا البيت؟ لم يعد هذا بيتنا، ولم أعد أعرف ماذا أصنع (يلتفت إلى فريدة ويواجهها)
لا تظني أن السجن وحده هو الذي يسحق الروح، أوه! لا.
فريدة (مقبلة عليه ولكن بشيء من الاحتشام) :
أصحيح هذا يا سيدي؟
فؤاد (مستغربا شكها) :
صحيح، كل الصحة، ألا تحسين دنياي المتحجرة؟ أتظنين جدران السجن أكثف مما يحيط بي، هنا، في بيتي؟! إن حولي سورا من النار، من العذاب، في حيثما أمد يدي أشعر بكي النار، وفي حيثما أتلفت يلفحني سعيرها. أوه! السجن! (باستخفاف)
ما السجن؟ عزلة، بعد عن المنغصات، راحة من المتعبات، ارتفاع التكاليف، انتفاء التعبات، اطراح الهموم، إجازة من الحياة، هذا هو السجن. (يتمشى ويضبط نفسه)
ولكنك لا ينقصك أن تحملي همومي أيضا، تعالي حدثيني عن نفسك، قولي كيف تجدين الحياة بعد خروجك.
فريدة (منساقة مع التيار) :
أنا؟ إن الدنيا منذ خروجي تبدو لي جديدة، إلا أنها مرعبة، وكثيرا ما تنازعني نفسي أن أطلق صيحة في الهواء، صيحة طويلة قوية، وأن أثب وأقفز من فرط سروري بالخلاص وفرحي بالحرية الجديدة.
فؤاد (وهو لا ينظر إليها) :
مسكينة، مسكينة. (يصوب إليها عينه)
قولي، تكلمي؛ فإن الكلام يرفه عن القلب، واستماع مثلي إلى البث راحة، أنا وأنت تعذبنا، ولكن، ما علينا، قولي.
فريدة (ببساطة) :
لا أدري ماذا أقول؛ لساني لا يجري بسهولة.
فؤاد :
كيف؟
فريدة :
اعتدت الصمت الطويل.
فؤاد :
وفيم كنت تفكرين؟
فريدة :
أفكر؟ أفكر؟ كلا إنما كنت أتألم.
فؤاد (مصدوما) :
هم، أ ... ذكرى مؤلمة، ولكن ماذا جرى لذلك الفتى؟
فريدة :
لقد مات.
فؤاد (مصدوما، ومحاولا أن يعدل بالكلام إلى مجرى آخر) :
أوه! هم، صحيح. (لنفسه)
الحمد لله على أن لم نرزق أطفالا، نعم لو كنت رزقت نسلا لتضاعف البلاء، وماذا أصنع بالنسل؟! إن تجربتي تزهد في الحياة وكيف يكفل الشقي من الناس السعادة لأبنائه؟! (يلتفت إليها)
اسمعي يا فريدة، إنك سعيدة الحظ؛ فقد ذهب ابنك، واسترحت منه، ولو عاش لكان مصابك به أعظم وشقاؤك أتم. حسنا صنعت.
فريدة :
معذرة يا سيدي ولكني لم أرد قتله، وأقسم لك.
فؤاد :
طبيعي، طبيعي.
فريدة :
لقد كنت نائمة مهدودة القوى، وكان هو إلى جانبي، كان له في الحياة يومان فقط، ولم أكن قد أرضعته من ثديي ولا قطرة واحدة لأن لبنى لم يكن قد تحدر، وأظنني تقلبت عليه وأنا نائمة، وإذا بالقابلة تصيح فوق رأسي في الصباح: «لقد خنقت الطفل يا شقية»، فنظرت إليه وصرخت. (ترفع كفيها إلى وجهها)
لا، لا، لم أرد أن أقتله، وكيف يمكن، كيف يمكن؟! ولكنهم لم يصدقوني؛ لأن الشواهد المضللة كانت أقوى من الحقيقة.
فؤاد (وهو شارد) :
لماذا ينبغي أن يبقى هذا الجنس الإنساني؟! ماذا يصنع في الدنيا؟! أية غاية يخدمها بوجوده وبقائه؟! ماذا تخسر الدنيا إذا خلت رقعة الأرض من هذا الإنسان؟! هل تكف الأرض عن الدوران؟! هل يقف الفلك؟! هل تخبو الشموس ويظلم الكون؟! وهؤلاء الذين يسنون الشرائع أو يضعون القوانين باسم الجنس الإنساني ألا ينبغي أن يثبت لهم أن الجنس الإنساني الذي يريدون أن يحافظوا عليه يريد البقاء الذي يرغمونه عليه، ولكن هل هم يرغمونه على البقاء بقوانينهم؟ لا أدري، لا أدري (يلتفت إليها)
فريدة، أتفضلين أن تظلي حية ولو معذبة أو أن تموتي؟
فريدة (مذعورة) :
أريد أن أحيى. (ثم باكتئاب)
ولكني أتمنى أن يرد إلي طفلي، فإن التفكير فيه مؤلم ... عذاب.
فؤاد :
لا شك وخير ألا تفكري، إن التفكير عبث.
فريدة :
برغمي يا سيدي، وفيمن أفكر إذا لم أفكر في طفلي؟! لقد كدت أموت من أجله، وفي سبيله احتملت الفضيحة ... ثم السجن، ظلما والله، ليته مع ذلك عاش.
فؤاد :
إن الدنيا قاسية يا فريدة.
فريدة :
لقد كنت أبكي كل ليلة في محبسي، ليلة بعد ليلة (ثم بابتسام)
من لا يريد أن يؤخذ قوله على ظاهره، بكيت حتى جفت دموعي، ونقمت على الدنيا وعلى الناس.
فؤاد :
لقد كنت سعيدة الحظ؛ فقد كان من الممكن أن يحكم عليك بالإعدام.
فريدة :
لم أكن أبالي.
فؤاد :
هذا فعل الوحشة ولا شك.
فريدة :
معذرة يا سيدي، ولكني لا أظن.
فؤاد :
بل هي الوحشة، صدقيني.
فريدة (بسذاجة) :
هل جربت السجن يا سيدي؟
فؤاد :
أعوذ بالله، لا، لا، لا.
فريدة (تقبل عليه) :
إذن لا تستطيع أن تدرك؛ إنه مرعب يا سيدي، يقبض القلب، يعصره، كنت في الشتاء أوحوح وأنفخ في يدي (تنفخ)
ولكن بلا جدوى، وكم وقفت في الليل البارد والباب لا يفتح إلا في الصباح ولو مات السجين؛ يمرض، يبكي، يصرخ، يتألم، يضرب الحائط برأسه، يموت، لا فائدة، لا يعنى به أحد، في الصباح فقط يذكرون أن هناك أحياء داخل المحابس. أما في الليل البهيم فلا، وكان معي في محبسي أربع، أنا خامستهن، وكن بعد العشاء ينمن كل واحدة في حضن صاحبتها ولا يبالينني، ينمن وأنا مؤرقة مسهدة، وكم صرخت وناديت السجانة فكانت تشتمني وتأمرني أن أصنع مثلهن؛ كما يكن ينبغي أن أكون، وكم وقفت وراء الباب أنصت وأرهف أذني، غير أن الأصوات في السجن جوفاء يا سيدي، وقد قالوا لي إني سأعتاد ذلك كله، ولكني لم أفعل، لم يكن هناك حتى ولا نافذة قريبة أرى منها الدنيا الحية وأحس بذلك أني أنا أيضا حية.
فؤاد (يمسك ذراعها بانفعال) :
انسي هذا الماضي، امسحيه من لوح الذاكرة، كأنه لم يكن، سأعيد إليك هنا الشعور بالحياة (ثم لنفسه)
ولكن كيف؟ كيف؟ لقد كانت زوجتي - بل أنا - أولى بهذه القدرة.
فريدة :
إني الآن أحب الشوارع والسير فيها، والنظر إلى الرائحين والغادين، ولا سيما في الليل والأنوار تلمع وتخطف، أحب الليل على الخصوص بعد الحرية؛ لأنه كان في السجن رهيبا.
فؤاد :
لا تأسفي، إنك ما زلت صغيرة والدنيا كلها أمامك والحياة كلها احتمالات، ولعل السعادة مدخرة لك بقدر ما شقيت. (تميل عليه قليلا كأنها غير عامدة)
وأنا على الأقل مستعد أن أبذل ما يدخل في وسعي.
فريدة (بسرور) :
أتعني ما تقول يا سيدي؟ (فؤاد يضع ذراعه حول كتفها ملاطفا، ويميل بوجهه لينظر في وجهها.)
فريدة :
أتعدني مجرمة يا سيدي كالذين حكموا علي؟
فؤاد (مترددا) :
مجرمة؟! يظهر أن القرائن كانت ضدك، ولهذا حكموا عليك، ولكن أنسى هذا كله، لقد مضى وانقضى، وأنت الآن حرة.
فريدة :
ولكن الزلة التي جرت كل هذا هل هي في رأيك يا سيدي ... أعني هل تعدني فتاة فاسدة؟
فؤاد :
هي زلة الشباب، وجريمة ذلك الوغد إذا كانت هناك جريمة، على أنه معذور؛ فإنك جميلة.
فريدة (بابتسام) :
أصحيح هذا يا سيدي؟ ألا أزال جميلة حتى على الرغم من سجني؟
فؤاد (مربتا كتفها) :
كالزهرة.
فريدة :
أتظن أن لي أملا في الحياة بعد الذي كان؟
فؤاد :
أمل؟ لم لا؟ تعالي، لا تدعي طيف الماضي، ظله الأسود يرتمي على نور الحاضر (يربت لها كتفها)
الأيام قلب يا فريدة؛ هذا أنت كنت بالأمس سجينة، معذبة، مقيدة وأنت اليوم تنعمين بالحياة والحرية والعطف والشباب.
فريدة :
ولكني خادمة يا سيدي.
فؤاد :
تعالي يا فتاتي المسكينة، لا يشق عليك أنك ... أ ... خادمة، هذه خطوة، وبعدها تتفتح الدنيا، تتزوجين وتسعدين وتصبحين سيدة لبيتك، ولا يبقى شيء ينغص عليك، أليس كذلك؟
فريدة (وهي تميل عليه) :
شكرا لك يا سيدي. (يقبلها قبلة طويلة.)
فؤاد (مضطربا) :
إني آسف، لم يكن ينبغي ... تناسي ما حدث.
فريدة :
لماذا؟ ألم تعجبك قبلتي؟
فؤاد (يضحك ضحكة عصبية) :
لهذا أخاف.
فريدة :
لقد قلت أني جميلة، أليس كذلك؟ أم ترى كان هذا ...
فؤاد (وقد سمع أصواتا) :
هذه ليلى، أذهبي الآن، من هنا (مشيرا إلى الباب). (فريدة تتلفت وتخرج.)
فؤاد (يمسح فمه بمنديل ويسوي ثيابه) :
هذا لا يليق، ويحسن ألا يتكرر، لئلا تسوء العاقبة، وخصوصا بعد سجنها الطويل، على كل حال، يجب أن نتقي أن نقع في حبائلها، نعم، فإن لها لحبائل، وأن خيري لمعذور، فإنها تحسن التقبيل، تضع روحها في فمها. (يتلمظ ثم يمسح فمه بمنديل)
على أني لا أظنها تتعمد إيقاعنا في شركها، كلا، إنها مدفوعة إلى ذلك بغريزتها التي سجنت ثلاث سنين، نعم وأظن أن هذا تعبير دقيق، غريزتها هي التي حبست، فهي الآن تنفجر لأدني مس، وهذا يضاعف وجوب الحذر. (تدخل ليلى وتغلق باب الشرفة وراءها.)
فؤاد (لنفسه) :
هذا نذير.
ليلى (بلهجة جافة) :
سأطلب إلى هذه الفتاة أن تفارقنا.
فؤاد (ملاينا) :
تفارقنا؟ أليست هذه مفاجأة؟
ليلى (متهكمة) :
طبيعي أن يشق عليك فراقها فجأة! ولكنها هي أيضا فاجأتنا.
فؤاد (موجسا) :
ولكن مستقبلها ...
ليلى (مقاطعة بلهجة الزراية) :
أحسب مستقبل سواها لا يهم.
فؤاد (محاولا الابتعاد بها عن الخطر) :
ولكن طردها معناه إلقاؤها في الشارع؛ فما لها أحد كما تعلمين، ومن الذي يقبل سجينة اتهمت بقتل طفلها؟!
ليلى (ساخرة) :
صحيح، صدقت، من ذا يمكن أن يقبلها غيرنا؟!
فؤاد (بلهجة المعلم) :
إذا كانت قد أخطأت أو أساءت أفلا يحسن أن تعطيها فرصة؟ كلميها، انصحي لها؛ إنها فتاة مستعدة.
ليلى (باحتقار وصوت عال) :
أنصح لفتاة لا تزال شفتها متقدة من حرارة التقبيل؟!
فؤاد (يضطرب جدا) :
أ ... أ ... أ ... أ ... أظن أن هذا أ ... أ ... (ويعجز).
ليلى (بلهجة مرة عميقة) :
لقد رأيت بعيني هذه (تشير بإصبعها إلى عينها وهي تحدق في عينيه).
فؤاد (وهو فزع لاعتقاده أنها رأته هو) :
لقد كان هذا يا ليلى بدافع من العطف لا ال ... لا ال ... وأقسم لك.
ليلى (صائحة) :
أووو! وأنت أيضا؟! (تضحك ضحكة عصبية).
فؤاد (يسخط على نفسه ويدرك أنه اعترف فيتمشى بسرعة وهو يقول لنفسه) :
غبي سخيف، هذا أنا.
ليلى (تجر كرسيا وتضعه له في وسط الغرفة وتستند إلى ظهره) :
يحسن أن تجلس، ماذا يهم؟!
فؤاد :
إني أعترف أني أسأت السلوك، ولكن هذا كان برغمي.
ليلى (ساخرة) :
قبلتها مرغما؟! هذا جديد (تضحك).
فؤاد (بشيء من الغضب) :
هل من الضروري لسعادتك أن تمزقيني، إني أؤكد لك أني آسف ولم أكن أقصد.
ليلى (تتنهد وتقول جادة) :
لقد حرصت دائما في الثلاث سنوات الماضية ألا أشعر أحدا من أهلك أو من معارفنا، أننا على غير وفاق، ولست تستطيع أن تحصي علي زلة واحدة، يجب أن تعترف بهذا، وأنت تتغفلني دائما وتدور من وراء خديعتي، وأخيرا تجيء بقاتلة وترغمني على قبولها، وتكرهني على إحسان معاملتها كأنها سيدة شريفة، وتدعي أنها كانت تتأهب لأن تكون معلمة، وأن أبويها ماتا وهي في السجن، والباقي أنت تعرفه، قتلت ابنها، تصور هذا! آه لو كان لي ابن! إذن لما حفلت لنفسي شيئا.
فؤاد :
ألا تدعين هذا الكلام الفارغ، ثم إنها لم تقتل ابنها، وأنت تظلمينها.
ليلى :
طبعا طبعا، ومن أولى بأن يدافع عنها منك. (يهم فؤاد بالكلام فتشير إليه بكفها وتستمر بصوت هادئ.)
تعبت ولم يبق لي جلد على الاحتمال، ثلاث سنين على هذا النحو، أظنني استوفيت نصيبي.
فؤاد :
إن هذا ...
ليلى (مقاطعة) :
دعني أذهب في سكون وسلام؛ فلن تنقصك النساء كما أرى.
فؤاد :
هل جننت؟
ليلى :
إني جادة وأعتقد أني لن أموت جوعا، (تزم شفتيها وتضغط أسنانها)
نعم لن أعدم وسيلة للعيش.
فؤاد :
وسيلة؟ وسيلة؟ أي وسيلة؟!
ليلى :
أو ... و... أعيش على نحو ما. أتظن أني سأتسول أو أحتاج لي العمل (تهز كتفيها)
ولم لا؟ أي حالة خير من هذه.
فؤاد :
لقد جننت على التحقيق.
ليلى :
للضرورات أحكامها، وماذا يهم ما دامت اليد نظيفة، والقلب طاهرا والنفس سليمة؟!
فؤاد :
أنت تكسبين رزقك؟! كيف؟ ماذا تعرفين؟ ماذا تستطيعين؟
ليلى :
أحاول.
فؤاد :
هراء، أتتوهمين أني يمكن أن أسمح لك بأن تعرضيني لهذا الهوان، بأن تفسدي حياتنا كلينا، كلا، (يشور بيديه وهو يمشي بسرعة وهو يقول):
زوجتي تعمل؟! تشتغل؟! أو هوهو!
ليلى :
لن أكون زوجتك، وماذا يعنيك من أمري بعد أن تطلقني؟!
فؤاد :
أطلقك؟
ليلى :
نعم ونقطع كل صلة، وتنبت كل رابطة، ولو وقفت ببابك مبسوطة اليد أستجدي اللقمة لوسعك حينئذ أن تأمر بطردي من غير أن تخجل.
فؤاد (مذهولا) :
ماذا جرى لك!
ليلى :
حقيقة أني أتكلم جادة؛ فليس لنا أطفال، ليس هناك من يخجله أن له أما فقيرة، لو كان لنا أطفال لاختلف الحال، كنت حينئذ أضطر أن احتمل من أجلهم وأتعزى بهم، وأنصرف عنك إليهم، ولا أبالي كيف تكون أنت، ولكن حياتنا لم تثمر، ولن تثمر، والصبر على هذا محال، وسيكشف المستور من أمرنا ويعلم به القاصي والداني.
فؤاد (مقاطعا) :
ليس هذا رأيي ما دمنا نحسن السلوك.
