اطلعت على ما نشرتموه في جريدتكم الزاهرة عدد 79 بتاريخ 18 أفريل سنة 96 من أنكم قد عقدتم النية على طبع كتاب يتضمن أخبار ضغط الحكومة التركية على جرائدها وسائر مطبوعاتها، مخصصين في ذلك أعمال مكتوبجي ولاية بيروت، فرأيت من المستطاب أن أبعث إليكم بنبذة تقوم مقام مقدمة لهذا التأليف الجديد عن مراقبة المطبوعات عموما والجرائد خصوصا في قاعدة السلطنة التركية، رجاء أن تأتي فذلكتي هذه ببعض الفائدة لكثيرين من المصريين خصوصا وغيرهم من العرب عموما، الذين ما زالوا للآن يعتقدون خلاف الواقع ويكابرون في الضلالة عن تعصب أعمى وجهل أظلم من الليل الحالك، فلا يصدقون الحقائق عما هو جار للآن من المظالم وشدة النير الضاغط على رقاب الرعية عموما والكتيبة الأحرار خصوصا في أيام الحكومة الحاضرة، وهم لا يخدعون إلا أنفسهم.
لما زار حضرة صاحب السمو خديوي مصر عباس الثاني المرة الأولى القسطنطينية سنة 1893 وصل إليها نحو الساعة الحادية عشرة صباحا من نهار الاثنين، فأعلنت الجرائد الغير التركية التي تصدر بين الساعة الثالثة والرابعة بعد الظهر وصول سموه إلى عاصمة بلاد الترك، ومن هذه الجرائد المهمة جريدة اللوانت هرالد وهي إنكليزية النزعة، والثانية الأوريانتال أدڨرتيزر أو المونيتور أوريانتال وسياستها روسية، فنشرت هذه الأخيرة جملة افتتاحية من ألطف ما يكتب لترحب بالضيف العظيم، وأثنت فيها ثناء جميلا يستطاب عند أهل الذوق السليم، مبتدئة من رأس العائلة المغفور له محمد علي باشا ذاكرة - إجمالا - أعماله العظيمة وأعمال أنجاله وأحفاده الذين تولوا من بعده الأريكة المصرية، منتهية بما كان معروفا عن أميال وعواطف وذكاء الأمير المالك حالا. وكان لهذه الجملة التي نشرتها المونيتور أوريانتال رنة في أفئدة كل الذين طالعوها يومئذ من الأتراك أصحاب الذوق السليم، وخصوصا الأحرار، وكذلك عند الإفرنج الكثيرين واليونان الذين لا يقل عددهم إلا قليلا عن عدد الأتراك في تلك العاصمة. ومعلوم أنه لا يمكن طبع شيء أو نشره هناك قبل أن يمر أولا على أعين أقلام المراقبة. وكان في رئاسة مراقبة المطبوعات الإفرنجية إذ ذاك عطوفتلو ماجد باشا، وهو حفيد المرحوم فؤاد باشا السياسي الشهير، فقرأ الجملة التي نحن في صددها قبل الطبع، ولم يخطر على باله أن نشر بعض سطور فيها ترحب وثناء على حضرة صاحب السمو أمير مصر وآبائه وأجداده الكرام، يحرك غيظ السلطان ويستوجب غضبه، فلم يمنع نشرها. وهكذا صدرت الجريدة الساعة الثالثة بعد الظهر مصدرة بكلام أحلى من الشهد لكل محب لمصر ولسمو خديويها وللعائلة المحمدية العلوية، وتناقلتها ألسن أهل الآستانة وتاقت نفوسهم إلى مشاهدة الخديوي الشاب على أثر ما طالعوه عن عزة نفسه وعواطفه الشريفة واستعداداته العظيمة. وأما السلطان فساءه جدا ولم تأت الساعة الخامسة حتى أصدر إرادته بعزل ماجد باشا المشار إليه، فكدر ذلك العدد العديد من سكان الآستانة الذين عرفوا حضرته وما هو عليه من اللطف والإنسانية مع شرف الأصل، ولكن لم يعرف إلا الأفراد أسباب عزله، وقد كتم ذلك عن السواد الأعظم من كبار الناس. انتهى.
