وأوقف العربة إلى جانب الطريق، ونظر إليها، وقال: صدقيني يا فؤادة، إنني أحترم نفسي، بل أكثر من ذلك، إنني أصدق الأكاذيب التي أرددها أمام الناس، أنا نفسي أصبحت أصدقها من كثرة ما رددتها بصوت قوي مقنع، ما هو الإنسان يا فؤادة؟ ما هو الإنسان؟ أليس مجموعة من أحاسيس؟ ما هي الأحاسيس؟ أليست تلك الخبرات المتراكمة من واقع الحياة؟ أكنت ألغي كل تلك الخبرات الواقعية وأدور في فلك مبادئ ونظريات لا يمكن تطبيقها في واقعنا؟ أأفعل مثل ما فعله حسنين أفندي؟ وسكت لحظة كأنما يستعيد ذكريات قديمة.
وواصل كلامه؛ حسنين أفندي كان زميلي في الجامعة، وكان يؤمن بأن في رأسه فكرة جديدة، وبدأ يجري بحثا علميا، كان يشتري أنابيب الاختبار من مرتبه الصغير، وكان يسافر هنا وهناك ليجمع المواد. ثم ماذا حدث؟ وسألت في شرود: ماذا حدث له؟
ومصمص شفتيه وقال: سبقه زملاؤه في تسجيل بحوث شكلية من أجل الترقية، وحاربه الأساتذة الكبار لأنه رفض أن يبيع اسمه لأحد ثم فصلوه بتهمة ملفقة.
وهزت رأسها: لا يمكن!
وقال بهدوء: قابلته منذ شهور في الشارع، كان ينظر أمامه في ذهول ولم يعرفني. وابتسم كاشفا عن أسنانه الصفراء، ورأيت طرف أصبعه يطل من حذائه. كان شيئا مؤلما جدا، هل يحترم أحد حسنين أفندي؟ وصاحت: أنا أحترمه.
وقال بهدوء شديد: ومن أنت؟
ونظرت إليه في غضب: أنا؟ أنا؟
وأحست أن صوتها يضيع، وأنها تختنق، ففتحت باب العربة وخرجت إلى الصحراء. وخرج الساعاتي وراءها وسمعته يقول: الحقيقة مرة يا فؤادة، ولكن يجب أن تعرفيها؛ كان يمكن أن أكذب عليك، ما أسهل الكذب، تعودته وخبرته، ولكني أحبك يا فؤادة وأشفق عليك من الحيرة والتمزق.
وأمسك يدها الصغيرة النحيلة في يده السمينة الطرية، وهمس: أحبك. وشدت يدها وصاحت في ضيق: دعني! دعني وحدي! لا أريد أن أسمع صوتا.
وتركها وعاد ليجلس في العربة، وسارت وحدها في الصحراء وبدأ الصفير يدوي في أذنيها. نعم؛ ليدو الصفير الحاد، فالصمت أفضل من ذلك الصوت، ليدو الجرس الأخرس الذي لا ينقطع، فالجرس أفضل من تلك الكلمات، وأنت يا فريد استمر في الغياب؛ فماذا كنت تفعل لو أنت موجود؟ ماذا كنت تفعل؟ ماذا تفعل قطرة في بحر؟ ماذا تفعل قطرة في بحر؟
Bilinmeyen sayfa