ليلى (متهكمة) :
ما دمنا نحسن السلوك؟! (تضحك)
كما تحسنه أنت؟
فؤاد :
اسمعي، لقد قلت إني آسف، ولا أزال آسفا، فدعينا من هذا، دعينا مما مضى.
ليلى (متهكمة) :
طبعا، وماذا يهمك من هذا الذي مضى؟! ماذا تبالي أنت كيف تعذبت، أو أتعذب؟! أدع ما مضى؟! وأي أمل هناك في المستقبل حتى أدع ما مضى، وكم ماضيا في العمر؟! (تهز رأسها وتتنهد)
لا يا صاحبي، لقد قضي الأمر بيننا.
فؤاد :
ألا تسمعين لداعي العقل؟!
ليلى :
داعي العقل! يا للسخرية! داعي العقل أن أبقى في بيتك ضحية لك لينشرح صدرك؟! من تمام معنى الحياة أن تكون لك فريسة؟! من كمال النظام في حياتك أن تكون في بيتك امرأة تتلقى قضاءك فيها بالصبر عليه والشكر لك؟! بقائي معذبة زينة لك؟! مفخرة؟! دليل على أنك رجل؟! أنك سيد، آمر، مطاع، تشقي من تشاء وتسعد من تشاء، ولا معقب لحكمك، ولا راد لأمرك، وسبحانك وتعاليت؟!
فؤاد (مبهوتا) :
لقد جننت بلا شك.
ليلى :
ألست معذورة إذا جننت؟! ألست من لحم ودم؟! هل أعصابي من الحديد؟! أكنت تظن أن لي كيانا من الحديد، وأني مبنية من الصخر؟!
فؤاد :
لا أدري ماذا أصابك، لم أعد قادرا على الفهم، إن هذه نوبة جنون ولا شك، ومن أجل حادثة، حادثة تافهة أيضا، ولكني لم أكن أتصور أن تفعل الغيرة كل هذا.
ليلى (ضاحكة بصوت عال) :
غيرة؟! أتقول الغيرة؟! من أي شيء بالله؟! هيه!
فؤاد :
لست أريد أن أكون فظا، فإني أعلم أنك غير سعيدة كائنا ما كان السبب.
ليلى :
لماذا لا تسرحني؟ ماذا تصنع بي؟ أي سعادة لك واقعة أو مأمولة؟! أي خير تفوز به أو ترتجيه من بقائنا هكذا؟! أهذه حياة؟!
فؤاد :
ولكن يا ليلى ...
ليلى (مقاطعة) :
اسمع أنت لداعي العقل، إن حياتنا معا عقيمة، لا تثمر إلا هذا النزاع المستمر، لا أنت راض عني ولا أنا راضية بك، وليس لبقائنا هكذا أية نتيجة، غرق الزورق وانتهى الأمر.
فؤاد :
لا، لا، إني ما زلت ...
ليلى :
هذا عبث ، تعام عن الواقع، ماذا أجدت حياتنا هذه السنين الطويلة؟! أين ثمرتها؟! التعاسة المستمرة، العقم، شقاء كل منا بصاحبه، ألهذا ينبغي أن نبقى؟! أهذه هي الغاية المنشودة؟! كنت أفهم أن أظل أحتمل لو كان هناك عوض عما أقاسي، وأي عوض هناك؟! وأنت لماذا تمسكني؟
فؤاد :
إني ما زلت يا ليلى ...
ليلى :
ما زلت، إن هذا تودد رخيص جدا، ثم إنه تكلف ثقيل لا يليق أن تكره نفسك عليه.
فؤاد :
ولكن يجب أن تواجهي الحقائق.
ليلى :
ألا تراني أواجهها؟ ألست أحاول أن أفتح عينيك عليها؟ ألست أسألك: في أي سبيل ولأية غاية أحتمل أنا هذا العذاب الدائم، وأصبر على هذه الحياة العقيمة؟ وليتها عقيمة فقط، ليتها فوق ذلك، لم تكن حافلة بما يمزق الأعصاب ويتلف النفس ويعصف بالعقل، وأنت لماذا تحتمل وتتشدد؟
فؤاد :
لأن هناك حقائق أولية يجب أن نواجهها، حقائق لا يسعني كرجل رشيد يقدر التبعات التي في عنقه أن أغفلها، نحن زوجان يا ليلى، ألا تدركين ما تنطوي عليه هذه الحقيقة الضخمة، زوجان، ألا تفهمين؟
ليلى :
نعم، ولكن كلمة واحدة تخرج من فمك تحل العقدة وتفصم الرابطة وتصدع القيود وتحط التبعات عن كاهلك، وإذن أنت حر وأنا حرة، وإذن أنت تستطيع أن تلتمس السعادة في حيث ترجوها، وإذن أنا أخطو بلا ألم وأحيى بلا عذاب حتى مع الفقر.
فؤاد :
أنت مسئولة مني ولا سبيل إلى الإغضاء عن هذا فاعرفيه جيدا.
ليلى :
نعم ذكرني بأني يتيمة، وأني فقيرة معدمة، وأني محتاجة إليك، وأنك تمسكني لتحميني من الموت جوعا.
فؤاد :
لا أقصد هذا، اسمعي يا ليلى.
ليلى :
حقيقة، أني أتكلم جادة، أواجه الحقائق كما تريد، أليس كذلك؟
فؤاد :
إن هذا كثير.
ليلى :
ولكنه الحقيقة، حتى ابن خالتي وهو قريبي الوحيد الباقي لا تسمح لي أن أراه، منعتني من رؤيته لأنه كان ... هيه! كان ... كان ونحن في صبانا يحبني ويرجو أن يكون لي زوجا (بأسف)
ليتني تزوجته.
فؤاد (ينتفض) :
اسمعي يا ليلى إن هذه مكايدة لا تطاق.
ليلى :
أظننا تكلمنا كثيرا (تتجه نحو الباب).
فؤاد :
يجب أن نتفاهم، هل تظنين أننا أول زوجين لم تثمر حياتهما ما كانا يرجوان من السعادة والنسل؟
ليلى (باستخفاف وضعف) :
لا إذا كان كل الأزواج مثلنا فما أخيب آمالهم!
فؤاد :
ولكنهم يصبرون ويحتمل بعضهم بعضا، فلماذا؟
ليلى (بتهكم) :
علمني!
فؤاد :
إنه الشعور بالواجب.
ليلى :
آه! لقد كنت ناسية.
فؤاد :
إنك تستفزين الحجر.
ليلى :
هل تطلب مني أن أظل أحتمل هذا الموقف، موقف امرأة لا هي متزوجة ولا هي غير متزوجة، ولا أمل لها في أكثر من ذلك، إن هذا جحيم، ويجب أن نعترف بذلك.
فؤاد :
أظن أني بعد أن اعتذرت أستحق أ ... أ ...
ليلى :
وأنا؟ لا استحق شيئا لأني امرأة؟!
فؤاد :
لقد قلت لك أن الأمر إنما كان ...
ليلى :
أو ... و... إن هذه الفتاة إنما كانت القشة التي كسرت ظهر البعير، قشة لا أكثر.
فؤاد :
ولكن يا ليلى لا شك أن في وسعنا بعد أن تفاهمنا بصراحة أن نجعل حياتنا أصلح وأهنأ.
ليلى :
لا فائدة (تهم بالمضي).
فؤاد :
انتظري، إن هناك تبعات جسيمة (تدور على عقبيها وتقف مواجهة له)
إنك في عنقي وأنا مسئول عنك.
ليلى :
ألا يمكن أن تطرح هذه التبعة؟ ماذا يربطك بي؟! هيه؟ ليس لنا أولاد، أم ترى ينقصك العلم بهذا؟
فؤاد :
ولكن المسألة ليست هذه ...
ليلى (مقاطعة) :
المسألة؟ ما أكثر مسائلك وأقل جدواها!
فؤاد :
اسمعي يا ليلى، إني مستعد ... (يضع يده على كتفها).
ليلى :
لا، لا (ثم بعنف وهي تنزع نفسها)
لا.
فؤاد :
إذن أنت مصرة؟
ليلى (تلتفت إليه وهي خارجة) :
أولم تدرك هذا إلى الآن؟ (تخرج).
فؤاد :
إني أنذرك، لست أنوي أن أحتمل أكثر مما احتملت (خرجت ولم تعبأ به) . (يقف مبهوتا يفكر هل يتعبها أم ماذا يصنع، يتردد بين الأبواب ثم يعدل ويتحول إلى باب المكتبة وينحي الستار وينادي.)
فؤاد :
فريدة! فريدة! تعالي بسرعة. (ينزل الستار)
الفصل الثاني
(غرفة أثاثها من الطراز القديم، أرضها مفروشة بحصير، وفوق الحصير بساط مخيط، وهو عتيق وقد حال لونه في مواضع شتى وذهبت ألوانه وظهرت خيوطه ، وفي صدر الغرفة طنف يرتفع عن الأرض بمقدار نصف متر ويمتد خارجا عن البناء مثل هذا القدر، أما عرضه فمتران تقريبا، ونوافذه مربعة، وهي ثقوب من تعارض الأعواد بعضها على بعض، وعلى الطنف لقن أو شبه طست، فيه جرة على صورة إبريق وقلتان وكوز مكفأ على فم الإبريق، وحلوقها مغطاة بشاش مبلل، وعلى الشاش ليمونات لتثبيته، وتحت الطنف، على الأرض حشية بطوله لها مسندان، وتتوسطها وسادتان، والكسوة أحباس بيضاء تنتزع عند الحاجة للغسل، وإلى اليمين صوان (بوريه) للثياب، عليه مصباح بترول كبير وأدوات القهوة من فنجانات وموقد السبرتو ... إلخ، وإلى جانبه باب، وإلى اليسار باب ذو مصراع واحد، وهو مفتوح ومثبت بمترس مما يلي النجران (الخشبة التي يدور عليها العقب) وإلى يمين الباب عدة منافذ وإلى يساره كرسي من الخيزران.
الوقت: بعد الظهر.
حامد جالس على طرف الطنف، وساقاه ملتفتان، وكعب إحداهما على الحشية، ويسراه في جيب البنطلون، وهو في حلة رمادية قديمة ولكنها على هذا نظيفة، وعلى قدميه الجوربان دون الحذاء، ويرى على عتبة الباب صندلة يلبسها في البيت بدلا من الحذاء، وفي يسراه ورقة ينظر فيها ويقرأ بصوت خفيض لا يتبينه السامع.
تسمع أصوات المنادين على السلع المختلفة في الحارة من مثل الخضر والفواكه وما إلى ذلك.
تدخل عليه عجوز من قريباته تقيم معه وتقوم بخدمته، وهي أقرب إلى القصر منها إلى الطول، وإلى السمن منها إلى الهزال، وشعرها أبيض، وهي تلبس ثوبا مخططا ولكن خطوطه تشبه أفاويق السهم، وعلى رأسها منديل، وفي عنقها خيط يجتمع طرفاه في عروة ساعة تحفظها تحت ثوبها، وفي يدها سبحة سوداء.)
الحاجة (ترفع يمناها لتخلص السبحة مما علقت به في ثوبها) :
يا بني ارحم نفسك؛ بقينا العصر وانت لسه على لقمة الصبح!
حامد (يهز رأسه إلى أسفل) :
حالا، حالا. (ويخرج يسراه ويشير لها بأصابعه مجتمعة أن تتمهل، ويعود إلى القراءة.) (الحاجة تجلس على الحشية وترسل السبحة أمامها وتتمتم قليلا.) (حامد يمشي إلى الصوان ويفتح درجا يضع فيه الورقات ثم يعود ويجلس، ويمد جسمه ويتمطى ويتثاءب مخرجا صوتا كهذا: وووواه.)
الحاجة :
أجيب لك لقمة بأه؟
حامد (يضع كفه على كتفها ويردها برفق وهو يبتسم) :
ليس الآن.
الحاجة (تهز رأسها) :
ده موش كويس ده؛ تشتغل ازاي ويبقى فيك روح وجوفك فاضي؟!
حامد :
لا أستطيع أن أشتغل إذا كانت معدتي مكظوظة.
الحاجة :
لقمة خفيفة، حتة جبنة وشقة بطيخ تصلب بها روحك.
حامد :
ولكني لا أستطيع الأكل الآن؛ ليس لي رغبة، حتى يزول هذا الفتور يا حاجة.
الحاجة :
وبالليل تيجي وتترمي زي القتيل تقولشي إلا كان بيشتغل في الفاعل!
حامد :
ليتني كنت ذاك؛ إذن لأفدت الصحة على الأقل.
الحاجة :
متشوف لك يا بني شغلة ثانية، يعني جاك ايه من الهم ده كله؟
حامد :
وأي عمل آخر هناك؟!
الحاجة :
والله يا بني أي شغلانة أحسن من دي، لو عملت بتلاته جنيه بس تقبضهم آخر الشهر لبأت عيشتنا ندا، لكن اللي بيجيلك يركبه ألف عفريت؛ بييجي مقطع وكل حين ومين تلاتين قرش، أربعين قرش، خمسين، ريال، تؤ (تهز رأسها)
ما يمكنش الأمور تدبر كده يا بني؛ أديني عايزة أدبأ إرشين أجيب بهم شوية زبدة وهي رخية أبل ما تشد، لكن منين؟! إللي باخده منك ترجع تاخده تاني: يا حاجة والنبي أنا معزوم أبصر فين، يا حاجة عايز سجاير، يا حاجة مش عارف راسي بتلف وصدري طابئ معاكيش قرشين أجيب بهم اسمها إيه؟ سفريتة.
حامد :
أسبرين، أسبرين.
الحاجة :
أنا عارفة؟ وايش كان دراني؟! لا كنا نعرف سفريتة ولا عفريتة، بس نفسي ربنا يصلح حالك ويسهل لك وتبأى الإرشين تديهم لي مجمدين على بعض، كتار قليلين أهو على أد الحال؛ علشان يا بني تيجي تلاقي لقمة كويسة، أنجدلك فرشك، البيت عايز كتير يا حامد ولا فيش حاجة.
حامد :
أنا راض يا حاجة بما قسم لي، وكل ما أرجو هو أن يطيل الله لي عمرك.
الحاجة :
عمري إيه وهباب إيه يا بني؟! وحاخد إيه من طولة العمر؟! وأنا عاملالك إيه يعني؟! غرش انا قلبي عليك، ويقول: القرش الابيض ينفع في النهار الاسود؛ أقولكش؟ طيب اديني كل يوم اللي تقدر عليه: إرش، إرشين، خمس أروش، الموجود، أشيلهم لك، مين عارف؟ أهو تبقى تلاقيهم إن حصل حاجة كده ولا كده، وكمان يا بني اللي معاه الإرش تبقى عينه قوية وقلبه جامد، أما اللي جيبه فاضي يا حسرة عليه؛ لا حد يقبل منه لا هنا ولا عزا؛ أهو أنا لما طلعت احج كنت وحدي، واسمي برده ولية، ولكن وحياة رحمة والدك كانوا رجالة بشنبات يخدموني خدمة العبد للسيد، ليه؟ علشان إرشي معاي، أمال! ولما رقدت واللي جاني جاني بقوا حواليه، تقولشي أنا أمهم؛ سهرانين جنبي، ما فاتونيش أبدا؛ بالدور؛ دا ينام ودا يصحى، لحد ربنا ما من بالعافية، لو كنت بأه منفضة وإيدي مش عليهم دايما كنت زماني مت واتلقحت زي الكلبة في السكة (تتنهد)
إيه! نفسي ربنا يكتب لي حجة ثانية قبل ما اموت، وأزور النبي يا رب (ترفع كفيها مبتهلة ثم تخرج الساعة)
العصر وجب، اجيب لك لقمة بقى وبعدين اصلي. (تعيد الساعة وتنهض.)
حامد (مبتسما) :
لا بأس. (فتخرج)
ليلى (واقفة بمدخل الباب الآخر) :
هل أدخل.
حامد (متلفتا إلى مصدر الصوت وواثبا على قدميه) :
ليلى!
ليلى (داخلة تنساب) :
وجدت بابك مواربا فتشجعت واقتحمت الحصن.
حامد (ويداه في يدها) :
الحصن يا ليلى؟! كيف تقولين؟!
ليلى (بابتسامة وضاءة) :
أو فررت من الحصن هذا أصح.
حامد (رافعا حاجبيه) :
أهو ذاك؟
ليلى :
نعم هنئني.
حامد :
اجلسي أولا، (ينظر إلى الباب الآخر)
اسمحي لي بلحظة، حالا، نصف ثانية. (تشير إليه برأسها موافقة فيخرج.)
ليلى (تدير عينها في المكان) :
أخشى أن أكون قد اخطأت؛ ولكنه قريبي الوحيد، وأنا أجهل الدنيا، فالطبيعي أن ألتجئ إليه أول ما أتجه؛ هو أولى بذاك من صواحبي - إن كان للمرأة الشقية في هذه الدنيا صواحب؛ أولى من ثريا مثلا؛ فإن لها زوجا هو ابن عم زوجي كما نبهتني.
حامد (داخلا) :
ألا تزالين واقفة؟!
ليلى :
زيارة مباغتة، هيه؟ لم تكن تظن؟
حامد (مقاطعا) :
بل كنت أدرك أن هذا اليوم آت لا ريب فيه.
ليلى (وهي تجلس) :
هل سمعت شيئا؟
حامد (يجلس أيضا جاعلا الكرسي بين رجليه ومتكئا بذراعيه على مسنده) :
لا (ممطوطة) ، ولكن هذا الرجل، أ ... أ ... كيف أقول؟ أ ... (رافعا عينيه إلى السقف)
إن التعبير يخونني ولكنك فاهمة، أليس كذلك؟
ليلى :
لقد كنت كأني في قبو رطب تحت الأرض؛ لا نور ولا شمس ولا حرارة، سجن، وزوجي هو السجان، وياله من سجان! يحلو له أن يخايل الفريسة بالمفاتيح.
