قال: لا يا مولاي.
قال: دعوناك لنستعين بعلمك على رد كيد الخائنين أهل الغدر.
قال: إني رهن إشارة أمير المؤمنين.
قال: هيئ لنا جرعة عسل قاتلة، واسقها في الفجر لفتاة تراها جالسة مع عجوزنا في المقصورة. واحذر أن يعلم أحد بذلك.
قال: اطمئن يا مولاي، إن هذا الأمر طالما قمت بأمثاله طوعا لأمر أبيك ولم يعلم به أحد.
قال يزيد: امض الآن وأعد العقاقير واستعن بحبيبنا عبيد الله على ذلك.
فوقف الطبيب وقبل يد الخليفة وخرج، ومضى الخليفة إلى فراشه، وسار عبيد الله إلى غرفته، وسر شمر بنيل بغيته. •••
فلنترك أبا الحكم يهيئ جرعة العسل، ولنعد إلى عامر وما كان من أمره بعد خروجه من الدير، وكان قد غادره مرغما وقلبه معلق بسلمى؛ خوفا عليها مما عرضت نفسها له من الخطر العظيم. ثم قعد في مكان ظليل يشرف على المارة، حتى رأى موكب سلمى مارا إلى دمشق، فانصدع قلبه وندم على مجاراتها وخاف أن تقع في الفخ فتذهب جهودها هي الأخرى ضياعا.
ولبث في مكانه بالغوطة حتى توارى الموكب فلم يعد يستطيع صبرا، ونهض فسار إلى دمشق وهو يفكر في سبيل يدخل به دار الخليفة ليستطلع أحوال عبد الرحمن وسلمى، وما زال ماشيا حتى دخل دمشق، فتوجه إلى المسجد وهو يعلم أن دار الخليفة بجانبه، فلما أقبل على الجامع رآه مزدحما بالمصلين وقد وقف يزيد يخطبهم، فأخذ مكانه بينهم، وراح يتفرس في الوجوه لعله يرى أحدا يعرفه ليستعين به أو يسترشده، فوقع نظره على فتى قابع بجانب أحد أعمدة المسجد يسمع الخطبة. وخيل إليه لأول وهلة أنه يعرفه، ولما تفرس فيه جيدا تذكر أنه رآه في غير ذلك المكان، ثم ما لبث أن عرف أنه الفرزدق الشاعر المشهور، وكان يومئذ في أول العقد الرابع من عمره لم يتزوج من «نوار» بعد. وكان سبب معرفة عامر به أن غالبا أبا الفرزدق جاء إلى الإمام علي بعد وقعة الجمل بالبصرة (سنة 36ه) ومعه ابنه الفرزدق وكان صبيا وقال لعلي: إن ابني هذا من شعراء مصر فاسمع منه، فأجابه علي: «علمه القرآن.» وكان عامر حاضرا ذلك المجلس، ثم شاهد الفرزدق بعد ذلك بأعوام في الكوفة وقد صار شابا فذكره بما قاله الإمام فقال الفرزدق: «إن تلك الكلمة ما زالت ترن في أذني، وقد قيدت نفسي يومئذ عن الشعر فآليت ألا أقوله حتى أحفظ القرآن.»
وكان عامر يعلم أن الفرزدق يكتم تشيعه لأهل البيت، فرأى أن يستعين به، فلما انقضت الصلاة وتفرق الناس، تبعه ورآه يعرج نحو القصر، فاعترضه وأوقفه وحياه، فعرفه الفرزدق ورحب به، ودعاه إلى منزله، فلما اختليا شكا له عامر حاله وهو يبكي، فاستغرب الفرزدق حكايته وقال: ما العمل الآن؟ وما الذي أستطيعه؟ إن الأمر خطير كما ترى، ولو أن عبد الرحمن شاورني لأشرت عليه بألا يقدم على ما أقدم عليه. إن الأمر قد استتب للقوم، ولا حيلة في النجاة من أيديهم، ولن يفيدنا التمرد شيئا.
Bilinmeyen sayfa