حلوان، في مارس سنة 96 (1) ما هو المكتوبجي
إن مكتوبجي ولاية بيروت اليوم هو سعادتلو عبد الله أفندي نجيب، ولكنه ليس وحده المقصود في هذا الكتاب، وإنما استعملت اسم المكتوبجي لأنه أصبح من الأوضاع العصرية لمراقب الجرائد، مع أن المكتوبجي - في حقيقة معناه وطبيعته الأصلية - لا علاقة له بالجرائد وإنما هو سكرتير الوالي. ولكل ولاية من الممالك العثمانية مكتوبجي خاص، لكن الحكومة العثمانية اختارت أن تعهد إلى مكتوبجي ولاية بيروت أمر مراقبة الجرائد، فأصبح اسم الرجل معروفا بمراقبته للجرائد أكثر من كونه كاتم أسرار الولاية. (2) حرية الجرائد (وكيف بدأت المراقبة)
كانت سوريا أقدم مكان ظهرت فيه الجرائد السياسية والعلمية في المملكة العثمانية، ولا تزال حتى الآن كثيرة فيها، تزيد على أمثالها من الولايات بكثير من الجرائد. وقد كانت الحرية مطلقة لجرائد بيروت من أول نشأتها، لا مراقبة عليها ولا سيطرة، يلجأ إليها المظلوم ويخافها الظالم؛ حتى لقد بلغ من «الجنة»، و«الجنان» للمرحوم المعلم بطرس البستاني ومن «لسان الحال» في أوائل نشأته أنها كانت تكتب بحرية لا تقل عن الحرية التي نتمتع بها الآن في مصر. وكانت مصر تلجأ إلى سوريا وتنشر على صفحات جرائدها شكوى أهاليها، كما يتضح للقاري من مراجعة ما كتبه المرحوم أديب إسحاق في جريدته الباريزية؛ إذ نقل عن «المصباح» الذي يصدر في بيروت رسالة ملؤها حرية، ودامت جرائد سوريا على هذه الحالة من الراحة والهناء والتمتع بأحسن مزايا الإخباري إلى أن رأت الحكومة العثمانية ضعفها هي وتقدم الشعب السوري وكثرة جرائده وميله إلى المطالبة بحقوقه على صفحاتها. ومعلوم أن للحكومة العثمانية قوانين معلومة منشورة في الدستور الهمايوني، وفي جملتها قانون المطبوعات الذي يجب أن تجري عليه الجرائد، وفيه تحديد الحرية المعتدلة التي هي ملاك السعادة، والعقاب الذي ينال من يخالف ذلك القانون، شأن سائر الحكومات المتمدنة. وكانت الجرائد خاضعة لذلك القانون، تبدي أفكارها بحرية تامة متجنبة كل ما يكدر الحكومة، حتى إذا كان عام 1877 جعل سعادتلو خليل أفندي الخوري صاحب جريدة «حديقة الأخبار» مديرا لمطبوعات سوريا، فإذا نشرت إحدى الجرائد ما تظن الحكومة أنه غير مناسب أرسل المدير تذكرة تسمى إخطارا وهذا نصها:
إلى صاحب امتياز الجريدة الفلانية
من حيث إن جريدتكم قد نشرت في عدد كذا مقالة مخالفة للرضى العالي، فقد أوجبت (تخديش الأذهان)، فاقتضى إخطاركم أنكم إذا عدتم إلى مثل ذلك تجري بحقكم المعاملات القانونية.
وكانت المعاملة في ذلك الحين أن الجريدة التي تخطر ثلاثا على هذه الكيفية يصدر الأمر بتعطيلها لمدة معينة، ثم في سنة 1885 توفي والي بيروت في ذلك الحين، وبعد أيام وردت الأخبار التلغرافية أن قد عين دولتلو رائف باشا وزير النافعة واليا على بيروت، وكنت إذ ذاك أحرر جريدة «لسان الحال»، وكنا نعلم أن رائف باشا المشار إليه من أعظم رجال الدولة العثمانية استقامة، فعزمت الإدارة على الاحتفال باستقباله احتفالا خصوصيا، وهيأت لذلك الغرض مقالة لم ينسج على منوالها من قبل وتقرر نشرها يوم وصول دولة الوالي، واستعملت إدارة «لسان الحال» الحرية التامة المعتدلة في بيان المساوئ الحاصلة في حكومة سوريا، وإذا توفقت للحصول على نسخة تلك المقالة أنشرها في مكان آخر، وفي الوقت الذي كنا ننتظر فيه قدوم رائف باشا - وقد وصلت عائلته إلى بيروت - صدرت إرادة سنية تلغي ذلك التعيين، وعهدت بالولاية إلى رءوف باشا متصرف القدس الشريف، أما «لسان الحال» فأبقى مقالته الأولى على حالها ونشرها يوم وصول الوالي، فاهتزت لها المدينة وسائر الجهات التي وصلت إليها، ولم تمض بضعة أيام حتى أقامت محكمة استئناف بيروت الدعوى على «لسان الحال»، فحكمت المحكمة الابتدائية ببراءته، وقد حضر الجلسة ألوف من الناس وصفقوا ودعوا بالنصر للسلطان عند صدور البراءة، ولم تمض 3 أيام على هذا الحكم العادل حتى ورد تلغراف من الآستانة يقضي بتعطيل «لسان الحال» إلى مدة غير معلومة، وبعد مضي ستة أشهر عفي عن الجريدة، وفي ذات يوم استدعي جميع أصحاب الجرائد إلى سراي الحكومة، في غرفة عزتلو ميشال أفندي إده ترجمان الولاية، فأنبأنا إذ ذاك أن الحكومة قد قررت ألا تصدر نسخة من جرائد بيروت إلا بعد أن ترسل مسودتها قبل الطبع إلى ميشال أفندي لمراقبتها.
وهكذا بدأت المراقبة التي نحن بصددها، وقد كانت في أول الأمر مراقبة خفيفة ليس فيها شيء من العنف، حتى إذا ضجر ميشال أفندي من مطالعة الجرائد وخشي المسئولية انتقلت السيطرة إلى مكتوبجي الولاية، وكان يومئذ المسمى جمال بك. وهو تركي لا يعرف كلمة من اللغة العربية، ثم فصل وخلفه جابي زاده سعادتلو حسن فائز أفندي من أهالي دمشق ومن أخصاء مدحت باشا، فشدد على الجرائد حتى كادت تزهق أرواحها، ثم آل الأمر إلى أن تعين سعادتلو عبد الله أفندي نجيب المكتوبجي الحالي، وهو الذي سأورد من أعماله الغرائب والعجائب. (3) ذهابي إلى إنكلترا
لما يئست من تحسين الأحوال في بيروت ولم أستطع احتمال ضغط المكتوبجي حسن فائز أفندي، تركت تحرير «لسان الحال» وقصدت إنكلترا حيث أقمت نحو سنتين، ومن هناك كتبت إلى المكتوبجي أخبره بوصولي وأسأله الرفق برسائلي التي كنت أكتبها من هناك إلى «لسان الحال» فكتب إلي الجواب الآتي:
Bilinmeyen sayfa