حامد :
ولكنك أمكنك أن تفري.
ليلى :
لم أفر، خرجت أمامه ولم يصدق أني ذاهبة إلا بعد أن رآني أجاوز عتبة الباب إلى الطريق، خرجت هكذا كما تراني (تلمس بيديها ثيابها من فوق ثدييها)
فأبت له الكبرياء أن يخرج ورائي؛ كلا هذا لا يليق بمقامه، يكفي خادمة، نعم أرسل ورائي فريدة، لا أظنك تعرفها؛ هي فتاة كانت مسجونة لأنها أتهمت بخنق طفلها، فجاء بها لأنه كان يعرف أباها، فما كادت تجيء حتى انهال عليها هو وابن عمه تقبيلا وعناقا.
حامد :
لا!
ليلى :
رأيت ابن عمه بعيني، واعترف هو لي بلسانه، ومع ذلك أبى أن يطردها، ما علينا، بعثها في أثرى لا لتناديني وتردني، بل لتتعقبني ولترى أين أنا ذاهبة ثم تعود فتخبره، أليس هذا بديعا؟ وحسنا صنع إذ لم يطردها؛ فلولاها لوقعت في مشكل لا حل له.
حامد :
آه، غريب!
ليلى :
نعم كنت أكره هذه الفتاة وأحتقرها، ولكني بدأت أحبها، لما خرجت من البيت كنت أمقتها ولا أطيق أن أراها، وكانت هي في الواقع خاتمة الأسباب التي دفعتني إلى التمرد وإن لم تكن أقواها، غير أني لم أكد أقطع مائة متر حتى صفا لها قلبي وانقلبت مدينة لها بجميل.
حامد (يرفع حاجبيه مستغربا) :
إنه تحول سريع يا ليلى!
ليلى :
ولكنه طبيعي؛ فقد أدركتني وقالت: «لقد كلفني سيدي أن أتبعك لأعرف إلى أين تذهبين»، فسألتها لماذا تخبرينني؟ قالت: إن ضميري لا يرتاح إلى هذا التكليف. قلت: وماذا تنوين أن تصنعي. قالت: «لقد تبينت في الأيام التي قضيتها في البيت أنك شقية وأنك - معذرة يا سيدتي - سجينة؛ أعني أن روحك هي السجينة المعذبة، وقد جربت السجن يا سيدتي فلك منى العطف، ولست أستطيع أن أكون معه عليك، نعم أنا مضطرة أن أؤدي واجبي لأني تعلمت الطاعة هناك، ولكني أريد أن أجعل أدائي للواجب على نحو يريح ضميري؛ وذلك بأن أقدم لك خدمة.» وأقول لك الحق يا حامد: إني لم أفهم ولم أشعر بارتياح، وأوجست خيفة من لباقة الفتاة وظننتها ماكرة؛ فقد كان كل ما أعرفه عنها لا يبعث على الثقة؛ لا تاريخها ولا سلوكها، ولكني أصغيت إليها فنبهتني إلى أني خرجت بلا ثياب غير التي على بدني، وأن الاقتصار على ذلك غير معقول، واقترحت أن تذهب بي إلى المحطة، محطة السكة الحديدية، وأن تتركني هناك في الاستراحة ريثما تعود إلى البيت وتجيئني ببعض ما لا غنى لي عنه، ألا ترى أنه اقتراح حكيم؟
حامد :
بلا شك.
ليلى :
نعم، فما كان يمكن أن أنتظر في عرض الطريق ولا في قهوة، وحاجتي إلى الثياب بديهية جدا وإن كنت من فرط اضطرابي قد غفلت عنها.
حامد :
وهل عادت إليك كما وعدت؟
ليلى :
نعم، غابت نحو ساعة كدت أجن فيها من القلق والوساوس ثم عادت بحقيبتين، هما هناك (تشير إلى خارج الغرفة)
وقد ضحكت جدا، وسعني أن أضحك لما قالت لي إنها أفهمته أن هذا ضروري حتى تستطيع أن تصحبني من غير أن تثير شكوكي، وأن تعقبي بغير ذلك يكون صعبا وقد يفشل، وأغرب ما سمعته منها أن الرجل في ظنها لم يكد يفهم حرفا مما قالته له، وأنها كانت كأنها تخاطب رجلا غائبا عن رشده. من هذه؟ (ناظرة إلى الباب).
الحاجة :
ياختي بسم الله الرحمن الرحيم.
حامد :
أوووه! هذه الحاجة، قريبة لي من بعيد، لا أظنك تذكرينها، ألا تعرفين من هذه يا حاجة؟ بنت خالتي، ليلى.
الحاجة (تتقدم إليها وتعانقها وتقبلها على الخدين) :
باسم الله ما شاء الله، ما تأخذينيش يا بنتي، فين من أيام ما كنتي لسة عيلة أد كده (تشير بيدها قريبا من الأرض)
فين الدنيا، رحتي وجه غيرك ، استريحي يا بنتي، أهلا وسهلا، يا ألف مرحب، خدي راحتك يا حبيبتي، صدقي بالله يا بنتي روحي بتنطف عليك، ياما قلت لحامد: يا بني نفسي اطل عليها، وهو يمطوحني، وبعدين قال لي: اقول لك يا حاجة، جوزها ما بيحبش حد من ناحيتها يروح عنده، أمت - اقول لك الحق - نفسي شالت، أنا كان قصدي اشوفك، واسمه برده ليكي أهل بيسألوا عليكي، مش مقطوعة من شجرة، لكن ما دام الحكاية كده إيه، الحكم لله! وما دام يا بنتي مستريحة ومتهنية أدي كل اللي إحنا عايزينه، الرجالة مش كلهم زي بعض، استريحي ياختي، يا حبيبتي، يا بنت الحبيبة (تربت لها كتفها)
أعمل لك فنجان قهوة؟
ليلى :
لا تتعبي نفسك، لا داعي.
الحاجة :
قهوة العصر تعدل دماغك بعد المشوار ده. (تنظر إلى حامد نظرة لها معناها)
ولا أجيب لكو لقمة، تصبيرة لحد العشا؟ مش ياختي بإذن الله ناوية تباتي عندنا الليلة.
حامد :
نعم، الليلة، وغدا، كل ليلة.
الحاجة (تنظر من حامد إلى ليلى) :
مرحبا بك يا بنتي، لكن هو جوزك مسافر؟
ليلى :
أخذت إجازة طويلة.
الحاجة :
مش فاهمة يا بنتي، قصدك إيه؟
ليلى :
قصدي، قل لها يا حامد.
حامد :
مختلفة مع زوجها، ستقيم معنا.
الحاجة :
بيتك يا بنتي ومطرحك، لكن جوزك؟ فيه حاجة مزعلاك؟
ليلى :
هذا شيء شرحه يطول، سأخبرك بكل شيء في الليل.
الحاجة :
بس يا بنتي بيتك؟ ليه ياختي تخرجي من خلف جوزك.
حامد :
دعيها الآن يا حاجة.
الحاجة :
يا بني قلبي عليها، تخرب على نفسها؟
ليلى (لنفسها) :
آه! ماذا أقول؟ كيف أجعلها تفهم؟
الحاجة (تدنو منها وتربت لها كتفها) :
لأ يا بنتي، لأ يا بنتي، خليكي عاقلة وطولي بالك، صهيني ياختي، الواحدة لها مين إلا الراجل بتاعها.
ليلى :
وا أسفاه! (تتنهد)
إيه.
حامد :
دعيها يا حاجة، إنك لا تعرفين.
الحاجة :
معلهش ياختي، ما تخديش على خاطرك مني، أنا بس قلبي عليك، نهايته، إللي في علم الله يكون (تتجه نحو الباب).
حامد :
لا تلتفتي إليها، ثم ماذا؟
ليلى :
لا أرى أحدا يعذر أو يفهم. (تخرج منديلا من المثبنة تمسح به جبينها)
حر.
حامد :
اخلعي هذا المعطف، أو تعالي خففي عنك.
ليلى :
لا داعي لهذا.
حامد :
كيف؟ أتريدين أن ...
ليلى :
نعم، اسمع حكايتي أولا.
حامد :
ولكن هذا غير معقول.
ليلى :
على الترتيب، كل شيء في وقته؛ القصة أولا ثم الموضوع وأخيرا تجيء النتيجة.
حامد (يبتسم) :
كما تشائين.
ليلى :
أشكرك، أين بلغت في حكايتي.
حامد :
جاءتك بالحقائب.
ليلى :
سأختصر حتى لا أملك.
حامد :
لا، لا، بالتفصيل.
ليلى :
الباقي قليل، جاءت معها بشيء من الخبز واللحم البارد، وأكرهتني على الأكل في الاستراحة وأسلمتني ما وجدته مبعثرا من حلي، لم تستطع أن تحمل إلي كل الحلي؛ لأن أكثرها - الغالي منها - في خزانته هو، وسألتني إلى أين أقصد لتخبره، كان هذا شرطها، ولتستطيع أن تتصل بي عند الحاجة أيضا، فقلت إلى بيتك أولا ثم لا أعلم أين أذهب بعد ذلك.
حامد :
أولا وآخرا يا ليلى، ليس لك مكان إلا هنا.
ليلى :
سنرى بعد المناقشة، وإذا كنت ستبدأ بالإصرار فإن الكلام يكون عبثا.
حامد (يضحك) :
أمرك إذن، وإن كنت لا أرى نتيجة أخرى.
ليلى :
المسألة هي أني لا أريد أن أرجع إليه.
حامد :
أبدا؟ في أي حال؟
ليلى :
بأي ثمن لا أرجع.
حامد :
ولكنه إذا لم يطلقك يستطيع إرغامك على الرجوع.
ليلى :
كيف؟ وبأي وسيلة؟
حامد :
له فيما أعتقد أن يطلبك إلى محل الطاعة.
ليلى :
محل الطاعة؟ ما هذا؟
حامد :
هو اصطلاح؛ يقيم الدعوى الشرعية عليك فتقضي له المحكمة بذلك.
ليلى (تنهض) :
تكرهني المحكمة؟!
حامد (ناهضا مثلها) :
نعم مع الأسف.
ليلى :
برغمي؟!
حامد :
أظن ذلك، على الأقل ما دام أن ليس لك دفاع وجيه مقبول شرعا.
ليلى :
أهو ظن أم أنت واثق؟
حامد :
الحقيقة أني لا أعلم، سأستشير عالما أو محاميا ثم أخبرك.
ليلى (وهي تتلفت) :
يجب أن أختفي، حالا.
حامد (ضاحكا) :
أوهوووو! هذه قضية تستغرق شهورا إذا لجأ إلى هذه الطريقة، وأظنه من الطراز الذي لا يحجم عن هذا.
ليلى (كالمفكرة) :
محل الطاعة! وأين يكون هذا؟
حامد (ضاحكا) :
بيته مثلا إذا كان مستوفيا ما يشترطه الشرع، ولكن يجب أن تتناسي هذا الآن؛ لا تدعي التفكير فيه ينغص عليك السرور بخلاصك مؤقتا.
ليلى :
نعم، ولكن محل الطاعة! إني أكرهه، أمقته.
حامد (مداعبا) :
تكرهين محل الطاعة؟
ليلى :
هو، هو.
حامد :
لا تفكري فيه، سنرى ماذا نستطيع، كل شيء له وقته كما تقولين، والآن سأدخل هذه الحقائب (يلبس الصندلة ويخرج).
ليلى (لنفسها) :
محل الطاعة؟! أيمكن أن يلزمني القضاء ب ... ب ... بمعاشرة من أمقت؟! وأي دفاع عندي غير أني أكرهه؟! هذا غير معقول، لا يمكن، لا يمكن، ولكن إذا أمكن، ماذا يكون العمل؟ هل أعود إلى ذلك السجن؟ سجن الروح والجسم معا، مستحيل، مستحيل، الموت ولا هذا، نعم الموت أفضل وأرحم.
حامد (داخلا بالحقائب وماضيا بها إلى الداخل) :
سيوجعك رأسك إذا فكرت في هذا، دعيه إلى أوانه (يخرج).
ليلى :
مستحيل أن أرجع إليه مهما حدث، مهما لاقيت. (تدخل فريدة بسرعة وهي تلهث وتتلفت.)
فريدة :
سيدتي!
ليلى (مقبلة عليها) :
ماذا جد؟ ما لك؟
فريدة (وهي تلتفت كالمحاذرة) :
لقد جاءوا، ورائي.
ليلى (بفزع شديد) :
ويحي! (ترى حامدا داخلا فتفزع إليه محتمية به)
احمني، أسرع، لقد جاءوا.
حامد (وذراعه حولها، موجها الخطاب إلى فريدة) :
عفوا لم أكن أدري أن هنا غيرها. (لليلى)
لا تخافي، فلن يخطفك أحد. (يسمعون وقع أقدام فيربت لليلى كتفها، فريدة تتراجع حتى تلصق بالحائط.)
حامد :
شدي أعصابك، لا تخافي شيئا (يخطو نحو الباب ثم تقف ليلى تلمح الداخلين فتتماسك).
ثريا (داخلة) :
لقد قطعت السلالم قلبي، أعوذ بالله من علو درجاتها.
خيري (داخلا في أثرها) :
معذرة يا ليلى، ليس لهجومنا هذا مسوغ في الحقيقة، ولكن الرجل جن، لم يعد في رأسه عقل، هذا رأيي.
ثريا (لزوجها) :
ألا تحتفظ برأيك حتى يطلب منك إبداؤه.
خيري :
ولكنه مجنون، وليس هذا رأيا في الحقيقة إنما هو الواقع.
ثريا :
ألا يمكن أن تدعني أتكلم، هل جئنا هنا لنتيح لك فرصة لإبداء رأيك في ابن عمك، شيء غريب والله (تلتفت إلى ليلى)
كل هذا بسببك.
ليلى (بجفوة) :
لماذا جئت.
ثريا (مصدومة من سوء المقابلة) :
ألا يمكن أن نكلمك وحدك. (حامد يبدأ يتحرك.)
ليلى (تشير إلى حامد بيدها ناهية له عن الخروج) :
كلا.
ثريا :
قد يقال ما لا يحسن أن يسمعه.
ليلى :
إذن لا تقوليه.
ثريا :
ولكن يا ليلى ...
ليلى (منفجرة) :
إنه ابن خالتي وأولى بالحضور من زوجك.
خيري :
هذا حق، وإذا كان أحد لا محل له هنا، فهو أنا، ولقد عارضت في هذه الحملة ولكنها جرتني، ولا أدري ما شأنها في الحقيقة.
ثريا (لخيري) :
ألا يمكن أن تسكت.
خيري :
أسكت كيف وأنا أراكم جميعا مجانين؟ ثم إنكم تجرونني معكم فيجب أن أتكلم.
ليلى (لثريا) :
لماذا جئت؟ ماذا تبغين مني؟
ثريا :
أن تعودي.
ليلى :
إلى ذلك الرجل؟
ثريا :
الرجل؟! إنه زوجك يا ليلى.
ليلى :
وإذا لم أعد.
ثريا :
لا تكوني حمقاء، إنه زوجك وليس لك سواه.
ليلى (بأسف ومرارة) :
زوجي؟! (تهز رأسها).
خيري :
تعالي يا ليلى، ما هي شكواك؟
ليلى :
لست أشكو شيئا.
خيري (مخدوعا) :
هذا حسن، لقد بدأنا نتفاهم. (لثريا)
لا يمكن أن تتفاهم المرأة مع المرأة. (لليلى)
إذن ماذا يمنعك أن تعودي؟
ليلى :
إني أريد أن أتنفس.
خيري :
لا شك، لا شك، شيء طبيعي، وكلنا نريد ذلك، ولكن ألا يمكن أن تتنفسي هناك؟ أعني ألا يوجد سبب آخر؛ سبب يكون أقوى، سبب يقنع؟
ليلى :
لقد قلت لك إني لا أشكو ولا أتعتب، وما الفائدة من الشكوى أو العتاب؟! هو نفسه يعترف بأن لا فائدة، كل ما أبغي هو أن يدعني وحدي، فليطلقني.
ثريا :
كلام فارغ! ألا ...
خيري (مقاطعا زوجته) :
تمهلي يا ستي، إن الله مع الصابرين، ولكن إذا لم يكن لك شكاة معينة فأنى أخشى أن يقال إن هذا طلب غير معقول، وأنك متعنتة، أو أن لك بواعث أخرى لا علاقة لها بزوجك، معذرة؛ فإني إنما أنبهك إلى الحقائق التي يجب أن نواجهها.
ليلى (بابتسامة) :
الحقائق؟!
خيري :
نعم فإن الناس لا يعبئون إلا بها، ولا ينظرون إلا إليها.
ليلى :
أليس سببا كافيا أننا غير متحابين ولا متآلفين؟
خيري :
ولكنه هو لا يبدي ملالا أو ...
ليلى :
هو؟ آه طبعا، أما أنا (تهز رأسها)
فلا أهم.
خيري :
أنت مخطئة، إنه على أتم استعداد لأن يجيبك إلى أية رغبة.
ليلى :
أية رغبة؟
خيري :
نعم.
ليلى :
ما أكرمه! ولكني ليس لي سوى رغبة واحدة.
خيري :
وما هي؟
ليلى :
أن لا أرى وجهه.
خيري :
أوووه!
ثريا :
ألا تقولين كلاما معقولا؟
ليلى :
أليس كلامي معقولا؟!
ثريا :
لم أعد أدري ماذا أقول.
ليلى (ببرود) :
إذن لا تقولي شيئا (ثم بحرارة)
إنك سعيدة تنعمين بحب زوجك، فكيف تستطيعين أن تعذري أو تفهمي.
