207

أن كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة! وهذه مما لا يشك فيها لأنها من المشاهدات ، ثم يحييكم حين ينفخ في الصور أو حين تسألون في القبور ، ثم إليه أي إلى حكمه ترجعون أي بعد الحشر للثواب والعقاب أو من قبوركم. وهذه القضايا أيضا مما لا يشك فيها لنصب الأدلة وإزاحة العلة. والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، وقد يطلق الميت على الجماد كقوله ( بلدة ميتا ) [ق : 11] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس. ويحتمل أن يقال : المراد به خمول الذكر كقوله ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) [الدهر : 1] قال أبو نخيلة السعدي :

وأحييت لي ذكري وما كنت خاملا

ولكن بعض الذكر أنبه من بعض

ولا يخفى أن الآية بالنسبة إلى العامة ، فأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) [البقرة : 259] ( فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ) [البقرة : 242] ( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) [البقرة : 56] ( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ) [الكهف : 19] ( وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) [الأنبياء : 84] واعلم أن هذه الآية دالة على أمور منها : اشتمالها على وجود ما يدل على الصانع القادر العلم الحي السميع البصير الغني عما سواه. ومنها الدلالة على أنه لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا الله ، فيبطل قول الدهري ( وما يهلكنا إلا الدهر ) [الجاثية : 24] ومنها الدلالة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل القطعي الدال عليه ، لأن الإعادة أهون من الإبداء. ومنها الدلالة على التكليف والترغيب والترهيب ، ومنها الدلالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال : ( فأحياكم ) أي بعقب كونكم نطفا من غير تخلل حالة أخرى بينهما ، ثم يميتكم بعد انقضاء مهلة الحياة ، ثم بين أنه لا يترك على هذا الموت بل لا بد من حياة ثانية للسؤال أو للحشر ، ثم من الرجوع إليه للثواب أو العقاب. فبين سبحانه أنه بعد ما كان نطفة فإنه أحياه وصوره أحسن صورة وجعله بشرا سويا وأكمل عقله وبصره بأنواع المضار والمنافع ، وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور. ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئا ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، ويبقى مدة مديدة في اللحد ( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) [المؤمنون : 100] ينادي فلا يجيب ، ويستنطق فلا يتكلم ، ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون.

يمر أقاربي بحذاء قبري

كأن أقاربي لم يعرفوني

Sayfa 209