وقفت فؤادة جامدة في وسط الصالة، تسمع صوتهما العالي وهما يتناحران على السلم، وسارت لتفتح الباب وترى ماذا يفعل الرجل بالمرأة، لكن صوتهما انقطع وأصبح الممر هادئا. وذهبت إلى النافذة لتطل عليهما وهما يخرجان من العمارة وكانت تظن أن المرأة لن تخرج منتصبة على قدميها، لكنها دهشت حين رأت الرجل يخرج ومن ورائه المرأة، كانت تسير مطرقة هادئة، الهدوء نفسه الذي كانت عليه قبل الحادثة. وظلت فؤادة تحملق فيها حتى اختفت عن عينيها، فتركت النافذة وجلست على أحد الكراسي شاردة.
كان الساعاتي يتأملها طول الوقت ولما رآها تجلس جلس هو الآخر على كرسي غير بعيد عنها، وقال وهو يبتسم: يبدو أنك تتألمين من أجل المرأة. وتنهدت وقالت: إنها يائسة. وتذبذبت العينان الجاحظتان وهو يقول: ما أكثر البؤساء الذين سترينهم هنا في معملك. ولكنك لن تستطيعي أن تفعلي لهم شيئا. ورفع أصبعه إلى فوق قائلا: لهم رب! وردت قائلة بشيء من الضيق، أوجد الرب ليمسح الناس فيه أخطاءهم؟
لم تعرف كيف قالت هذه الجملة، فهي ليست جملتها؛ إنها جملة فريد، كانت تسمعها منه كثيرا. وذكرتها الجملة بفريد فغاص قلبها في أعماقها ككتلة صلبة مصمتة. وأطرقت صامتة واجمة، وسمعت الساعاتي يقول: يبدو أنك تأثرت من منظر المرأة. ولم ترد وظلت مطرقة. ونهض وسار بضع خطوات مقتربا منها ثم قال: قلبك طيب مع كل الناس ... وسكت لحظة ثم أكمل بصوت مضطرب: إلا أنا.
ورفعت إليه عينيها في دهشة، فابتسم في حرج وقال: لماذا أخلفت موعدك معي؟ كنت مشغولة؟ أم أن هذه هي طبيعة كل النساء؟ وارتطمت «كل النساء» بأذنها فشعرت بغضب، وقالت بسرعة: أنا لست ككل النساء! فقال كمن يعتذر: أعرف أنك لست ككل النساء، أعرف هذا جيدا، وربما أعرفه أكثر من اللازم.
وفتحت فمها لتسأله وكيف عرفت ولكنها أطبقت شفتيها في صمت، ومرت فترة صمت طويلة ثم وجدت نفسها تقول: ما هو الأمر الهام؟ وقال وهو يجلس: قابلت صدفة بالأمس وكيل وزارة الكيمياء في حفل عشاء، إنه صديقي منذ سنين طويلة وتذكرت أنك تعملين في وزارة الكيمياء، فسألته عنك. وقالت: إنه لا يعرفني. وقال باسما: إنه يعرفك جيدا، لقد وصفك لي وصفا دقيقا. وقالت في دهشة: شيء غريب. وقال: الغريب أنه لا يعرفك، وقالت: لماذا؟ وقال: إنه رجل يتذوق الجمال.
ونظرت في عينيه البارزتين في غضب وقالت: أهذا هو الموضوع الهام؟ وقال: لا؛ ولكني حين سألته عنك قال لي إنك موظفة ممتازة وتقاريرك ممتازة جدا. وابتسمت في سخرية. وقال: وخطرت لي فكرة وهو يتكلم عنك بهذا الحماس، أنا في الهيئة في أشد الحاجة إلى باحثة كيميائية. وقالت: ماذا تعني؟ قال: أعني أن أنقلك عندي في الهيئة. وقالت: عندك! وأكمل كلامه قائلا: لن يكون العمل كثيرا كما هو في الوزارة، لن تفعلي شيئا على الإطلاق؛ فالهيئة ليس بها معمل كيمياوي. ونظرت إليه بدهشة وقالت: ولماذا أذهب إذن؟ وابتسم، فقفزت شفته العليا كاشفة عن أسنانه الصفراء وقال: ستكونين في مكتبي.
ونهضت واقفة؛ كان رأسها قد سخن، ونظرت في عينيه المهزوزتين نظرة ثابتة، وقالت: أنا لست من هذا النوع يا أستاذ ساعاتي! إنني أريد أن أعمل! أريد أن أقوم بأبحاث كيمياوية! إنني أدفع عمري من أجل أن أعمل بحثا. وسكتت لحظة وابتلعت ريقها، وقالت: إنني أكره الوزارة! أمقتها! لأنني لا أعمل فيها شيئا، لا أدري كيف تكون تقاريري ممتازة وأنا لم أعمل شيئا منذ ست سنوات؟ لن أذهب إلى الهيئة، ولن أذهب إلى الوزارة، سأقدم استقالتي وأتفرغ لمعملي.
وطفت فوق عينيه سحابة خفيفة وأطرق إلى الأرض، وسادت فترة صمت طويلة. كانت فؤادة قد نهضت وسارت إلى النافذة ثم عادت فجلست على طرف الكرسي وكأنما ستنهض ثانيا. واختلس نظرة طويلة إليها من تحت نظارته السميكة، كانت هناك عضلة صغيرة ترتجف تحت عينها اليمنى. وقال بصوت منخفض: أنا لا أفهمك في هذه اللحظات التي تثورين فيها، عيناك تمتلئان بحزن دفين؛ إنك تنطوين في أعماقك على ألم لا أعرف سببه الحقيقي، وأنت صغيرة السن على أن تحملي بين جنبيك كل هذه المرارة، ولكن يبدو أنك مررت بتجربة قاسية في حياتك. والحياة يا فؤادة لا تحتمل كل هذا الجد. لماذا لا تأخذين الحياة كما هي؟
واقترب منها وهي جالسة وأحست يده الطرية السمينة فوق كتفها فانتفضت واقفة، وسارت إلى النافذة، وسار وراءها وهو يقول: لماذا تضيعين شبابك في هذه الأوهام؟ انظري؛ وأشار لها إلى الشارع. انظري؛ كيف يستمتع الشباب مثلك بحياته ... وأنت؛ أنت هنا في المعمل غارقة في عمل تحليلات وأبحاث، عن أي شيء تبحثين؟ هل هناك شيء تريدينه ليس موجودا في كل هذه الدنيا؟!
ومدت بصرها إلى الشارع. كانت الأنوار والناس والعربات تموج بحركة حية مرحة، لكنها حركة بعيدة عنها، حركة منفصلة عنها، كحركة الصور المتحركة على شاشة السينما، تحكي حياة أخرى غير حياتها، وقصة أخرى غير قصتها، وشخصيات أخرى غير شخصيتها، وهي وحدها، وحدها داخل تلك الدائرة الضيقة التي تلتف حولها، والتي تضيق كثيرا لتصبح حدود جسمها.
Bilinmeyen sayfa