الحاجة (تطل برأسها) :
يا نهار! ودول إيه كمان دول! (تختفي بسرعة). (يلتفتون إلى مصدر الصوت فلا يرون شيئا.) (حامد وليلى يبتسمان.)
ليلى (بابتسام المتهكم) :
هل تريدون أن تقولوا شيئا آخر؟
ثريا :
إنه مستعد أن يتناسى ما كان.
ليلى :
يا له من كريم طيب القلب!
ثريا :
تناسي أنت أيضا.
ليلى (بتنهد) :
أتناسى أني أموت شيئا فشيئا؟! أتناسى أني كالشجرة التي لا تجد من يسقيها أو يرويها، والتي تذبل وتذوي وتموت منها كل يوم ورقات؟! أتناسى أن لي حياة واحدة لا ثانية لها؟! ليت لي حياتين، إذن لضحيت بواحدة، إذن لجدت عليه بالأولى على رجاء أن تكون الثانية أسعد وأرغد، ولكن حياتي الواحدة تتمزق، وليس للعمر من يرفوه كما ترفى الثياب القديمة، ليس للحياة من يرقع فتوقها كما ترقع الأحذية البالية، أتناسى؟! ألا تفهمين؟! إني أقسم أني لو اعتقدت أن هناك طيفا من الأمل، ظلا من الرجاء في ذرة ضئيلة من الوفاق - ولا أقول من الحب - لعدت الآن، وهل تظنين أنه يسرني أن أهدم بيتي على رأسي؟! هل تتوهمين أني أغتبط بأن تتقوض حياتي؟!
ثريا :
ولكن يجب أن تفكري؛ ليس لك مورد للحياة، ماذا تستطيعين؟! كيف تعيشين؟! إني أدرى منك بالدنيا، ويشق علي أن أتصور ما قد يصيبك، بل ما لا بد أن يصيبك.
حامد (يتقدم خطوة) :
سيدتي، اسمحي لي أن أقول ...
ليلى (تقاطعه وتشير إليه أن يسكت، فيتراجع) :
وإذا عدت؟
ثريا :
عين العقل، فكري قليلا يا ليلى، لا تندفعي.
ليلى :
أهذا تقديرك؟
ثريا :
تقديري وتقدير كل عاقل.
ليلى :
آه يا ثريا، إنك معذورة إذا لم تعذري؛ أتدرين كم عمري الآن؟
ثريا :
أنك ما زلت صغيرة وللشباب جمحاته، أنا أكبر منك فصدقيني أو استمعي لنصحي.
ليلى :
إني في السادسة والعشرين وهو في الخامسة والثلاثين.
ثريا (غير فاهمة) :
ليس بينكما تفاوت كبير، كلاكما في عنفوان شبابه.
ليلى (كالناظرة إلى المستقبل) :
الآجال غيب.
ثريا :
لماذا تتكلمين هكذا؟ أأنت مريضة؟
ليلى (مستمرة) :
نعم الآجال غيب، أستار غيب الله كثيفة، ولكنا قد نعيش عشرين أو ثلاثين سنة أخرى، لم لا؟! هذا ممكن.
ثريا :
لا أدري ماذا جرى لك.
ليلى (تهز رأسها) :
عشرون أو ثلاثون سنة على منوال الثلاث الماضية، فكري في هذا يا ثريا، ثلاثون سنة من الشقاء معه.
خيري (بتأثر شديد) :
إن هذا مؤلم، مؤلم جدا، ولست أستطيع أن أحتمل أكثر من هذا. (فريدة تكفكف عبرتها.)
ثريا (لزوجها) :
ألا تسكت؟! لماذا تأبى إلا أن تحشر نفسك؟!
خيري :
أسكت كيف؟! ألا تسمعين؟! ألا تبصرين؟! أليس لك خيال؟! إن قلبها يتمزق من هول ما يقاسي ومن هول ما يتوقع أن يقاسي أيضا، لقد كنت أظنك كامرأة أقدر على فهم موقفها وتقدير شعورها.
ثريا (لزوجها) :
لقد عاشت معززة مدللة في كنف زوجها، فكيف تعيش الآن؟ كيف يمكن أن يسمح لها بأن تمرغ نفسها واسمها واسم زوجها في حمأة الفاقة والهوان؟! ألا ترى هذا المكان؟! ألا تستطيع أن تدرك أنها الآن عند مفترق الطرق وأن إحداها يؤدي إلى الوبال.
ليلى (بمرارة) :
إحداها يؤدي إلى الوبال؟ أيها من فضلك؟
ثريا :
ارجعي يا ليلى، إنك غريرة لا تعرفين الدنيا.
ليلى (لحامد) :
بأي شيء تفتدي كرامتي وتصونني من الوبال الذي تنذرني إياه ثريا؟
حامد (يتنحنح) :
كأنك لا تعرفين.
ثريا (منفعلة) :
أهذا مكان يليق أن تعيش فيه زوجة فؤاد بك؟! (حامد الذي كان مستندا إلى الصوان يعتدل، خيري يشور بيديه ساخطا.)
ليلى :
لا تقولي: زوجته، ولكن قولي: امرأته.
خيري (لحامد) :
آسف وأعتذر. (حامد ينغض رأسه بلا كلام.)
ثريا (غير ملتفتة إلى ما تبودل من الاعتذار والقبول) :
هل جننت؟ هل فقدت كل إحساس بالكرامة والواجب؟ (ليلى تنفجر بضحكة عصبية.)
خيري :
أعوذ بالله! إنك تقطعين قلبي.
ليلى (تكف عن الضحك) :
الإحساس بالواجب! ما أبدع هذا! علي واجب لكل إنسان، وليس علي واجب لنفسي؟! هذا بديع، أنا ليس لي قيمة ولا حق، أطالب بكل شيء، ولا يطالب هو بشيء؟! ولكني لست دمية، لست منحوتة من الحجر، إنما أنا امرأة حية، امرأة لا تطمع في أكثر من أن تحيا كامرأة، لا تستطيع أن تغير أنوثتها.
خيري :
بالله، لقد خنق الرجل قلبها.
ثريا :
خيري! خيري!
خيري (ثائرا) :
خيري! خيري! ماذا تبغين من خيري؟! هل عليك عفريت اسمه خيري؟! قطع الله دابر خيري وابن عم خيري، ألست أنثى مثلها؟! دعيني أتكلم، لا بد أن أتكلم، نعم فليس يسعني إلا أن أقول أ ... أ ... أ ... لقد انعقد لساني، ولا أستطيع أن أقول شيئا (يشور بيديه ساخطا ويهز رأسه ويخرج).
ثريا :
لم تبق لي حيلة؛ وأنت عنيدة وستندمين.
ليلى (تستعيد تماسكها) :
أهذا رأيك؟
ثريا :
أرجو ألا تنهمكي (مشيرة إلى الباب)
هذا زوجك، شأنك معه (تخرج).
فؤاد (واقفا في مدخل الباب) :
ليلى!
ليلى (ترفع حاجبيها) :
ها!
فؤاد (داخلا) :
إنك لا تدركين ما تصنعين؛ تعرضينني للفضيحة.
ليلى :
طلقني؛ فلا يبقى لك بي شأن ولا يلحقك مني عار.
فؤاد :
هل تتوهمين أني مستعد أن أتركك تغيبين عن عيني؟!
ليلى (متهكمة) :
عن عينك؟! يا للمحب المشغوف!
فؤاد :
إنك زوجتي.
ليلى :
ليس أمام الله.
فؤاد :
ما جئت لأناقش في هذا؛ فإنه فوق المناقشة، بل لأنذرك سوء العاقبة.
ليلى :
تالله ما أرق قلبك!
فؤاد :
نعم سوء العاقبة، وقد كنت أنتظر من هذا الرجل أن يرد إليك عقلك.
ليلى :
ابن خالتي من فضلك.
فؤاد :
لا تنقصني معرفته، وقد كان يجدر به أن يكون له موقف آخر، كان ينبغي أن يقنعك بأنك ترتكبين حماقة وأن الذي تقدمين عليه جنون.
حامد :
أرجو المعذرة، ولكن يجب أن تكون منصفا يا فؤاد بك .
فؤاد :
منصف يعني ماذا؟ هل تريد أن تقول إن عملها هذا يجوز؟! أن لها أن تهجر بيتها وتهدم حياتي وتفضحني وتجعل أمرنا أحدوثة؟!
حامد :
إنما أريد أن أقول إن كليكما الآن مهتاج مضطرب الأعصاب، فمن الحكمة أن تدع لها ولنفسك أيضا وقتا للتفكير الهادئ، اتركها يوما أو أثنين، لا ضرر من هذا مطلقا، ثم بعد ذلك؛ بعد أن تهدأ الأعصاب وتسكن النفوس وتخمد الثورة يمكن أن تتكلم، وستكون هنا كأنها في بيتك تماما، بل أكثر.
فؤاد (مندهشا) :
أتقول: اتركها؟! أتركها في بيت رجل كان يطمع أن يتزوجها ولكن التوفيق أخطأه؟!
حامد :
ماذا تقول؟
ليلى (لزوجها) :
أشكرك على هذا الأدب.
فؤاد :
إنه عرضي، وأنا رجل صريح.
ليلى :
لي أنا هذا الكلام؟!
حامد :
إنك زوجها أما أنا فابن خالتها، كلمة جمعتك بها وكلمة تفصلك عنها، ولكني أنا من لحمها ودمها؛ فهو عرضي قبل أن يكون عرضك.
ليلى :
لو أني كنت كغيري من النساء لمزقت لك عرضك وأنت جاهل وراض أيضا، وما أكثر النساء اللواتي يفعلن ذلك وأزواجهن في غفلة! وأنا أحفظ عفتي وأصونها وهذا جزائي؟! طبعا، من يدري؟! لعلك رأيت خادما يقبلني (تضحك)
ربما.
فؤاد :
ألم تشبعي من الكلام في هذه الحكاية؟
ليلى :
أنت الذي يخطئ، ويزل، ومع ذلك تجيء وتملأ فمك بالكلام عن العرض؟! ألا تخجل من نفسك؟!
حامد :
يا سيدي اسمع نصيحتي، دعها أياما حتى تقر هذه الفورة.
فؤاد :
لا أستطيع أن أترك زوجتي تلقي بنفسها إلى التهلكة وأنا واقف أتفرج.
ليلى :
ما أعظم هذه الرجولة التي لا تستنكف مع ذلك أن تحاول أن تجر امرأة على رغم أنفها!
فؤاد (منتفضا) :
ألا تكفين عن هذا التهكم؟!
ليلى :
إذا كان يسوءك كلامي فاذهب وعد من حيث أتيت.
فؤاد :
تعالي معي.
حامد :
يا سيدي إن هذه الطريقة لا تجدي، بل أخلق بها أن تزيد الحالة سوءا، فدعها أياما.
فؤاد :
إنها زوجتي ولي عليها الطاعة.
حامد :
ولكن هذا العنف لا لزوم له، من الممكن أن يحدث التفاهم بهدوء في وقت آخر.
فؤاد :
قلت لك إنها زوجتي، وإذا كنت ألجأ إلى هذا الذي تسميه عنفا فإنه لخيرها؛ القسوة لازمة أحيانا، ماذا يكون مصير الأسرة إذا سمح الرجال لزوجاتهم أن يخربن البيوت لغير علة مفهومة، ضع نفسك مكاني.
ليلى :
لو كان مكانك لما حدث شيء من هذا، إذن لعشنا سعيدين على الرغم من الفاقة.
فؤاد (يهيج ويضطرب) :
ألا تنوين أن تقفي عند حد في هذه المكايدة؟ إنك تدفعينني إلى الالتجاء إلى أقسى الوسائل، وهذا إنذار مني لك، وأقسم بالله لئن لم تطيعي وتعودي من تلقاء نفسك وحدك، فلأعيدنك بكرهك مسحوبة على وجهك.
ليلى :
افعل ما بدا لك.
خيري (في مدخل الباب) :
ألم تفرغ بعد؟! هل تريد أن نظل ننتظر طول النهار في الطريق تحت الشمس المحرقة حتى تتعب حضرتك من الكلام؟
فؤاد :
لقد فرغت.
خيري (مقاطعا) :
الحمد لله، لعلك استرحت، تفضل. (يخرجان.) (ليلى تقف ناظرة إلى الباب الذي خرج منه ثم تهتز بحزن وتبدو للناظر كأنها تهم بأن تسقط على الأرض من فرط الأعياء والتداعي. حامد يلحظ ذلك فيدنو منها ويحيطها بذراعه فتستند عليه وتغمض عينيها مستريحة إلى حنو لمسته، وبعد هنيهة تتماسك وتتشدد.)
ليلى (بتنهد عميق) :
إيه!
حامد (وهو لا يزال يطوقها) :
تشجعي.
ليلى (ترفع إليه عينها في بطء) :
تعبت يا حامد.
حامد :
طبعا، ولكن تصبري.
ليلى :
لقد أنصفني خيري، أليس هذا منه كرما؟
حامد :
ومن الذي لا ينصفك من هذا الجنون؟!
ليلى :
وبكت فريدة عطفا علي، ألم تلحظ ذلك؟
حامد :
لم يكن بالي إليها، ولكن لا غرابة؛ فإن اللص كثيرا ما يكون كريما وقاطع الطريق شهما ذا مروءة، والقاتل رحيما، وليس في الدنيا نفس كلها خير أو كلها شر.
ليلى (ترفع إليه وجهها) :
لو كنت مكانه يا حامد أكنت تفعل فعله؟
حامد (تعلو وجهه سحابة) :
يا له من سؤال!
ليلى :
لا تهرب من الجواب.
حامد :
أوبك حاجة إلى السؤال يا ليلى؟!
ليلى :
معذرة يا حامد، لم أكن أقصد أن أنبش آمالك المقبورة، ولكن قل إنك تفهم وتعذر.
حامد :
ليلى!
ليلى :
نعم قل إنك تعذر، فقد مات قلبي تحت الضلوع؛ هنا (مشيرة إلى قلبها)
لا شيء؛ فراغ.
حامد (وقد نسي نفسه) :
آه لو كان الحب يحيي الموات (يهز رأسه ثم يتنبه)
تشجعي، لن تكابدي مثل هذا مرة أخرى.
ليلى :
هي جناية أبوي، ليس لي فيها ذنب؛ هما زوجاني منه، ومع ذلك أنا وحدي أتحمل النتيجة.
حامد :
لا تفكري في هذا؛ فإنه عبث.
ليلى (مسترسلة في تفكيرها) :
أما هو فلا يخسر شيئا، يستطيع أن يتعزى بألف امرأة، يستطيع أن يتزوج الآن، يخرج من هنا ويعقد لنفسه على غيري إذا شاء، أما أنا ... إيه!
حامد :
دعي هذا يا ليلى؛ إنك لست المرأة الوحيدة في هذه الدنيا، ومن أدراك أن ليس بين الرجال من هم أشقى من النساء؟! إن السعادة حظوظ يا ليلى؛ قسم وأرزاق.
ليلى (تنظر إليه متأملة كأنها تذكرت شيئا) :
حامد!
حامد (يرفع حاجبيه مستغربا نظرتها) :
نعم.
ليلى (بحنو وأسف) :
ألا تزال تحبني؟
حامد (متجلدا ومغالطا) :
يا فتاتي المسكينة، حتى هذا المجنون يحبك وهو لا يدري.
ليلى (مطرقة كمن تحدث نفسها) :
كنت أخشى.
حامد :
ماذا؟
ليلى (مشيرة إليه بعينها) :
هذا. (حامد يهز رأسه كأنه لا يفهم.)
ليلى (شارحة) :
إنك لا تزال تحبني، كنت أعتقد أنك سلوت، تلهيت.
حامد (متشددا على الرغم من اضطرابه) :
أوووه! دعي السرور بنجاتك ينعشك ويشبع في كيانك الشعور بالحياة والشباب.
ليلى :
مسكين.
حامد :
من؟
ليلى :
أنت.
حامد :
لماذا تقولين هذا؟
ليلى (مواصلة تتبع خواطرها) :
مسكين، فقدت جنتك وفقدت حواءك، وحواء ماذا كسبت؟! كسبت هذا الهم الثقيل، هذا العقم في الشباب، هي أيضا خرجت من الجنة، ولكنها لم تخرج إلى الأرض، بل انتقلت إلى الجحيم، ولعل هذا يعزيك.
حامد (مضطربا) :
ليلى!
ليلى :
إني شقية، أشقي حتى الذين أتصل بهم، أنكأ لك الجرح ثم أتركه ينزف، (ترفع رأسها فجأة)
هل اندمل قط؟!
حامد (يغالط ويحيطها بذراعه) :
تعالي أريحي رأسك المتعب.
ليلى (بشرود) :
كلا.
حامد :
كلا! ماذا تعنين؟
ليلى (وهي لا تزال شاردة) :
لو كنت رزقت منه طفلا (ترفع رأسها فجأة إلى حامد)
حامد ! أتظن أني جديرة بشكر الله أم بندب حظي؟
حامد :
عن أي شيء تتكلمين؟ (يضع كفه على جبينها)
أوووه! يجب أن تستريحي حالا.
ليلى (وهي لا تزال شاردة) :
لا أدري، ومن أين لي أن أعرف؟ (ترفع عينها إلى السماء)
لماذا حرمتني هذا العزاء ... المحتمل، العزاء الذي تفوز به كل امرأة، أحط امرأة؟
حامد :
ماذا أصابك؟ هل جننت؟
ليلى (تقهقه) :
هل جننت؟ إنك تذكرني به، هذه ألفاظه بعينها.
حامد :
إني آسف ولكني أعني ...
ليلى :
أعرف ما تعني، دعني وحدي، ولكن كيف؟ كيف؟ أنى يتاح لي هذا؟
حامد :
إن هذا جنون مطبق، ليس لك مكان إلا هنا.
