وصلت السفينة إلى رشيد بعد ستة أيام، والتقى محمود بأمه بعد طول الغيبة، فرآها لا تزال ملازمة فراشها، ولكنها انتعشت لرؤيته ودب فيها دبيب الحياة، ثم قدم إليها لورا، فقبلت يدها في أدب وحياء، وأخذت السيدة زينب تحدد النظر إليها وتصوبه ثم صاحت: هذه ابنتنا لورا؟ أين كنت يا بنيتي كل هذه المدة؟ أيجمل بك أن تتركي خالتك المريضة دون أن تروحي عنها بزيارة قصيرة؟ حقا إن البعيد عن العين بعيد عن القلب.
فقال محمود: إنها كانت في القاهرة يا أمي منذ دخول الفرنسيين مصر، وقد كانت ترعى ابنك محمودا بعطفها، وتمرضه وهو جريح، حتى عاد إليك رجلا قويا يحملك هكذا، ويقبلك هكذا، ثم حملها وأخذ يغمر وجهها ويديها بالقبل، وهي جذلى فرحة تتصنع الصياح والعربدة، ثم قالت وقد التقطت أنفاسها: إنك لا تزال غلاما شقيا كعهدي بك، وأين أبو لورا؟ - ذهب إلى منزله الذي كان يسكنه «إلياس فخر» المترجم؛ لأنه رحل مع الفرنسيين ... وعادت إليه خادمته مبروكة، وخادمه عبد الدايم، فاتجهت إلى لورا وقالت: لقد كان منزلك جميلا يا لورا، كنت كلما زرت مقام سيدي الإدفيني عرجت عليه لأجلس بجانب إحدى نوافذه الشمالية، لأتمتع بشميم أزهار الحدائق حوله، فأسرع محمود وقال: إنه لم يعد منزل لورا يا أمي. - ألم تقل: إن المترجم رحل عنه، وإن الخواجة نيكلسون عاد إليه! ... - نعم، ولكن لورا يحول الآن بينها وبين سكناه حائل عظيم. - حائل عظيم!! ما هو؟
فابتسم نحو لورا وقال: الشرع الشريف والحب الشريف.
فقالت أمه: أنا لا أفهم هذه الألغاز! - وهذا بعض ما تستحقين، فطالما ربكت عقلي بالأحاجي (الفوازير) وأنا صغير لا قبل لعقلي بها. - دع هذا يا محمود وخبرني جلية الخبر. - إن لورا تزوجت. - ألف مبارك يا لورا، بمن؟
فقال محمود: بمن لا يحب في الدنيا إلا امرأتين: هي ... وامرأة أخرى تجلس في سريرها. - رجعنا إلى الألغاز ... بمن بحقك؟! - بابنك محمود.
فاتجهت زينب إلى لورا ومدت إليها ذراعيها، وأخذت تقبلها بين الضحك وانهمار الدموع، ثم قالت وهي تداعبها: عرفت سر تكرار زياراتك لخالتك المريضة حينما كنت برشيد، ثم ضحكت وقالت: هؤلاء البنات لا يغلبهن غالب حينما يردن، وقد خلقت لهن أمهن حواء تلك الشبكة المحكمة الأطراف التي تصيدت بها أباهن آدم، ألف مبارك، ألف مبارك يا لورا، من مثلي الآن في رشيد؟ لي ولد وبنت صورهما الله من جمال وحسب وخلق كريم! الآن لا أحب أن أموت
ثم أمرت الخدم أن يعدوا لهما غرفا خاصة بهما، وبعد قليل هجس بنفسها هاجس أليم انقبض له وجهها فقالت: لقد علمت بخاتمة نكبة بنت خالتك يا محمود، إنها لمصيبة أخف منها الموت، وكيف حال أختي نفيسة؟ - جاءت معنا من القاهرة وذهبت إلى دارها. - مسكينة!! لن تجد بدارها أنيسا إلا إذا ائتنس البائس بما يؤلم من الذكريات!! مسكينة!! مات زوجها الشهم الذي لم تشرق شمس رشيد على مثله، وضاعت بنتها غنيمة للفرنسيين، حتى كأنهم لم ينزلوا مصر إلا لاختطافها، وبقي لها ... ماذا بقي لها؟! الثكل والجزع، وابنها علي الحمامي. - آه يا أماه!! إن رزيئتنا في زبيدة فوق الاحتمال.
فأرسلت أمه نظرة خاطفة إلى لورا وقالت: ذلك قضاء الله يا بني ... من كان يظن أن الشرقي يتزوج غربية، والغربي يتزوج شرقية!! آمنت بالله، وآمنت بالقدر خيره وشره!!
وفي هذا اليوم غير نيكلسون زيه فارتدى ملابسه الإفرنجية، وطلق اسم الحاج محمد السوسي إلى غير عودة، وقابل شريكه «أورلندو» فضبط معه حسابه مدة غيبته، وعاد إلى متجره بشارع البحر كما كان، مغتبطا مسرورا برحيل الفرنسيين، مزهوا فخورا بأن قومه هم الذين أجلوهم عن البلاد.
واستبشر أهل رشيد بعودة محمود العسال ونيكلسون صديقهم القديم وتوافد عليهما المهنئون، وكان حديث بطولتهما ملء المسامع والأفواه، وزواج محمود بلورا موضع جدل ونقاش بين الفتيات والأمهات.
Bilinmeyen sayfa