الفصل الرابع عشر
جهز الميت الشهيد ودفن في الصباح، وأخذت لورا تبذل ما يستطاع في علاج محمود وتمريضه والهم يكاد يعصف بفؤادها، ودهمت محمودا الحمى ثلاثة أيام لم تغمض فيها جفنا، ولم تحبس دمع عين، وأراد أبوها أن يتناوب معها السهر عليه، فأبت وقالت في سخرية مصنوعة: ما أكثر طمعكم أيها الرجال!! لم تكتفوا بمنع المرأة من الجهاد في ميدان القتال، حتى جئتم تشاركنها في نصيبها القليل من العناية بالجرحى! دعني يا أبي فإن للمرأة صبرا ليس للرجال، ثم ضحكت وقالت: وإن للمرأة قوة روحانية تبعث في المريض الأمل وحب الحياة.
أفاق محمود من الحمى ضعيفا هزيلا، ورأى من رعاية لورا له وحدبها عليه، وتفرغها لخدمته، وافتنانها في تسليته، والترويح عنه - ما ملأ قلبه حبا لها، وإعجابا بخلقها، ثم نظر فرأى جمالا يأخذ باللب، ويملأ العين والقلب، وقد كان إليها قبل ذلك دائم الحنين، ولم يكن يحول بينه وبين مصارحتها بحبه، إلا كبر موهوم ، وعزيمة كاذبة، هي أن يصوب قلبه لحب زبيدة، وألا يزحمه بحب جديد.
ولكن أين زبيدة الآن؟ وأين الثريا من يد المتناول؟ إنها زوجة، إنه فقدها إلى الأبد، إنها بعد أن تزوجت بالأجنبي أصبحت لا تصلح له ولا يصلح لها، وإن التشبث بحبها خيال شعري، لا يستطيع أن يثبت أمام قسوة الحقائق ... جالت كل هذه الخواطر بنفس محمود وهو ينظر إلى لورا، وقد كانت تغسل جرحه وتعد له الأربطة واللفائف فقال: لقد أزعجتك يا لورا وأتعبتك. - أنت دائما رجل متعب يا محمود، وإذا أردت أن تريحني فباعد بينك وبين الخطر. - وهل يسوءك أن يدفع المرء عن وطنه؟ - لا، وهذا خير ما أحبه فيك، ولكن يسوءني أن يمسك سوء. - ولماذا؟ - هكذا أنت دائما كالأطفال، تحب أن تعرف كل شيء. - أتخافين علي حقا؟ - إنني أخاف دائما على الأبطال. - وتحبينهم يا لورا؟ فثارت عواطفها، وطفرت من عينيها دمعتان، وأسرعت فقالت: وأحبهم. - وإذا كانوا يحبونك يا لورا ويقدمون قلوبهم بين يديك، فهل تحبينهم حبا آخر؟! - وهل الحب أنواع؟ - الحب أنواع وأشكال: حب الرجل للوطن، وحب الأم لولدها، وحب الجندي لقائده، وحب الفتى للفتاة.
فتلعثمت لورا وقالت: وما شأنك بهذا الحب الأخير؟! - هو حبي لك يا لورا الذي فيه حياتي وشرفي، وفيه نعيمي وجنتي.
ثم مد إليها ذراعيه وجلا مستعطفا، فسقطت بينهما باكية وهي تتمتم: أحبك يا محمود، وأحبك من حين أن رأيتك، وأحبك لأني أرى فيك كل ما يصوره خيالي للرجل الكامل، من بطولة وكرم ودين، أحبك، أحبك.
فقبلها محمود بين عينيها وقال وهو يلهث: وهل تقبلينني زوجا؟ - ذلك كان أملي في الحياة.
ثم أخذا في الحديث والضحك والقبل، وبعد قليل دخل نيكلسون يسأل عن المريض، فصاحت لورا: احذر يا أبي أن تزعج زوجي بكثرة الأسئلة! فبهت نيكلسون وأخذ يتأمل فيهما مشدوها، وهما يضحكان، فقال محمود: نعم زوجها بكتاب الله وسنة رسوله. ووثب نيكلسون على لورا يقبلها ويقول: تهنئاتي ودعواتي يا لورا، نعم الصهر ونعم الكفء محمود. هذا أسعد يوم في حياتي، كان هذا الخاطر السعيد يطوف بخيالي فأظنه بعيدا، وكنت أعتقد أن ابنتي لورا لا تصلح إلا لمحمود.
ثم اتجه نحو كرسي ليجلس عليه، فصاح به محمود: لا تجلس يا رجل! الآن تجد جارنا الشيخ محمدا الصعيدي في داره، وتستطيع أن تتفضل بدعوته ليعقد العقد، فخرج نيكلسون غير متباطئ وأحضر الشيخ الصعيدي وتم العقد، وأصبح محمود العسال ولورا نيكلسون زوجا وزوجة.
ومضى على الثورة ثلاثون يوما، وهي تحصد الأرواح حصدا، وتدمر كل شيء تدميرا، ولما اشتد الخطب، وعظم الهول، وبلغت القلوب الحناجر، قام وفد من العلماء وألح على ناصف باشا وإبراهيم بك وغيرهما أن يضعا حدا لهذه الفاجعة، وتم إبرام الاتفاق بين الترك والفرنسيين في الحادي والعشرين من إبريل سنة 1800م على أن يغادر العثمانيون مصر، وعلى أن يصدر كليبر عفوا عاما عن جميع سكان القاهرة، وعاد النفوذ للفرنسيين كما كان وزادهم الظفر تمكنا وسلطانا.
Bilinmeyen sayfa