ليلى :
أعرف هذا، ولكني أحب أن أكون وحدي، أحب أن أشعر أن المكان كله لي؛ أني حرة، أفهمت؟
حامد :
بالطبع أنت حرة، من الذي يقيدك؟! ولكن هذا بيتك.
ليلى (بضعف وتهافت) :
تعبت، ولم تبق في ذرة من القوة، ولكن إذا جاءوا ليأخذوني؛ أعني، أ ... محل الطاعة.
حامد (ضاحكا بتكلف) :
أوووه! تعالي، أين نحن من هذا؟
ليلى (وهو يسير بها نحو الباب) :
حامد!
حامد (يقف) :
ماذا يا ليلى؟
ليلى :
هل تستطيع أن تحميني منه؟
حامد :
الله معنا، تعالي.
ليلى :
يا مسكين، يا مسكين، لم يكن ينقصك هذا العبء.
حامد :
بالله عليك لا تتكلمي هكذا.
ليلى :
دعني أقبلك، ولم لا؟! ألست ابن خالتي؟!
حامد (يعطيها خده) :
بالطبع، إنك أختي.
ليلى (تقبله) :
يا محروم.
حامد :
ليلى، بالله عليك.
ليلى :
كم سنة؟ وما حاجتي إلى السؤال؟!
حامد :
أوووه!
ليلى :
قبلني أنت أيضا كما قبلتك. (حامد يحنو عليها ويهم بتقبيل جبينها ورأسها بين يديه.)
ليلى :
لا لا لا، من فمي يا محروم. (يسدل الستار وهما متعانقان.)
الفصل الثالث
(حجرة الجلوس التي ظهرت في الفصل الأول في منزل فؤاد. يسمع من ناحية غرفة المائدة - إلى اليسار - لغط. ثريا تظهر في مدخل الباب.)
ثريا (وهي داخلة) :
كلا، بل لا بد من بقائنا؛ هذا ضروري، وكيف يمكن أن نتركهما وحدهما في موقف كهذا؟! (خيري يدخل في أثرها.)
ثريا (مستمرة) :
إن أبسط واجبات المجاملة تستدعي بقاءنا.
خيري :
الأمر في نظري على العكس؛ فإن خير ما نستطيع أن نفعله هو أن ندعهما وحدهما، نتركهما يصفيان ما بينهما من الحساب على انفراد؛ لأن كلا منهما خليق أن تأخذه العزة أمامنا وأن يأنف أن يلين لصاحبه في وجودنا، ولكن من المحتمل بل من المرجح إذا تركناهما أن يكونا أكثر حرية في الكلام، في العتاب، لا يخجل أحد منهما حينئذ أن يتحبب إلى الآخر أو يعتذر إليه أو يستعطفه.
ثريا :
كلام فارغ.
خيري :
ثم إني لست من أنصار التدخل بين الأزواج، ما شأننا نحن؟! ماذا نستطيع أن نصنع؟! إنها أمور شخصية جدا، وليس من حقنا أن نحشر أنفسنا فيها، هذا رأيي.
ثريا :
ولكن هذا لا يعد تدخلا منا في أمورهما؛ إنما نريد أن نبقى لنساعدهما؛ لنوفق بينهما.
خيري (مقاطعا) :
نساعدهما؟! كيف بالله نساعدهما؟! هيه؟ إنه موقف قد تحل عقدته قبلة في الوقت المناسب، في أوانها، بحرارة ب ... باشتياق، هيه، كما أقبلك دائما، قبلة كهذه قد تحسم الخلاف وتحل الإشكال وتمسح الماضي وتستل من الصدر كل ما يجيش به من بواعث السخط والنقمة، فكري في هذا، فكري أن الموقف قد يحتاج إلى هذه القبلة، قد ينقذه أن يلين فؤاد ويتذلل ويتضرع ويستثير عطفها ويحرك مروءة نفسها، فكيف يمكن أن يحدث هذا أمامنا؟! إن وجودنا سيكون عقبة، حائلا دون التصافي، لو كان الرأي لي لأخليت البيت حتى من الخدم، لأعطيتهم اليوم إجازة حتى لا يشهدوا سيدتهم يجيء بها البوليس مرغمة.
ثريا :
إجازة للخدم؟! إنك تهذي، أين ذهب عقلك؟!
خيري :
لا أعلم أين ذهب، سلي نفسك عنه، ثم إن بقاءنا محرج لي أيضا.
ثريا :
محرج لك! ولماذا؟!
خيري :
لست أطيق أن أشهد هذا الموقف.
ثريا :
هل من المروءة أن تخذل ابن عمك؟!
خيري :
لست أراك تفهمين؛ إن العقدة هي موقف ليلى، فؤاد منتصر ظافر، أما ليلى فمهزومة، فهي المحتاجة إلى ما يهون عليها ذل الموقف، فأيهما أولى بأن يخفف وقع هذا الإذلال، أن نبقى أو أن نختفي؟ أنا أقول يجب أن نختفي .
ثريا :
لست أوافق.
خيري :
إذن ابقي وحدك، أما أنا فسأجلو عن البيت.
ثريا :
بل يجب أن تبقى معي.
خيري :
إن إعادتها إلى بيت زوجها الذي فرت منه إذلال لها ولا شك، وهي حساسة جدا، وسيكون وجودنا مدعاة لمضاعفة شعورها بهذا الإذلال، أظن هذا بديهيا.
ثريا :
إنها هي التي جرت على نفسها هذا، كان ينبغي أن تكون أعقل من ذلك.
خيري (مقبلا عليها وعلى وجهه أمارات الدهشة) :
هل تريدين أن تبقي لتقولي لها هذا الكلام؟!
ثريا :
ولم لا؟! إنها الحقيقة مهما بلغ من مرارتها.
خيري (يشور بيديه) :
إن هذا لا يطاق، لا يكفيها أن تراها تعود بكرهها، مقهورة، مغلوبة على أمرها، بل يجب أيضا أن تستقبلها بكف على وجهها، شيء جميل جدا! منتهى الحكمة!
ثريا :
ما أشد عطفك عليها!
خيري :
بالطبع أعطف عليها، ضعي نفسك مكانها، تصوري أني أرجعتك إلى بيتي بقوة البوليس.
ثريا :
كيف تجرؤ أن تقول هذا الكلام؟
خيري :
ألم أقل لك أن مجرد التخيل يستفزك، فكيف لو وقع لك ما وقع لها.
ثريا (بغضب) :
ألا تريد أن تكف عن هذه الوقاحة.
خيري (مندهشا) :
وقاحة، إنما أحاول أن أساعدك على تصور الموقف الذي ستكون فيه ليلى، فأي بأس في هذا؟!
ثريا :
لست أريد هذه المساعدة، فادخرها لمن يطلبها.
خيري :
لم أعد أفهم شيئا، يا ستي تصوري ليلى.
ثريا (مقاطعة) :
أرجو أن تسكت، يكفي ما قلت.
خيري (باستغراب) :
وماذا قلت؟
ثريا (بحدة) :
ما سر هذا العطف كله على ليلى؟! هيه!
خيري :
المسألة بسيطة جدا؛ لأنها مسكينة.
ثريا :
وما شأنك أنت؟! ماذا يعنيك من كونها مسكينة أو غير مسكينة؟!
خيري (يضرب كفا بكف وهو يتمشى) :
شيء غريب والله، ولماذا تريدين مني أن أبقى إذن إذا كان الأمر لا يعنيني، وبالطبع لا يعنيك أنت أيضا؟
ثريا :
من أجل ابن عمك.
خيري (مندهشا) :
ابن عمي! شيء جميل.
ثريا :
لقد كنت أظن أن ابن عمك أولى بعطفك.
خيري :
ابن عمي، ابني عمي، لقد صدعت رأسي بابن عمي هذا، إنها مصادفة لا قيمة لها.
ثريا :
مصادفة؟ ماذا تعني؟
خيري :
أعني أن كونه ابن عمي مسألة كل الفضل فيها للمصادفة، ولست أرى أن هذا يلزمني أن أحتمل ما لا أطيق، أفرضي أن جدي لم يرزق من الأبناء إلا واحدا، أبي مثلا، ولكنها الصدفة، الصدفة وحدها شاءت أن يرزق ابنا آخر، وأن يكون لي عم له ابن، لقد كان من الممكن أن يكون ابن عمي بنتا.
ثريا :
ألا تخجل من هذا الكلام؟
خيري :
أخجل! لماذا؟! ماذا قلت مما يستوجب الخجل؟!
ثريا :
إنه من لحمك ودمك.
خيري :
لحمي ودمي؟! (يضحك ويتمشى)
وهل أنا الذي ولدته حتى يكون من لحمي ودمي؟!
ثريا :
هذا مزاح ثقيل، لا يطاق، ثم إنه قلة أدب.
خيري :
مزاح؟! إني جاد، جاد جدا، ومع ذلك ما شأنك أنت؟! هل أنت أيضا بنت عمه؟! شيء غريب!
ثريا (بحدة) :
إذا لم تكف عن هذا الكلام فإني سأخرج.
خيري (بتهكم) :
ألا تأخذينني معك.
ثريا (وهي هائجة) :
ماذا جرى لعقلك؟ هل جننت؟
خيري :
لا عجب إذا جننت، حقيقة لم يعد في رأسي عقل، ولي العذر (يلتفت إليها)
ومع ذلك هذه مسألة أخرى، والمهم الآن أن وجودنا يضر أكثر مما ينفع.
ثريا :
لقد شبعت من الكلام في هذا، فخل كلامك لنفسك (تتمشى).
خيري :
كلامي لنفسي؟ يعني ماذا؟ يعني أنظر إلى المرآة وأتكلم. (يسمع نفير سيارة، خيري يقف بغتة.)
خيري (باضطراب) :
يالله! لست أطيق أن أرى هذا الموقف.
ثريا (تقبل عليه وهي مغيظة) :
ألا تقول لي ما هو السر في إشفاقك على ليلى؟
خيري :
ليس هناك سر على الإطلاق؛ كل ما في الأمر أني لا أريد أن أكون في استقبالها، كلا.
ثريا :
ولكنا سنراها على كل حال، غدا أو بعد غد أو بعد أسبوع إذا لم نرها اليوم.
خيري (متهكما) :
يا للمنطق! (ثم بجد)
يا ستي المهم هو اللحظة التي تعود فيها، أما بعد يوم بعد يومين فإنها تكون قد هدأت وسكنت نفسها، وربما تكون قد رضيت، ولا يكون أحد قد رأى كيف عادت، ولكن في اللحظة التي تعود فيها وبقوة البوليس أيضا! يالله! إن هذا موقف عصيب، ولست أستطيع أن أحتمله، ولا أدري كيف تحتمله هي! مسكينة!
ثريا (بتهكم) :
يظهر أني بدأت أفهم.
خيري (بتهكم) :
بدأت تفهمين؟ الآن فقط؟ الحمد لله. (تهم ثريا بالكلام ولكن فريدة تدخل بسرعة وهي تقول بصوت كالهمس.)
فريدة :
لقد عادوا بها.
خيري (يقف جامدا وهو ينظر إلى زوجته) :
ألا تزالين مصرة على أن تشهدي تسليم البضاعة؟ حسن إذن.
ثريا :
إن كلامك ثقيل، مؤلم، ماذا أصابك؟
خيري :
أصابني؟ انتظري حتى يجيئني بك البوليس لتعرفي ماذا أصابني.
ثريا :
إنك وقح، هذا أنت.
خيري :
وقح؟ لماذا؟ لأني أذكرك بأنك امرأة كليلى؟ بأن ما يحدث لها الآن يمكن أن يحدث لك أيضا؟ لأني أنبه شعورك؟ (يدخل فؤاد، ويرى فريدة فيقول لها.)
فؤاد :
اذهبي إليها يا فريدة، ابقي معها، حاولي أن تهدئيها.
فريدة :
إنها هادئة يا سيدي.
خيري :
أعني ... لا بأس. اذهبي إليها (يلتفت إلى الباب)
تفضلوا. (تخرج فريدة من باب حجرة المائدة، يدخل ضابط برتبة اليوزباشي، ووراءه جندي يحمل ملفا فيه أوراق، الضابط يحيي خيري وثريا، خيري يرد التحية بجفوة، وثريا تشير برأسها إشارة خفيفة، الجندي يرفع يده إلى جبينه بالسلام العسكري فلا يعبأ به أحد.)
خيري :
تفضل يا شوقي بك. (يشير إلى الكرسي الذي بجانب المنضدة)
لقد أتعبناك، فمعذرة إنه حكم الظروف.
شوقي :
أشكرك. (ويذهب إلى المنضدة ويهم بالجلوس فيرى الباقين وقوفا فيعتدل ويظل واقفا.)
لقد كان ينبغي أن يكتب المحضر هناك، ولكنك لم تكن معنا.
خيري :
إني أشكر لك هذا التساهل، وأقدر روح العطف التي جعلتك تعفيني من الذهاب معك، ولكنه لا يوجد في الواقع فرق بين كتابة المحضر هناك، وكتابته هنا.
شوقي :
صحيح (يدير عينه فلا يرى إلا خيري وثريا فيقول):
أظن هذه غير السيدة. (يلتفت إلى فؤاد)
معذرة.
خيري (للضابط) :
لا يا صاحبي، لا تخلط بهذه السرعة.
الضابط (لخيري) :
عفوا يا سيدي.
خيري (مبتسما وهو يخرج سيجارة) :
لا شيء، لا شيء، إنما أخاف على القانون إذا غلطت، لا على زوجتي.
ثريا :
خيري!
خيري (لثريا) :
هل قلت شيئا؟! إنما خفت أن يغلط فنبهته إلى أنك بضاعة أخرى يملكها رجل آخر.
ثريا :
هل هذا وقت المزاح؟! غريب والله!
خيري :
وهل أنا أمزح؟! (يتمشى)
هل تريدين أن أتركه يغلط ويخلط بينك وبين ليلى؟ سبحان الله العظيم!
شوقي (لخيري) :
معذرة يا سيدي، ولكني لم أغلط وإنما ...
خيري (مقاطعا) :
حسن، حسن، يظهر أنها هي التي كانت تريد منك أن تغلط.
ثريا :
خيري! ما هذه الوقاحة؟!
خيري (يقف مبهوتا) :
وقاحة؟! (يهز رأسه بعنف)
حسن إذن! لن أتكلم (يضع يده على فمه).
فؤاد (للضابط) :
لا مؤخذه! إن ابن عمي دائم المزاح، فلا تحمل ما يقول على محمل الجد.
شوقي :
ألا يحسن أن نبدأ؟ إنها كلمة صغيرة لا تستغرق وقتا.
فؤاد :
نعم تفضل.
شوقي :
ولكن السيدة حرمك.
فؤاد :
لقد مضت إلى غرفتها، وأظن أنه لا داعي لحضورها، إن الانزعاج الذي أحدثه الحصار وتوزيع قوة البوليس حول البيت وفوق سطحه، ثم مفاجأتها بدخولك عليها مع المرشدة، كل هذا أثر في أعصابها، فهي محتاجة إلى الراحة.
شوقي :
لقد كنا مضطرين يا بك، ليس لنا حيلة، فإنها إجراءات رسمية لا مفر منها.
فؤاد :
طبعا.
شوقي (يشير إلى الجندي) :
تعال يا حماد. (يتقدم حماد بملف الأوراق ويحيي التحية العسكرية ويمد يده بالملف.)
شوقي :
كلا، اجلس هنا واكتب ما أمليه. (حماد يخرج أوراقا ويبحث فيها ثم يعيد بحثها وتقليبها ويطول ذلك منه.)
شوقي :
ما هذه البلادة؟! أسرع.
حماد :
خلاص يا افندم.
شوقي :
هات صورة الحكم.
حماد (يمد يده بورقة) :
أهه.
شوقي (يتناولها وينظر إليها ثم يعبس ويظهر الضجر) :
يا غبي إني أريد صورة الحكم الصادر من المحكمة الشرعية.
حماد :
ما هو ...
شوقي :
يا حمار (يهز الورقة ثم يرميها في وجهه)
إن هذا هو الطلب المقدم من البك إلى المحافظة. (حماد يعيد تقليب الأوراق.)
شوقي (بملل) :
هات (يجر الملف)
لست أدري من أين جاءوا بك؟ (يخرج ورقة بيضاء ويرمي بها إليه)
خذ، اكتب.
حماد (يسوي الورقة ويخرج قلما من أقلام سوان) :
أفندم.
شوقي : «إنه في يوم ... الساعة ...» أول السطر : «نحن اليوزباشي» ألا تعرف اسمي؟ يا للغباوة!
حماد :
يا افندم.
شوقي (مقاطعا باشمئزاز) :
حسن حسن، نحن اليوزباشي، لا يزال الغبي منتظرا أن أمليه اسمي؟
خيري :
وماذا تنتظر من آلة بلا إرادة أو عقل؟!
شوقي :
صحيح، نهايته؛ اعذرونا يا بك.
خيري :
ولماذا لا تكتب أنت وتريح نفسك؟!
شوقي :
لقد بدأ المحضر بخطه فيحسن أن يتمه بخطه (ويلتفت إلى حماد وينظر في الورقة التي أمامه)
اليوزباشي بالواو يا حيوان. (حماد يضطرب ولا يدري كيف يصلحها.)
لا تفعل شيئا، دعها كما هي، «اليوزباشي شوقي المعاون بقسم ... بناء على أوراق الحكم الشرعي مرفوقة: مر، فو، قة: واو، قاف، هه؛ مرفوقة، أيوه، لا تكتب أيوه يا بهيم؛ الواردة من المحافظة، قد انتقلنا ومعنا المرشدة (يلتفت إلى فؤاد)
خديجة إيه يا بك؟»
فؤاد :
خديجة أحمد.
