وفيما هم في ذلك وقد علت الضوضاء، رأت سلمى فارسا مقبلا من معسكر أهل الكوفة يستحث فرسه نحو الحسين، وكان الحسين واقفا ينتظر ما يبدو وهو لا يصدق أنهم يحاربونه، فلما رأى الفارس مقبلا لبث يتوقع وصوله، ولم يكد يقترب حتى عرف أنه الحر بن يزيد الذي كان قد لقيهم قبل وصولهم إلى كربلاء، ورأته سلمى أيضا من خلال الخيام فعرفته وتعجبت لقدومه، فلما وصل إلى الحسين رمى قوسه بين يديه وهو يقول: جعلت فداك يا ابن بنت رسول الله، أنا صاحبك، حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق، جعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم ويبلغون بك هذه المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، فإني تائب إلى الله مما صنعت، فهل لي من توبة؟
فقال له الحسين: «نعم يتوب الله عليك، فانزل.»
قال: فأنا لك فارسا خير مني راجلا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول آخر ما يصير أمري.
فقال له الحسين: «فاصنع ما بدا لك.»
فلما سمعت سلمى كلام الحر دمعت عيناها وقالت في نفسها: هل يشعر مثل هذا الشعور ابن زياد أو يزيد؟ ثم رأت الحر يسوق فرسه أمام الحسين نحو أهل الكوفة فتبعته ببصرها وأذنيها، لترى ما يكون منه فإذا هو ينادي أهل الكوفة قائلا: يا أهل الكوفة، لأمكم الهبل والعبر، دعوتم هذا السيد الصالح، حتى إذا جاء أسلمتموه. وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه؟ ثم عدوتم عليه لتقتلوه، وأمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ومنعتموه ونساءه وصبيته وأهله من ماء الفرات الجاري، يشربه اليهود والنصارى والمجوس، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه؟ فها هم قد صرعهم العطش. بئس ما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ.
ما أتم الحر بن يزيد كلامه حتى حمل أهل الكوفة وفي مقدمتهم عمر بن سعد، وكان عمر هذا أول من رمى سهما في الوقعة، وتصاول الفريقان وتراموا بالسهام حتى وقع بعضها في الخيام.
وكان النهار قد أضحى وسلمى تشاغل الطفل وتسكته، وقلبها يميل إلى النزال لعلها تلقى أجرا في الدفاع عن الحق، وشاعت عيناها وهي تنظر إلى القوم عن بعد لعلها ترى ابن ذي الجوشن فلم تره بين الرجال، فطلعت على مرتفع والطفل بين ذراعيها تقيه بكفيها وزنديها وقلبها يختلج. فأرسلت بصرها في ذلك السهل فرأته مملوءا بالرجال والفرسان من أهل الكوفة بما يزيد عددهم على أربعة آلاف، وليس مع الحسين إلا اثنان وثلاثون فارسا وبعض الرجالة، ولكنها رأت رجال الحسين لا يحملون على جانب من جوانب العدو إلا كشفوه، ثم ما لبثت أن رأت الحر بن يزيد وقع قتيلا، ووقع غيره، فحولت بصرها إلى الحسين فرأته لم يحمل بعد، فما زالت ترجو أن يستبقوه إذا ضعف أمره أو قتل رجاله، ولم تستطع سلمى البقاء هناك خوفا على الطفل من نبل يصيبه، فعادت إلى الفسطاط فرأت زينب وسكينة وفاطمة يبكين بجانب فراش المريض، وسمعته يخفف عنهن ويهون عليهن كأنه شيخ محنك وما به من مرض، ولما رآها مقبلة وأخوه بين ذراعيها يبكي، قال لعمته وأخته: قمن فاستسقين له واتركنني فلا بأس علي، فصاحت زينب: ومن أين نستسقي له وهو يسقينا؟ يا ليته يشرب الدمع فنرويه من آماقنا! قالت ذلك ونهضت إلى الطفل فتناولته وجعلت تقبله وهي تبكي وتضمه إلى صدرها، فبكت سلمى مثل بكائها، ولكنها رأت من الحكمة أن تتجلد وتصبرها، فاسترجعت الطفل إلى حجرها وقالت: تصبري يا سيدتي وسكني روعك، لعل الله يأتينا بفرج من عنده.
وكانت الشمس مالت عن خط الهاجرة فسمعت سلمى في المعسكر أصواتا متداخلة، فهرعت وخرجت من الفسطاط، وخرجت زينب في أثرها، فرأت الحسين يصيح في رجاله يدعوهم إلى صلاة الخوف، فتجمع الرجال ووقفوا والنبال تتساقط عليهم وصلى فيهم الحسين صلاة حارة يخشع لها قلب الجماد، فلما فرغوا من الصلاة تجددت آمالهم واطمأنت قلوبهم - والصلاة أحسن معز للإنسان في ضيقه - فتقدم أحد رجال الحسين حتى أقبل على أهل الكوفة، وفيهم حملة النبال والسيوف بين فارس وراجل، وقال لهم: يا قوم، إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد. يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم الله بعذاب، وقد خاب من افترى. قال ذلك وهجم وهو يقاتل حتى قتل، وهجم غيره في أثره، وما زال رجال الحسين يقاتلون حتى لم يبق منهم إلا أهل بيته خاصة.
حدث ذلك وسلمى لا تدري ماذا تعمل، والطفل بين يديها، وقد شغل خاطرها بالغلام المريض، فلما رأت رجال الحسين يقتلون طار خوفها ونسيت مصيبتها وغلب عليها اليأس، وأحبت أن تخالف الحسين وتقاتل معه، ولكنها لم تجد سبيلا إلى ذلك والطفل يتوجع وقد تقطع قلبها لبكائه، وفيما هي في تلك الحيرة بباب الخباء رأت عليا الأكبر ابن الحسين، وهو شاب أصبح الوجه جميل الصورة، في التاسعة عشرة من عمره، تنبعث الهيبة من عينيه، قد هجم على القوم بسيفه وهو ينشد قولا حماسيا، فخيل إليها أنه فرج مرسل من السماء، ولكنها ما لبثت أن رأته أصيب في صدره فخر صريعا يتخبط بدمه، وكان أبوه الحسين بالقرب منه فصاح: «قتل الله قوما قتلوك يا بني، ما أجرمهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول!» قال ذلك وانهملت الدموع من عينيه، فلم تتمالك سلمى أن صاحت: قتلوه قتلهم الله.
وما أتمت كلامها حتى رأت زينب تهرع وهي تنادي: وا أخياه وابن أخياه! وجاءت حتى أكبت عليه، فأخذ الحسين برأسها فردها إلى الفسطاط، ونادى فتيانه فقال: «احملوا أخاكم.» فحملوه حتى وضعوه في الفسطاط، فتكاثرت النبال المتساقطة هناك فأصيب غيره، وكلما أصيب واحد حملوه إلى ذلك المكان.
Bilinmeyen sayfa