قال عامر: ربما اصطاده، ولكنه لا يستطيع ذلك وحده، فإن بعض البزاة إذا أطلقتها على غزال رفرفت على وجهه واعترضت مسيره فتعوقه عن الفرار السريع ريثما يدركه الكلب أو الفهد فيرديه. أما حمار الوحش فإن الفهد يصطاده، وقد يصطادونه بالنبال، وحمار الوحش كثير في «جرود»، وهي قرية في هذه الغوطة.
وكانت سلمى مصغية تسمع حكاية الصيد وهي تعرف شيئا منه، ولكنها لم تكن تعرف هذا التفنن فيه، فلما وصل عامر إلى هذا الحد ظهر من رنة صوته أنه يهم بإنهاء الحديث فقالت سلمى: ولكنني أرى جماعة من هؤلاء الغلمان يسوسون قرودا منها قرد عليه قباء من حرير أحمر وأصفر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بديعة، وقد ركب أتانا وحشية عليها سرج من الحرير الأحمر منقوش بألوان جميلة، وبين يديه خادم يسوسه ويطعمه الفاكهة من يده، فما هو شأن هذا القرد؟
فضحك عامر وقال: هذا هو «أبو القيس»، وقد رباه يزيد وسماه بهذا الاسم، فإذا جلس للشراب مع منادميه طرح له مقعدا معهم، وهو قرد خبيث كثيرا ما يركب هذا الأتان ويخرج لمسابقة الخيل في أيام السباق، وقد يحوز قصب السبق عليها كلها. •••
اشمأزت سلمى مما سمعته عن يزيد، وقالت: أإلي هذا الحد بلغت حال الخلافة! أين هذا من عصر الخلفاء الراشدين، وقد كانت أثوابهم من الكرباس الغليظ، ونعالهم وحمائل سيوفهم من الليف، وكانوا يمشون في الأسواق كبعض الرعية! هكذا كان أبو بكر، وكان عمر بن الخطاب، وهكذا كان علي بن أبي طالب! أين الزهد والتقوى! أين العدل والقسط! أين الحزم والعزم! أين العلم والفضل! وا أسفاه على الإسلام والمسلمين.
فابتدرها عبد الرحمن وقال: رويدك يا سلمى، إن وقت النجاة قريب، ولا أظنك بعد ما سمعت ورأيت تترددين في إطلاق حريتي فيما عزمت عليه، وإن غدا لناظره قريب.
فتنهدت سلمى وأطرقت وكأن قلبها قد دلها على خطر يهدد حبيبها، ولكنها ظلت صامتة، وبينما هم في ذلك إذ علا نباح الكلاب في باحة الدير، فتحولوا إلى النافذة المطلة على تلك الباحة ليروا ما هناك، فإذا الخليفة ورجاله قد جلسوا على طنافس فرشت لهم تحت الصفصافة، وبين أيديهم مختلف ألوان الفاكهة، والرهبان وقوف بأقداح الماء المحلى بالسكر وأنواع الأشربة الحلوة التي يستخرجها الرهبان من الثمار، وفيها أصناف الخمور المختلفة، المستخرجة من العنب والتفاح والبلح، وكان الرئيس جالسا باحترام بين يدي يزيد، وبيده قدح من الفضة يقدمه له ليشرب، ولكن الصفصافة حجبت كثيرا من ملامح الجالسين، فلم يكن يبدو إلا بعضها من خلال الأغصان، كما أن عواء الكلاب كاد يصم آذانهم ويشغلهم عن تتبع ما يجري في ذلك المجلس الطريف.
وكان سبب ذلك العواء أن كلاب يزيد حينما تبعته إلى باحة الدير وعليها الألبسة والأساور كما تقدم، كان شيبوب وصاحبه نائمين على دكة في بعض جوانب الباحة، فلما شعر الشيخ بمجيء يزيد ارتعدت فرائصه ولم يعد يستطيع البقاء، فهرول وانزوى في مستتر من الدير ولم يدع شيبوب لمرافقته، فظل الكلب متكئا حتى دخل يزيد وانتشرت كلابه تحت الصفصافة، واشتم شيبوب رائحتها فكان أشد نفرة ورعدة من صاحبه، فأخذ في النباح وكذلك فعلت كلاب يزيد.
فلما طال النباح، أمر الرئيس بعض الرهبان أن يطرد شيبوب من ذلك المكان، فقام الراهب بذلك، وركض شيبوب إلى السلم فصعد إلى السطح، وكان لعلية الرئيس كوة واطئة تشرف على السطح فأدخل الكلب رأسه منها، فرأى سلمى ورفيقيها فحمحم مستأنسا بهم، ثم وثب إلى الداخل ودنا من سلمى وقد أرخى أذنيه وهز زيله، فاستأنست هي به وجعلت تمسح رأسه بيدها وهو يدنو منها ويحك جنبه بثوبها، على أنها خافت أن تشتغل به عن مشاهدة مجلس يزيد، فشغلته بثمرات جافة كانت في جيبها، وكان شيبوب قد ألف أكل الفاكهة مثل صاحبه وإن لم يكن هذا طبعه، ثم عادت سلمى إلى التطلع من النافذة، وأهل الباحة مشتغلون عنها بخدمة يزيد وإكرام وفادته، وكلابهم لا تزال تنبح، فلم يكن من شيبوب إلا أن أجابها بنبحة ارتجعت لها العلية واستلفتت انتباه الجالسين تحت الصفصافة، فالتفت بعضهم إلى جهة الصوت وفي جملتهم عبيد بن زياد رفيق الخليفة وصديقه، فوقع بصره على وجه سلمى فلم يتمالك عن الإعجاب بجمالها وهيبتها، وشعر بجاذب جذب قلبه إليها وامتلك عواطفه.
أما هي فلحظت انتباه الناس لنباح شيبوب والتفات بعضهم إلى العلية ووقع نظر ابن زياد عليها، فهرعت إلى الداخل وقد غلب عليها الحياء وتبدلت هيئتها. كان عامر وعبد الرحمن مشتغلين عن ذلك بالحديث، فلما عوى شيبوب وتحولت سلمى عن النافذة التفتا إليها فإذا هي قد احمر وجهها وظهر عليها الاضطراب ، فابتدرها عبد الرحمن بالسؤال عن سبب ذلك، فأظهرت أنها لا تبالي، وقالت: إن نباح هذا الكلب قد استلفت أنظار بعض الجالسين بين يدي الخليفة فتطلعوا إلى النافذة.
فقال عبد الرحمن: وما الذي تخافينه؟
Bilinmeyen sayfa