شوقي (ينظر إلى الورقة) :
خلاص المرشدة؟ المرشدة إلى محل السكن، والمرشدة هي الست خديجة أحمد قريبة مقدم الطلب؛ ولمرض حضرته اكتفينا بالمرشدة، وهناك وجدنا الزوجة جالسة وسط أهلها، فأبلغناها الحكم الصادر ضدها والمطلوب تنفيذه عليها، واستلمناها ولم يحصل أي معارضة، وسلمناها للزوج في منزله، وتسلم الزوج الحكم بعد ذلك (لفؤاد)
تفضل يا بيه، (يعطيه الحكم)
ووقع بالاستلام وختم المحضر في تاريخه وساعته، وقررنا إعادته للمحافظة لإجراء اللازم.
خيري (بدهشة) :
إجراء اللازم؟ وماذا بقى بعد ذلك؟
شوقي :
مجرد إجراءات كتابية ليس إلا، حسب الأصول. (لفؤاد)
من فضلك يا بيه امض هنا، (فؤاد يتقدم ويتناول القلم وينظر إلى الضابط)
استلمت الحكم - إمضاءك، وهنا أيضا من فضلك، (لحماد)
هات (يتناول القلم والمحضر ويوقع باسمه).
شوقي :
لحماد اجمع أوراقك. (لفؤاد)
هل تسمح لي بالانصراف؟
فؤاد :
ألا تنتظر القهوة؟ ستجيء حالا.
شوقي :
ليس هذا وقتها، اسمح لي.
فؤاد :
أشكرك جدا يا شوقي بك، لقد أتعبناك، لا تؤاخذنا.
شوقي (ماضيا إلى الباب وهو يحيى خيري وثريا) :
العفو، العفو (يخرج حماد يلقي التحية العسكرية إلى الحضور ويتبعه حاملا ملف الأوراق.) (صمت قصير.)
خيري (يتقدم على مهل إلى فؤاد ويقول بلهجة المتهكم) :
والآن ماذا تنوي أن تصنع بالبضاعة (فؤاد يرفع إليه عينه مستغربا لهجته وتعبيره)
ألا تذهب لمعاينتها؟ (ثريا تدق كفا بكف وتتمتم بكلام غير مسموع وهي تتمشى)
من يدري؟! (يهز كتفيه)
ربما كان قد أصابها عطب أو تلف، أو ... على كل حال المعاينة واجبة.
فؤاد (بلهجة الجد) :
خيري! لا تزدني ألما، أرجوك؛ إنك لا تعلم ماذا احتملت، ولكني كنت مضطرا.
خيري :
طبعا طبعا، ومن ذا الذي لا يضطر إلى البوليس أحيانا؟! إننا جميعا في حماه.
فؤاد :
لا أدري، ولكني أظن أن هذا ليس أوان التهكم، إني أقول لك إني أتألم.
خيري (مقاطعا) :
بديهي ولكن هي؟ هي؟ ألا تظن أنها تألمت أيضا؟ أم لا حساب عندك لشعورها؟
فؤاد :
لست أعني هذا، ولكني ما سلكت هذا الطريق إلا لخيرها ومصلحتها.
خيري :
أظن أن مصلحتها شيء يعنيها وحدها، على كل حال لقد جاءوك بها، فهل تريد أن تدعها مرمية في غرفتها وأنت هنا تتمشى وتأتنس بنا، وتتمتع برؤيتنا وحديثنا؟!
فؤاد :
الحق معك، غير أني أظن أن الواجب أن تسبقني أنت وثريا إليها.
خيري (يجزع) :
أنا؟
فؤاد :
هل في هذا من بأس؟
خيري :
لا يا صاحبي! أني مستعف؛ لست كفؤا لهذا الموقف! عندك ثريا إذا شئت! إنها بطلة وليس لها أعصاب.
ثريا :
هذا جميل، جميل جدا، ألا تقول لي ماذا جرى لك اليوم؟
خيري :
ماذا جرى لي؟! إنها تسأل! (يشور بيديه)
ماذا يجري للعاقل حين يجد نفسه بين المجانين؟
ثريا :
أشكرك على هذا الأدب.
خيري :
العفو، أستغفر الله.
فؤاد :
ولكن يا خيري ألا يمكن أن تفعل شيئا على سبيل التمهيد؟
ثريا :
هذا واجب، ولقد لبثت نصف ساعة أحاول إفهامه وهو لا يريد أن يفهم، لا أدري ماذا أصابه؟
خيري (لثريا) :
تعالي. (لفؤاد)
وأنت أيضا تعال - ادنوا مني - (يدنوان فيضع كفا على كتف كل منهما)
إما أن أكون أنا مجنونا وإما أنكما أنتما المجنونان، نعم، لا يمكن أن نكون كلنا عقلاء.
ثريا (تنحي يده) :
أهذا كل ما تريد أن تقوله؟
خيري :
كلا، ولكني أريد أن أفهم معنى التمهيد الذي يقترحه فؤاد، تمهيد؟! تمهيد لأي شيء؟! بعد أن أعدتها بقوة البوليس واستعديت عليها القانون واستخدمت سلطانه وسخرت رجاله؟ لأي شيء بعد هذا تريد أن تمهد؟! هيه؟ أفهمني إذا كنت مجنونا، إيه، أرجع لي عقلي!
فؤاد (وهو مطرق) :
إن كل ما أعني يا خيري أن الموقف صعب، وأن علاجه يحتاج إلى الحكمة.
خيري (بصوت عال) :
صعب! إنه مستحيل يا حبيبي! لقد كنت أفهم التمهيد للوفاق قبل هذا؛ أما الآن فقد جعلتها حضرتك مسألة قوة، تفضل إذن.
ثريا :
إذن أذهب أنا إليها.
خيري (يهز كتفيه) :
إني أدعو لك بالتوفيق.
ثريا :
نعم فقد تكلمنا أكثر مما يجب، ولا يليق تركها هكذا. (تتجه نحو الباب.)
خيري (لثريا) :
بل يجب تركها (ثريا تقف).
فؤاد :
أرجوك يا خيري، دعها بالله تذهب إليها.
خيري :
وهل أنا أمنعها؟! إنما أريد أن أفهمكما أن الواجب أن تذهب أنت وتتضرع إليها وتتذلل وتركع أمامها (فؤاد يبدي علامة اشمئزاز)
نعم تجثو على ركبتيك هاتين، (يشير إلى ركبتي فؤاد)
وتستغفرها، وتنسى أنك انتصرت عليها، هذا هو الواجب، ولكنكما لا تريدان أن تسمعا، إه، شأنكما إذن، (لثريا)
اذهبي يا ستي وجربي، سترين.
فؤاد (يتمشى وهو يفكر) :
الحق أقول لك يا خيري، لقد كل ذهني، لم أعد أستطيع أن أفكر.
خيري :
لا أظنك فكرت أبدا، وإلا ...
ثريا :
ألا تكف عن هذا الكلام؟
خيري (بإشارة يأس) :
سأكف، اذهبي.
ثريا :
نعم سأذهب. (تعود فتتجه نحو الباب، باب غرفة المائدة وإذا بليلى واقفة في مدخله، وعلى فمها ابتسامة مرة، تراها ثريا فتقف، فؤاد يضطرب وينظر إلى باب الشرفة، خيري يقف محملقا.)
ليلى :
لا تتعبي نفسك (تدخل على مهل والابتسامة المرة على فمها)
هل انتهى المؤتمر؟ (تنظر إلى فؤاد)
هل رفعت الجلسة؟
خيري (يتقدم إليها ويتناول كفيها بعطف) :
ليلى، أرجو أن تثقي أني لم أكن من أعضائه، أو على الأصح أني كنت ولا أزال العضو المعارض.
ليلى (بابتسام خفيف) :
أعرف هذا، وأشكرك. (تسحب يديها وتتقدم إلى المنضدة.)
خيري (يدور وهو واقف في مكانه) :
إننا جميعا متألمون من أجلك، حتى هو وإن كنت لا تصدقين، ولكن الذي يخفف ألمنا، والذي يهون عليك أنت هذه المعاملة، أنه مجنون، هذا هو الواقع.
فؤاد (ينتفض ويواجهه) :
مجنون؟ أتقول إني مجنون؟
ثريا (بلهجة اليائس) :
لقد فقد وعيه.
خيري (لفؤاد) :
معذرة ولكنك لست مجنونا فقط بل مستشفى مجاذيب بأسره.
فؤاد (بغضب) :
إذا كنت تمزح فليس هذا وقته، وإذا كنت جادا فإنها ... نعم قلة أدب.
ليلى (لفؤاد) :
لماذا تغضب؟ هدئ روعك! إن هذا يوم انتصارك، أفلا تستطيع أن تحتمل أنت النصر كما أحتمل أنا الهزيمة في سكون؟
خيري (تبدو عليه دلائل الإعجاب) :
برافو.
فؤاد :
ليلى! إني أعلم أني كنت قاسيا! ولكن من الرحمة أحيانا أن يكون الإنسان قاسيا.
ليلى (بتهكم) :
هل تريد مني أن أبتلع هذه الفلسفة أيضا؟
فؤاد :
فلسفة! أين الفلسفة؟ إنها حقيقة عارية يعرفها كل إنسان، ولست أتفلسف ولا لي على ذلك قدرة، ولكني أبين لك أني قصدت إلى الخير من وراء ما فعلت، هذا كل ما أردته.
ليلى (بتهكم) :
الخير؟! الخير أن يتسور الجنود البيت ويحاصروه ويهجموا علي ويقرءوا علي حكما أنت تعلم أنه ظالم؛ لأني لم أدافع عن نفسي؟ نعم لم أرض أن أقدم دفاعا، صنت شرفك، أردت أن لا أفضحك أمام الناس، واحتفظت بحيائي وكرامتي وإبائي. الحكم؟ (تهز رأسها)
لو شئت لتقدمت وقلت، ولكني لست سوقية، إن أهلي كانوا كراما على الرغم من فاقتهم، وقد أحسنوا تربيتي، وأنت؟ أنت تجرني بالقوة؟! تسلط علي الجند يقتحمون علي البيت ويدخلون بلا استئذان ويجرونني إليك كأني مجرمة؟! الخير؟ أتقول الخير ولا تخجل؟
فؤاد :
ولكن يا ليلى، لم يكن لك حق فيما فعلت، تصوري.
ليلى (مقاطعة ومشيرة بيدها إليه أن يسكت) :
لا حاجة بك إلى الكلام، عملك ناطق لا ينقصه البيان.
فؤاد :
اسمعي يا ليلى، إن العبرة بالبواعث، والأعمال بالنيات، فإذا كانت الوسيلة جافة عنيفة، فإن الغاية كريمة محمودة.
ليلى :
لقد لجأت إلى القانون تسأله الإنصاف، وقد أنصفك، فاستغن عن إنصافي إذن، فلست مفتقرا إليه، حسبك إنصاف القوة، لو كنت أنصفتني لما احتجت إلى القانون، ولكنك اخترته فاقنع به.
خيري :
هذا صحيح، صحيح جدا، وعدل أيضا.
ثريا (لخيري) :
ما شأنك أنت؟! ألا بد أن تحشر نفسك؟! ألا تدعهما يتكلمان؟!
خيري (لثريا بدهشة) :
إيه، ولماذا إذن أرغمتني على البقاء؟ أليس لأقول شيئا؟! أما إنك لمدهشة!
ليلى (لخيري وثريا) :
لا تتنازعا من أجلي؛ فإني لا أستحق ذلك، إني أمة جارية.
فؤاد :
ليلى! لماذا تقولين عن نفسك.
ليلى (بزراية) :
أهو غير صحيح؟
فؤاد :
صحيح! كيف يمكن أن يكون صحيحا (يدنو خطوة)
لا تدعي مرارة نفسك تفيض على لسانك، هبيني مخطئا، فالإنسان يخطئ، وقد عدنا.
ليلى (متراجعة ورافعة راحتيها لتصده) :
لا لا، ابق حيث أنت، من فضلك. (يقف)
أشكرك، نعم أمة؛ ألست قد اشتريتني يوم أنقدت أبي مهري؟ يوم أفرحته بضخامة المهر وجسامة الثمن؟ لم يكن هذا مهرا (تضحك ضحكة خفيفة)
بل كان ثمنا للجارية التي يسمونها ليلى ويزعمونها زوجة (بابتسامة مرة)
زوجة! يا للسخرية!
فؤاد :
بالطبع أنت زوجة، فما هذا الكلام الفارغ؟ إن كل ما حدث لا يمحو صفة العلاقة بيننا ولا يغيرها، بل هو يؤكدها ويزيدها ثبوتا ويقوي رباطها.
خيري (مقاطعا) :
النظرية صحيحة في ذاتها، ولكن تقوية الرباط لا يا صاحبي.
فؤاد (بانفعال) :
قلت لك يا خيري إن هذا ليس وقته؛ أنت ترى حالتها النفسية.
ليلى :
حالتي النفسية؟ لقد بدأت تعنى بها وتفكر فيها، ولكن بعد الأوان يا صاحبي.
خيري (لفؤاد) :
هذا أيضا صحيح، وليس يسعني إلا أن أوافق على النظريات الصحيحة ...
ثريا (لخيري) :
بل أنت تلعب على حبلين؛ توافقه وتوافقها.
خيري :
ليس هذا ذنبي ... دعي أحدهما يغلط فلا أوافقه.
فؤاد :
أرجو يا خيري، أرجو، أرجو.
ليلى (بضحك فاتر كأنها تحدث نفسها) :
الزوجة الجارية، هل في هذا تناف أو تنافر؟ عقيلته المحترمة وأمته الذليلة ... زوجته المصون وجاريته المستعبدة، بديع هذا أليس كذلك؟!
فؤاد :
إن هذا كثير يا ليلى، ولو هدأت قليلا لتبينت أني ...
ليلى :
إني هادئة، فإذا كنت لا تصدقني فسل البوليس.
فؤاد :
ألا يمكن أن تتناسي هذا لحظة لنتفاهم بهدوء واتزان؟
ليلى :
لقد ردني إليك البوليس، أليس هذا صحيحا ؟ ردني إليك مرغمة بغير اختياري وأنفي في التراب، ويقول مع ذلك أني زوجة ولست جارية! هئ هي.
خيري (مشورا بيديه) :
لست أطيق أن أسمع هذه النبرات.
ثريا (لخيري) :
ثم ماذا؟
خيري (لثريا) :
إن صوتها باك، حزين، يقطع القلب.
ثريا (لخيري) :
ما أبلغك!
خيري :
إنها مسألة أذن حساسة.
ثريا :
ألا تعفينا من الكلام؟! إننا في غنى عن مساعدتك.
خيري (متلفتا إليها) :
إذن من الذي أبقيتني لأساعده؟ هيه؟
ثريا :
لا أحد، من فضلك اسكت.
فؤاد :
اسمعي يا ليلى.
ليلى (مقاطعة) :
لقد سمعت الحكم، ونفذوه أيضا، فماذا تريد أن أسمع فوق ذلك؟! جاءوا بي إليك مسحوبة على وجهي كما أنذرتني، لم أعد أملك من أمري شيئا، ليس لي في نفسي حق، أنا ملكك، أسيرة إرادتك ورهينة مشيئتك، ملكك، هيه، يعني إذا أردت ... (يحمر وجهها) . (في وقت واحد.)
فؤاد :
بالله عليك يا ليلى!
خيري :
مسكينة، مسكينة!
ثريا :
ليلى!
ليلى (ماضية بلهجة مرة على الرغم من الابتسام) :
نعم جارية، يعني إذا اشتهيت ضمة أو قبلة من خدي هذا (تلمسه)
أو وجنتي هذه (تلمسها بأصبعها)
أو من فمي (تضع سبابتها عليه)
أو إذا اشتهيت أن تعض شفتي أو تمص لساني.
فؤاد (بصوت خشن) :
ليلى! إن هذا كثير.
ليلى (تهز كتفيها) :
لم لا؟! ألست عبدة؟! أليس لك أن تصنع بي ما تشاء؟! طوبى لك، هذا أنا أمامك، ألست جميلة (تضحك)
لم يضع عليك مالك! كلا، فإنه في حراسة البوليس.
فؤاد (بعنف) :
وبعد؟ ألا تنوين أن تقصري؟
خيري :
مهلا يا صاحبي، كن حليما.
ثريا :
دعها تطرح عن صدرها العبء.
ليلى (غير ملتفتة إليهم ماضية في كلامها بلهجة الرزاية المرة) :
كلا لم يضع عليك الثمن الذي دفعته؛ فما زلت جميلة (بتأن)
قوام معتدل، خصر نحيل، ثدي ناهد، خد أسيل، لحظ فاتك، هدب طويل، محيا نضير كأنما غذته الورود، شفتان رقيقتان، شعر جميل، كل هذا ملكك، وما أقل الثمن وأرخص الجارية!
فؤاد وخيري وثريا :
ليلى!
ليلى (وقد بدأت تهيج على الرغم من لهجة التهكم) :
يا سيدي ومالك رقي! هل تريد أن أعرض عليك مفاتني؟ أتبغي أن أمشي أمامك وأتخلع؟ أو أن أرقص وأتثنى وأتقصع؟ أتحب أن أسقيك ريقي الحلو وأرشفك رضابي العذب؟ أتود أن أريح صدري على صدرك، وأنيم ثديي على قلبك؟ أتشتهي أن أضمك وأذوب بين ذراعيك؟ كل هذا لك بحكم القانون، بقوة البوليس، إذا نفرت من عناقك فمن يدري؟! ربما أمكنك أن تستعين البوليس ليرموا بي في حضنك.
فؤاد :
إن هذه ثورة جنون.
ليلى :
أخمدها بقوة القانون وسطوة البوليس، أليسا تحت أمرك؟!
خيري :
اسمعي يا ليلى ...
ليلى (مقاطعة) :
وأنت أيضا؟ لا بأس، لم يبق لي أحد.
خيري :
لا، لا، إني أعني ...
ليلى (تلتفت إلى فؤاد مقاطعة خيري) :
سنرى أينا الغالب؟ أنت بالبوليس أم أنا بقوة الله وقوة الإرادة (ثم بعنف)
لقد جاءوا بي إليك ولكنهم ما جاءوا إلا بقبر متحرك، بجثة لا ينقصها إلا أن تلف وتدفن في التراب.
ثريا (تدنو منها وتضع يدها عليها مشفقة) :
ليلى! ليلى! ماذا أصابك؟ (تلتفت إلى فؤاد وخيري)
اخرجا من هنا، اتركاني معها إلى حين حتى تهدأ.
ليلى (تتملص من ثريا وتواجه فؤاد) :
نعم جثة، وسترى أني سأصبح جثة، رمة نتنة جيفة قذرة، تبادر إلى التخلص منها وإخراجها من بيتك، (يضطرب صدرها جدا)
لا تريد أن أخرج حية؟ فلأخرج إذن ميتة.
فؤاد (يرتاع) :
خيري! لم أعد أدري ماذا أصنع، لم يكن هذا الجنون في حسابي، إنما أردت صلاحها.
خيري (لفؤاد) :
اخرج الآن، اخرج، دعني أنا وثريا معها. (ثريا ترى اضطراب صدرها فتحيطها بذراعها.) (فؤاد يتردد وينظر من خيري إلى ليلى.)
خيري :
يا أخي اخرج (يدفعه).
فؤاد (وهو يتجه إلى الباب) :
لا أدري ماذا أصابها؟ (يلتفت إلى خيري)
ألا يحسن أن أدعو طبيبا؟
خيري (يلتفت إليه بغضب) :
يا أخي اخرج أولا، ما هذه البلادة؟! اخرج ثم ادع طبيبا أو عفريتا كما تشاء، اخرج والسلام.
ليلى (مشيرة إلى فؤاد ومحاولة أن تتقدم خطوات) :
بل تبقى، (فؤاد يقف ويدور)
لا بد أن تسمع كلامي لتعرف قيمة بوليسك وضباطك وعساكرك.
خيري (لليلى) :
ليس الآن يا ليلى ، هدئي روعك، دعيه يخرج ثم قولي ما بدا لك.
ليلى (بلهجة الجزم) :
كلا، بل الآن، هي كلمة واحدة. (خيري يشير إلى فؤاد أن يسرع فيخرج.) (فؤاد يهم بالاتجاه نحو الباب.)
ليلى (وهي تلهث) :
قف، لن أذوق في بيتك طعاما ولا شرابا.
فؤاد (يصيح) :
إيه؟
ليلى :
نعم لقد قلت لك إنهم ما حملوا إليك إلا جثة، وسأصير جثة، أفهمت؟! (في وقت واحد.)
خيري :
تنتحرين؟
ثريا :
هل جننت؟
فؤاد :
ماذا تقولين؟
ليلى (ويدها على صدرها المضطرب) :
نعم أو ألقي بنفسي من النافذة أو السطح، أو أشرب سما، أو أخنق نفسي، أي ميتة ولا أبقى معك، فما للقانون ولا للبوليس سلطان على الروح، ليأخذ جثتي التي استعدى عليها القانون والبوليس، سأرمي أنا بها إليه، سألقي بجثماني إليه كما تلقى العظمة للكلب النهم، (فؤاد ينتفض، خيري يشير إليه داعيا إلى الحلم)
أما روحي فلا، (يزداد اضطراب صدرها ويضعف صوتها)
لا سلطان عليها إلا لله ولنفسي (بصوت لا يكاد يسمع)
فقط. (ولا تكاد تقول ذلك حتى تتهافت على المقعد مغشيا عليها، خيري يسرع إليها، فؤاد يتقدم وينظر وهو مرتاب مخافة أن تكون قد ماتت.)
ثريا (وهي حانية عليها) :
لقد أغمي عليها.
خيري :
سأحملها إلى غرفتها. (يضع يديه تحتها ليحملها.)
فؤاد :
ألا أدعو طبيبا؟
خيري (وهو ينهض بحمله) :
بالطبع تدعو طبيبا؟ ماذا جرى لك؟ (فؤاد يخرج وهو مضطرب. خيري يخرج من باب غرفة المائدة.)
ثريا (تتمشى وهي صامتة ثم تقول) :
لم تعد هناك فائدة؛ لا يمكن أن يعيشا معا! كلا، لا بد من الفراق، ولكني لم أكن أتصور أن كل هذه الثورة في صدرها، إن قلبها مضطرم، فيه بركان من المقت. (خيري يدخل.)
خيري :
هل أعجبك هذا؟ لعلك مسرورة!
ثريا (بجفوة) :
ثم ماذا؟ ألا يكفينا ما نحن فيه؟
خيري :
ثم إنكم جميعا مجانين، وقد قلت هذا في أول الأمر فلم تصدقوني، فلعلكم اقتنعتم الآن. (يدخل فؤاد مفكرا.)
خيري :
هل دعوت طبيبا؟
فؤاد :
نعم.
خيري :
ليس هناك إلا علاج واحد. (فؤاد يرفع إليه عينيه ويحدق في وجهه بلا كلام.)
خيري :
تدعها تذهب.
فؤاد (يرتد مصدوما) :
تذهب؟
خيري :
نعم، إلى حامد؛ إنه قريبها. (فؤاد ينزعج ويدير عينه إلى ثريا بلا كلام.)
ثريا :
وهذا رأيي أيضا.
فؤاد (ينظر من خيري إلى ثريا مذهولا) :
ماذا تقولان؟!
خيري :
نقول إنك تقتلها إذا أرغمتها على معاشرتك، وأظنك رأيت وسمعت ما فيه الكفاية.
ثريا :
نعم لا فائدة؛ فإنها تكرهك (فؤاد يرتد قليلا من الصدمة).
خيري :
لا يشق عليك ما نقول؛ إنه لمصلحتك.
فؤاد (يعبس ثم يتماسك ويعتدل) :
إني أدرى بمصلحتي.
خيري :
كذلك ليلى يجب أن تكون أدرى بمصلحتها.
فؤاد (مصدوما) :
ولكنها في غير وعيها؛ ليست هذه حالة طبيعية، ومن مصلحتها ...
خيري (مقاطعا بجفوة) :
ليس من مصلحتها أن تنتحر.
ثريا :
إنها عنيدة، وأخشى أن تنفذ عزمها.
فؤاد :
كلام فارغ، إنها مريضة، وأعصابها متعبة، وسأعالجها.
خيري :
خير لك أن لا تحاول، حاذر.
ثريا :
نعم حاذر!
فؤاد :
إذن لم أصنع شيئا.
خيري :
بل صنعت شرا.
فؤاد :
لقد دعوت الطبيب، إنها مسألة محتاجة إلى طبيب، لا إلى ...
خيري (مقاطعا) :
إذن أنت مصر؟
فؤاد :
مصر! أمجنون أنت؟ إنها ليست مدركة لما تصنع، فكيف تطلب مني أن أجاريها؟! كيف تريد مني أن أعد نزوات الجنون صادرة عن تفكير متزن هادئ؟! ثم إني مسئول عنها.
خيري :
ستصبح مسئولا عن موتها.
فؤاد (مستخفا) :
إنها مريضة، هذا كل ما بها.
خيري :
مريضة؟ إنها تكرهك.
فؤاد :
ربما كانت تكرهني، بل فلتكرهني، هذا لا يهم، إنما المهم أنها وديعة عندي، وأنا مدين لأبويها ومطالب أمام الله وأمام ضميري بالحرص عليها.
خيري :
هل من الحرص عليها أن تقتلها؟!
فؤاد :
ليس لها أحد سوى حامد؟ بف! حامد!
خيري :
وما شأنك أنت؟
فؤاد (ماضيا في تفكيره) :
فقير، معدم، لا يكاد يملك قوت يومه بانتظام (يلتفت إليهما)
ستزول هذه الحالة بالعناية والتعهد، ومتى عادت إليها الصحة رجع إليها عقلها.
خيري :
أهذا رأيك النهائي؟
فؤاد :
بالطبع، ماذا تنتظر مني غير ذلك؟! لست طفلا فلا أدرك التبعات، ولا جبانا فأفر من حملها.
خيري :
إذن على رأسك فلتقع التبعة الكبرى. (تدخل فريدة مسرعة، يلتفتون.)
فريدة (لثريا) :
أدركيني يا ستي.
خيري :
ماذا؟ قولي بسرعة؟
فؤاد :
ماذا جرى؟
ثريا :
أوه!
فريدة (تتلفت وتبلع ريقها) :
إنها تهذي، تسمع أصواتا لا وجود لها، أصواتا لا أسمعها، وتخاطب من لا أرى.
خيري (معتدلا) :
الحمد لله.
فؤاد (مندهشا) :
الحمد لله! ماذا تعني؟
خيري (ينظر إليه مستغربا بلادته) :
توهمت أنها ماتت، هذا ما أعني.
فؤاد (لفريدة) :
وكيف تركتها وحدها؟!
فريدة :
لم أتركها وحدها يا سيدي.
فؤاد :
كيف؟ من معها؟
فريدة :
ستي الحاجة.
فؤاد :
ستك الحاجة! أي حاجة؟!
خيري :
آه صحيح، لقد نسيت. (فؤاد يلتفت من فريدة إلى خيري.)
فريدة :
قريبة سيدي حامد.
فؤاد (ببطء وعنف) :
سيدك حامد؟! (يدنو منها)
كيف جاءت؟ متى؟ قولي! تكلمي!
خيري :
مهلا، مهلا، لماذا تهيج هكذا؟! لقد نسيت أن أخبرك أني تركت ليلى معها لعنايتها.
فؤاد :
ها! هل رأيتها؟
خيري (مستمر بصوت رفيع) :
نعم رأيتها، أي بأس في هذا أيضا؟! إنها سيدة كبيرة ووجودها لا شك نافع، فلماذا تنقلب سحنتك هكذا؟!
فؤاد :
ولكني أريد أن أفهم كيف جاءت؟
خيري :
وفيم العجلة؟! افهم فيما بعد.
فريدة :
لقد جاءت في أثر سيدتي؛ لأنها لم تستطع أن تمنع نفسها، أرادت الاطمئنان على سيدتي ومواساتها.
خيري :
حسنا فعلت، تعالي يا ثريا لنرى ليلى. (يمضيان إلى باب غرفة المائدة وخيري يقول لثريا):
لقد جاءتني فكرة لإنقاذها، تعالي، إن مجيء الحاجة نعمة ... (يلتفت إلى فؤاد)
يمكنك أن تتمشى إلى أن نعود. (يخرجان.)
فؤاد (لفريدة) :
لماذا تبقين؟! اخرجي أنت أيضا (فريدة تفزع)
لا أريد أحدا ... (تخرج فريدة وهي تتلفت إليه مندهشة)، (لنفسه وهو يتمشى مطرقا):
الحاجة! قريبة حامد! همم ... (يمسك ذقنه بكفه)
هل يمكن ... (يقف)
كلا، لا يمكن ... لست أصدق! ليست ليلى من هذا الطراز، أن قلبها على لسانها، ولو كان هناك شيء لانطلق به وهي ثائرة، ولكن الحاجة! وحامد! (يهز رأسه ببطء)
وواجبي، واجبي! ماذا أصنع! (يشير بكفه نافيا)
كلا، لن أحيد عن طريق الواجب! ولكن، أوه! لم أعد أدري، لم أعد أدري (يرتمي على الكنبة وينحني على ركبتيه ويغطي وجهه بكفيه). (يسدل الستار)
الفصل الرابع
(بعد بضعة شهور أخرى)، في الشتاء. (غرفة مائدة، في الوسط المائدة، وهي بيضاوية، وعليها كسوة بيضاء، وفوق الكسوة زهريتان، وحولها أربعة كراسي، وإلى اليسار خوان على رخامة، طبقا فاكهة فيهما تفاح وكمثرى، وبينهما زجاجتا نبيذ وكونياك، وفي الصدر نافذة عريضة عليها شفان (ستران رقيقان)، وتحت النافذة كرسيان من كراسي المائدة، وفي الركن الأيمن كرسي كبير من الجلد له مسندان، يسمع صوت المطر وعصوف الرياح من شدة هبوبها، يفتح الباب بقوة ويدخل شاب حسن الهندام متين الأسر يحمل ليلى، تساعده فريدة ويضعانها بعناية على الكرسي الكبير، وترى ثيابهم جميعا مبللة.) (فريدة تسوي لليلى خصل شعرها وتركع أمامها وتتناول كفها.)
الشاب :
لا تزال غائبة عن رشدها (يتلفت ويمضي إلى الخوان ويتناول زجاجة الكونياك ثم يردها)
كلا، هذا لا يجدي الآن (يتجه إلى الباب، لفريدة)
سأجيء بمنبه (يخرج) .
فريدة (لنفسها) :
الحمد لله، لقد نجت ولما تكد (الشاب يعود بزجاجة صغيرة ويقلبها على سدادتها ثم ينزع السدادة ويدنيها من أنف ليلى فتتحرك، ينشقها مرة أخرى فتتحرك وتئن.)
الشاب :
بدأت تفيق، الحمد لله.
فريدة :
ستي! ستي!
الشاب :
لا تتعجلي، دعيها تفيق على مهل (ليلى تهمهم بكلام غير مفهوم ثم تفتح عينيها وتنظر وكأنها لا ترى) .
الشاب (بصوت خفيت) :
أحسن؟ (يراها تنظر إليه وتهم بأن تتكلم وتتحرك)
ليس الآن، استوفي راحتك أولا، ليس هناك أي داع للعجلة.
ليلى (وقد أفاقت) :
ولكن ... (تجيل عينيها في الغرفة)
لماذا ... (ترى فريدة)
فريدة، (تتناول كفها).
فريدة :
الشكر لله أولا ثم لهذا السيد، لقد كدت تقتلين نفسك.
الشاب :
الحقيقة أني لا أزال ذاهلا، لقد خيل إلي أنك تريدين أن تنتحري، فقد كنت مقبلة على السيارة، فلولا أني كنت سأقف حيث وقفت لدهستك بلا شك.
ليلى (بضعف) :
إيه، وماذا كان يهم؟!
فريدة :
لا تقولي هذا يا سيدتي.
ليلى :
ريقي ناشف. (للشاب)
هل تسمح بقطرة ماء؟
الشاب (يذهب إلى الخوان ويصب في الكأس قليلا من الكونياك ويعود به) :
هذا الشراب أوفق، ينعشك بسرعة.
ليلى (قبل أن تتناوله ) :
أي شيء هذا؟
الشاب :
كونياك، إنه في مثل هذه الحالات يرد النفس ويكسب الجسم نشاطا وقوة.
ليلى (تتناول الكأس وتنظر إليها) :
هاه، أحسب أن لكل شيء أولا (للشاب)
أليس كذلك؟ (تشرب الجرعة دفعة واحدة وتعبس وتنتفض).
فريدة (تتسمع ناظرة إلى النافذة) :
ألا ينقطع هذا المطر؟
ليلى (تلقي نظرة على ثيابها) :
لقد تزحلقت فوقعت.
الشاب :
وهذا هو الذي نجاك على الأقل من الصدمة؛ فقد كنت تجرين نحو السيارة وتتلفتين، فلولا أن تزحلقت لصدمت نفسك بمقدمة السيارة.
ليلى :
نعم، كنت أفر، كان ورائي ما هو شر من الموت، فالذي أمامي لا يهم (ثم لفريدة)
أتظنين أنه رآني؟
فريدة :
من يدري! لقد حدث كل شيء بسرعة (للشاب)
ولا أدري كيف اجترأت أن أرجو منك أن تحمل سيدتي وتدخلها في أي مكان، ولكنك كنت إلى جانبي (لليلى)
لقد كان سيدي بعيدا حين رأيناه، ولكن نظره قوي، على كل حال أرجو ألا يكون قد رآنا.
ليلى :
ولكني لا أستطيع أن أخرج إلا إذا تحققت؛ فقد يكون متربصا.
فريدة :
في هذا المطر؟!
ليلى :
ولم لا؟! هل يعدم عتبة باب يقف عليها ويتواري من المطر.
فريدة :
إذن يحسن أن أنظر.
ليلى :
نعم يحسن. (تخرج فريدة.)
الشاب :
إني معترض.
ليلى (بابتسام) :
على ...؟
الشاب :
على الخروج؛ المطر شديد والرياح عاصفة وثيابك أ ... أ ... خفيفة.
ليلى (وهي تمسك ثيابها) :
خفيفة، نعم، أليست كذلك؟
الشاب (مضطربا ومتلجلجا) :
أ ... أ ... لا تصلح لهذا الجو (ثم كالمعتذر عنها)
لقد فاجأك المطر بالطبع.
ليلى (بابتسام من لا يبالي) :
فاجأني؟ كلا لم يفاجئني شيء.
الشاب (مرتبكا) :
أ ... أ ... على كل حال لا مسوغ للخروج الآن؛ فإن الليل لا يزال بعيدا، وبعد أن تستريحي تماما وتطمئني كل الاطمئنان من ناحية أ ... أ ... ذلك الرجل.
ليلى (مقاطعة) :
زوجي.
الشاب (مرتبكا) :
لم أكن أعرف معذرة.
ليلى :
غريب هذا أليس كذلك؟
الشاب (يزداد ارتباكا) :
أظن أن ... أنت أدرى.
ليلى (تضحك) :
هذا الشراب منعش حقيقة.
الشاب :
إذا سمحتي فإني ...
ليلى :
نعم قطرات أخرى، هل فيها من بأس؟
الشاب :
لا لا لا، مع الإقلال لا ضرر. (يذهب إلى الخوان ويجيء بكأس.)
ليلى :
ماذا يهم؟! (تهز كتفها)
صار كل شيء ككل شيء (للشاب)
أخشى أن أكون جائرة على ذخيرتك منه، أعني لست أحب أن أحرمك منه.
الشاب :
لا، أبدا، إن الزجاجة ملأى وأنا مقل، أعني في العادة (يعود إلى الخوان، تنهض ليلى بالكأس في يدها إلى المائدة وتضعها عليها وتجر الكرسي لتجلس).
ليلى :
هنا أوفق.
الشاب (يضع الزجاجة على المائدة ويملأ لنفسه أيضا كأسا، يشربان) :
لقد قلت الآن أن لكل شيء أولا فهل تعنين؟ معذرة من هذا الفضول.
ليلى (مقاطعة) :
أول مرة - (تهز رأسها مبتسمة)
نعم - لم أذق شرابا قبل هذا، ولم أجالس غريبا إلا اليوم.
الشاب :
لم يخطئ ظني.
ليلى :
هل تظهر علي السذاجة إلى هذا الحد؟
الشاب :
إنما أعني أن المرء لا يسعه إلا أن يدرك أنك سيدة.
ليلى :
سيدة! أهذا رأيك؟
الشاب :
رأيي ورأي كل من يراك.
ليلى :
ألا يغير هذا الرأي ما أصنعه الآن؟
الشاب :
وماذا تصنعين مما لا يجوز في مثل هذه الظروف؟!
ليلى :
صحيح؟ (تهز رأسها مبتسمة)
أتسمح لي أن أخلع معطفي؟ لا تخش شيئا فلست أنوي أن أحتل البيت، ولكن الغرفة دافئة، وهذا الشراب حار، إلى أن تعود فريدة فقط.
الشاب (ناهضا) :
لقد كنت أهم أن اقترح هذا.
ليلى (بابتسامة سخر) :
وماذا منعك؟ هيه؟ أني سيدة؟ (تضحك).
الشاب (وهو يساعدها على خلع معطفها) :
بالله لا تتكلمي هكذا.
ليلى :
ولم لا؟! إني أتكلم كما أحس لا كما ينبغي، فهل هذا لا يجوز؟
الشاب :
إني أشعر حين أسمع هذه النبرات أن الجرح الذي في نفسك عميق جدا، وإن كنت أجهله.
ليلى :
عميق! إيه! إنك تشفق على نفسك لا على جرحي، كن صريحا، كل الناس هكذا، وأنا أيضا، وإن كنت لم أعد أبالي. (تدخل فريدة وهو يضع المعطف على الكرسي فتقف فجأة.)
ليلى (دائرة تنظر إلى فريدة) :
آه فريدة، لقد غبت؟
فريدة (بوجوم) :
لم أر أحدا.
ليلى (مقاطعة) :
أو رأيت، سيان، تعالي خذي من هذا إذا سمح، هل تسمح؟
الشاب :
أوه! طبعا، بكل تأكيد.
فريدة (تنظر من ليلى إلى الشاب مترددة) :
ألا يحسن يا سيدتي أن ...
ليلى (بصوت عال) :
يا بلهاء ماذا يهم؟! هبيني دهستني السيارة.
فريدة :
سيدتي! أرجو، أتوسل إليك، قومي.
الشاب (لفريدة) :
دعيها لإرادتها؛ إنها هنا في أمان من المخاوف.
ليلى :
مخاوف؟! أي مخاوف؟! إن كل شيء أهون من الرجوع إلى ذلك الرجل.
الشاب (يدنو منها) :
هدئي روعك، صحيح إني لا أعلم سبب متاعبك، ولا شك عندي في أنها تثير أشجانك، ولكن ينبغي التدرع بالصبر.
ليلى :
لقد صار الصبر كالجزع، والأمل كاليأس، واستوى الاطمئنان والفزع، وتعادل الهياج والسكون، كلا، لم أعد أبالي شيئا، فليكن ما يكون. (تشرب.)
هذا الشراب يصعد إلى رأسي مباشرة، فهل هو يصنع ذلك دائما؟ (تهز كتفها)
ولكن لا تخش أن أبكي أو أغني.
الشاب (بأسف) :
مسكينة.
فريدة :
لو كنت تعلم يا سيدي لعذرتها؛ إنها معذبة، مطاردة لا استقرار لها أبدا.
ليلى :
هل احتجت أن تعتذري عني؟! إذن أنا مسكينة حقا، لا بأس (تضع رأسها بين يديها).
فريدة (للشاب) :
سيدي! إن علي واجبا لا بد من أدائه، فهل أطمئن ريثما أذهب إلى ابن خالتها وأعود به؟
الشاب :
علي التحقيق، ماذا تظنين بي؟
فريدة (وهي سائرة إلى الباب وراءه) :
لا أستطيع أن آخذها وهي في هذه الحالة، ثم إن الجو مطير، وقد يتفق أن يرانا سيدي، فلا أستطيع أن أحميها.
الشاب :
طبعا، طبعا، اطمئني فسأعنى بها حتى تعودي (تخرج). (ليلى تمضي إلى الكرسي وتعود بمنبذتها وتضعها على المائدة أمامها.)
ليلى (لنفسها) :
من يدري؟! ربما احتجت، كل شيء محتمل وتجاربي لا تبعث على الاطمئنان.
الشاب (راجعا) :
معذرة يا سيدتي.
ليلى :
هل تعيش وحدك؟
الشاب :
نعم.
ليلى (وهي تعبث بالكأس) :
ليتني أستطيع.
الشاب (مقبلا عليها بوجهه) :
تستطيعين ماذا؟
ليلى (وهي تتنهد) :
أن أعيش وحدي (ثم بعد سكوت)
مطمئنة.
الشاب (مصدوما) :
معذرة، ولكن هل تكرهين أهلك؟
ليلى (ضاحكة) :
أهلي! أين هم؟!
الشاب (حائرا) :
ولكني سمعت الفتاة تقول إنها ذاهبة إلى ابن خالتك.
ليلى :
نعم لي ابن خالة ، أقمت معه لما فررت من زوجي، ولكني مطاردة، مضطرة إلى الاختفاء كل بضعة أيام في مكان لئلا يأخذوني إليه (بصوت متهدج)
حكم الطاعة، أتفهم؛ على رغم أنفي، لم أستطع أن أسوغ فراري، ليس لي عذر، هيه! أليس هذا ب ... ب ... بديعا.
الشاب :
هذا فظيع، لماذا لا يطلقك؟!
ليلى :
لماذا؟ من حقك أن تسأل.
الشاب :
ربما كان يحبك.
ليلى :
هو يحبني؟! (تضحك).
الشاب :
لا تؤاخذيني، إن جهلي ...
ليلى (جادة) :
ولكن هبه يحبني، أليس لشعوري دخل أو حساب؟! هل رغبته هو كل شيء وأنا لا شيء؟!
الشاب (مرتبكا) :
أتكرهينه؟
ليلى (بتهكم المستنكر) :
إنه يسأل هل أكرهه؟! يا إلهي ماذا أقول؟!
الشاب (يمسك ذراعها تأكيدا لعطفه) :
يخيل إلي أن ... أريد أن أقول أني ...
ليلى (مقاطعة) :
لا تقل شيئا، دعني هكذا، إني أشعر بغبطة لا عهد لي بها، أظن هذا فعل الشراب (تشرب بقية الكأس)
ولكني أحزنك، وليس من حقي أن أحملك همومي.
الشاب :
لا تقولي هذا؛ فإني على العكس أكون ...
ليلى (مقاطعة) :
على كل حال لست أحسها.
الشاب (غير فاهم) :
لست تحسينها؟ ماذا تعنين؟
ليلى :
همومي، انحطت عن كاهلي وأشعر، كيف أقول؟ أحس كأني خفيفة وأني مقبلة على سعادة محققة، على خلاص مؤكد، لم يعد يعنيني ما كان، ولست أحفل ما عسى أن يكون، وفي الآن جرأة وقوة، وقد زايلني ذلك الإحساس بالتمزق، كأني مشدودة إلى جوادين يجريان في طريقين متقابلين، أتظن هذا حلما؟ إن يكن حلما فإنه لا شك جميل، فليته يطول (تتنهد)
أو ليته يتكرر، إيه! حتى الأحلام عزيزة، فيا لشقاء من لا تسعده حتى الأحلام (ترفع إليه رأسها فجأة وعلى فمها ابتسامة جميلة)
كلا، يجب أن لا أنغص حلمي الحاضر، وأنا مدينة به لك، فلك الشكر.
الشاب :
يسرني أن أسمع هذا منك.
ليلى (مقاطعة) :
حقيقة، أحسها خفيفة، أعني همومي (تلتفت إليه)
أليس عجيبا أني لا أستغرب وجودي معك؟ وهذه الجلسة والشراب؟
الشاب :
ليس في الأمر غرابة، إنها المصادفة البحت.
ليلى :
أعلم أنها المصادفة، ولكني أعني أن ليس لي بك معرفة سابقة، ولا أنت أيضا كنت تعرفني، ومع ذلك أكلمك كأني كنت أعرفك طول عمري، ومن يدري ماذا تظن بي، فهل هذه وقاحة مني؟
الشاب :
وقاحة؟! إنها حالة طبيعية؛ ألسنا بعد كل ما يقال إنسانين؟! وهل كل الحد بين الأدب وسوء الأدب أن يجري بيننا تعريف رسمي؟!
ليلى :
صدقت ولكني أجلس هنا في بيتك وحدي، وأشرب هذا، وأكاشفك بسر حياتي.
الشاب :
ولم لا تفعلين؟! ألا ترينني أهلا لهذا؟! أو دعي كوني أهلا أو غير أهل فإنك لا تعرفينني، فهل سرك إلا سر المرأة في كل عصر وفي كل مكان؟
ليلى (تشرد) :
إنك كريم، ولكن لو رآني هنا زوجي فماذا تراه يظن؟ بل لو رآني أي إنسان.
الشاب :
ولكن كيف يراك؟! إن إمكان هذا بعيد جدا.
ليلى :
هو خاطر، من يدري؟!
الشاب :
أووه! لا تفكري فيه، ستنغصين على نفسك هذه اللحظة.
ليلى :
أهي لحظة سعيدة؟
الشاب (بعطف) :
أرجو أن تكون كذلك، من أجلك.
ليلى :
وأنت؟ هل أنت مسرور؟
الشاب :
ألا بد أن أجيب.
ليلى :
أرجو، من فضلك.
الشاب :
إني متألم لك (ثم بحماسة)
واسمعي، إذا كنت تقبلين معونتي فإني مستعد أن ... (يرتبك)
مستعد أن ... أستطيع أن ... حقيقة يجب أن تقبلي معونتي.
ليلى (باسمة بهدوء) :
من قال لك إني محتاجة إلى المعونة؟!
الشاب :
أعفني بالله واقبلي معونتي كائنة ما كانت.
ليلى :
أهي ثيابي التي وشت بي وكشفت سري؟ (تلمس ثوبها).
الشاب :
إنها خفيفة، هذا كل ما هناك، ولكن حقيقة يجب أن تعديني صديقا.
ليلى :
ألست أفعل ذلك؟! لم إذن أرسلت نفسي على سجيتها معك؟!
الشاب :
نعم، وإني لمدين لك بالشكر على هذا، غير أني أعني ...
ليلى (مقاطعة) :
آسفة، ولكني لا أستطيع أن أقبل شيئا.
الشاب :
ولكن لم لا؟! ليكن.
ليلى (مقاطعة) :
لا يسعني أن آخذ إلا إذا كنت أستطيع أن أعطي، ماذا أعطي؟!
الشاب :
لست أريد شيئا، ثقي، تأكدي، كل ما أبغي هو أن تشعري أن الدنيا ليست كلها شرا وسوءا.
ليلى :
الآن لا تريد شيئا، نعم، وأنا أصدقك وأثق بإخلاصك وصدق سريرتك ، ولكن غدا، بعد غد، إني أعلم ما سوف تريد (ثم بمرارة)
ألست إنسانا؟!
الشاب :
أقسم لك أني لا أطلب ولن أطلب شيئا.
ليلى :
هذا يقينك الآن، وأنت صادق، ولكن فيما بعد؟ هل تعرف كيف تكون حالتك النفسية بعد ساعة؟! هل تضمن رغباتك وأهواءك قبل الشراب وبعد الشراب، وفي ساعة السرور وأوقات الحزن؟! وقدر العكس أيضا، ألا يمكن أن تندم أو تسأم إذا رأيت نفسك تورطت في مشاكل أو متاعب أو تحملت ما لا قبل لك به ولا صبر لك عليه؟! هل تعرف ماذا يكون شعورك بعد أن أخرج وتخلو لنفسك وينتفي الجو الحاضر وتفيق من نشوة الكرم الحالي وتفتر البواعث التي تغريك بإطاعة مروءة النفس؟! لا يا صاحبي.
الشاب :
إنك سيئة الظن جدا.
ليلى (بتنهد) :
ربما كنت معذورة.
الشاب :
لا أقول لا، ولكن الناس للناس.
ليلى :
الناس للناس؟! كلا، بل كل شيء بثمنه في هذه الدنيا (تهز رأسها)
لقد تعلمت كثيرا في بضعة شهور (يسمعان نقرا بعيدا فينصتان).
ليلى (فزعة) :
لا تفتح، انتظر، لا يمكن أن تكون هذه فريدة، لم يمض وقت كاف؛ فإن المسافة طويلة.
الشاب :
يجوز أن يكون الطارق من أصدقائي، سأنظر من النافذة (يخرج).
ليلى (تنتفض واقفة) :
أما لو كان هوه؟! (تضع كفيها على عنقها ثم تفتح المنبذة وتخرج منها زجاجة صغيرة تطبق عليها يسراها.)
الشاب (عائدا وهو مضطرب) :
رجلان لا أعرفهما.
ليلى (وقد تصلبت عضلات وجهها وحال لونه وثبت حملاقها) :
يجب أن أنظر، أين النافذة؟
الشاب :
نافذة المطبخ، تطل على السلم، تفضلي (يخرجان، يتكرر النقر على باب الدور ويبدو كأنه أقرب).
ليلى (وقد دخلت وهو وراءها ووقفت إلى المائدة) :
اذهب وأدخلهما، ولكن بغير استعجال (يتحول الشاب إلى الباب فتفتح الزجاجة وتصبها في الكأس).
ليلى (بصوت أجش) :
قد كان ما خفت أن يكون (تقلب الكأس على فمها وتضعها وترتد إلى الكرسي الكبير، يسترخي جسمها شيئا فشيئا ثم ينثني رأسها على صدرها). (يسمع لغط خارج الغرفة، يدخل فؤاد وخيري ووراءهما الشاب وهو يقول.)
الشاب :
هي التي سمحت لكما ، أمرتني أن أدخلكما.
فؤاد :
أحسب أن علي أن أشكرها! (يضع يده في جيبي البنطلون)
هكذا، هكذا، (يلتفت إليها وهو يهز رأسه وفي عينيه الغضب)
وسكرى أيضا؟! مخمورة، هيه؟! (يصر أسنانه من الغيظ)
زوجتي. (وهو يدير عينه في الكئوس وزجاجة الكونياك)
سكرى في بيت رجل غريب، إلى هذا الحضيض انحدرت؟!
الشاب (بانفعال) :
أرجو يا سيدي ...
فؤاد (مقاطعا بغضب) :
ما شأنك أنت؟! إنها زوجتي ... زوجتي على الرغم مما انحطت إليه.
الشاب (يتقدم إليه) :
ولكنها في بيتي أنا.
فؤاد (بتهكم) :
أشكرك على تذكيري بهذا، ولكن العلم به لا ينقصني؛ فقد رأيتها على يديك.
الشاب :
لقد كدت أدهسها فحملتها مغشيا عليها.
فؤاد (بمرارة) :
الباقي ظاهر! أفاقت وسكرت معك وعادت إلى الإغماء، ولكن من السكر في بيت الرجل الغريب.
الشاب (بإخلاص وحرارة) :
أقسم لك أنك واهم، مخطئ جدا في كل ما تظن.
فؤاد (بتوحش) :
اسكت (ينحيه بيده)
سكرى؟! لا تعي؟! لو حملها ووضعها على سريره لما شعرت أليس كذلك يا هذا؟!
الشاب :
إذا لم تكف عن هذا الكلام ...
فؤاد (مقاطعا بتوحش) :
قلت لك اسكت (ينحني ويتناول يدها ويهزها بعنف شديد)
اصحي، اصحي يا ... يا ... اصحي. (تميل على الكرسي ويرتمي رأسها على مسنده.)
ألا تنوين أن تفيقي يا عاهرة؟! (يشدها فتتهافت على الأرض.)
خيري (وقد بدأ يرتاب) :
إيه؟ ما هذا؟ هل يمكن؟ (يدنو منها وينتزع يدها من فؤاد فيحس بردها ولا يجد النبض، يرفع رأسها ويسنده إلى الكرسي وينظر في وجهها، ثم ينتفض واقفا ويصرخ في وجه فؤاد)
يا شقي إنها ميتة، ويحك يا شقي يا مجرم!
الشاب (مذهولا) :
ميتة! (يلتفت فيلمح الزجاجة على المائدة فيجري إليها ويخطفها.)
أووووه! (يلتفتان فيمد يده بالزجاجة إليهما).
خيري (وهو مضطرب جدا ويروح ويجيء والستار ينزل شيئا فشيئا) :
قتلها، قتلها الوحش، لو كان في الدنيا عدل ... (يتم إسدال الستار ولا تسمع البقية.)
تمت
Bilinmeyen sayfa