وقبل أن يفترق عنه بين له حقيقة الحال التي صار إليها، وأنه أصبح صفر اليدين لأني خنته وتصرفت في ثروته، فعندما سمع أنتونيوس ذلك أسرع إلي وعيناه متقدتان وطلب إلي أن أدفع له ما بقي من المال، فأمهلته إلى المساء ريثما أنهي الحساب.
وهكذا خلوت بنفسي وأخذت أفكر بأقرب الطرق التي يمكنني بها الفرار من وجه أنتونيوس، فلم أجد أوفق من أن أنسب إليه الجنون بعد أن أتواطأ مع طبيب آخر من حزبنا لإعطاء الشهادة بذلك، ثم أرسله إلى البيمارستان حيث لا تطلق حريته حتى يتنازل عن حقوقه. وهكذا ذهبت إلى صديق لي يدعى بيتروف لأطلعه على مقاصدي. وبينما كنت سائرا التقيت بماكيري فأعلمني بما جرى له مع أنتونيوس، وأنه يود الانتقام منه، فقلت له: إنك تكون أعظم مساعد لي في هذا المشروع ... وهنا انقطع صوت سنيري وفاض دمعه كالسيل ثم نظر إلي ، وقال: العني يا مستر فوكهان؛ فإني مستحق أن أتحمل كل أنواع الاحتقار، لأني مجرم، ولكن يشهد الله بأني لم أقصد قتله البتة، بل كنت أود من صميم قلبي أن يحيا ذاك الفتى الذي قضى ضحية الظلم والغدر، وما كنت لأسكت عن شكاية ماكيري لولا خوفي من أنه يفشي أسرار جمعيتنا لدى الحزب الملكي الذي كنا أضدادا له بل لكل ملك مطلق.
ثم عاد لإتمام حديثه فقال: وعند المساء حضر أنتونيوس وشقيقته إلى منزلي، وكنت حينئذ مجتمعا مع ثلاثة أشخاص منهم الطبيب، وقد عرفت القصد من إحضاره مع اثنين آخرين وهما ماكيري وشخص آخر أفهمتهما أن يثبا عليه حينما يجداه في حالة الغضب الشديد من جراء فقد المال، ويوثقاه ثم يحملاه إلى مأوى المجانين. وعندما دخل أنتونيوس نظر إلى رفاقي بازدراء، فعلمت المغزى من تلك النظرة، ولكني تجاهلت عنها والتفت إلى بولينا قائلا: يمكنك أيتها العزيزة أن تخلي لنا المكان برهة وجيزة؛ لأني أريد أن أخاطب أخاك على حدة. - لا لزوم لذلك كما أظن، ولكن إذا كانت هذه إرادتك فسأفعل.
قالت ذلك وانثنت راجعة إلى غرفة أخرى محاذية لغرفتنا، وجلست قرب البيانو ثم جعلت توقع بعض الألحان بصوت رخيم. وبعد قليل قلت لأنتونيوس: إن ما استدعيتك لأجله هو المخابرة بشأن ثروتك وثروة شقيقتك التي اؤتمنت عليها. - حسنا، ولكني لا أرى داعيا لحضور الغرباء بيننا في وقت كهذا. - ولكنهم ليسوا غرباء كما زعمت، بل أصدقائي المخلصون، كما وإنهم سالكون في نفس الطريق التي أنا سالك عليها، والتي أريد أن أخاطبك عنها. - ولكني لا أريد أن رجلا كهذا يعلم بأسراري.
قال ذلك باحتقار وأشار إلى ماكيري، أما هذا فلم تفت أعينه البراقة تلك النظرة، فاحمر وجهه وتقدم نحونا متمهلا وقد ستر يده بذيل جبته، غير أن أنتونيوس أعرض عنه بازدراء ثم جلس على كرسي، وقال: أريد من الآن وصاعدا أن تكون بولينا وثروتها تحت مطلق عنايتي؛ ومن ثم لا يطمع بها أحد الأوغاد كهذا الرجل الإيتالياني صديقك ... هذا كان آخر ما نطق به ذلك المسكين، ولم يكن إلا كلمح البصر حتى علت صدره يد ذاك الخبيث، فنظرت إليه نظرة تعني أنه لم يحن بعد وقت إمساكه، ولكنه كان قد سبق فأغمد خنجرا في صدر المسكين فأذاقه كأس الحمام.
ولما أبصرت بولينا من الغرفة الثانية ما حل بأخيها، انقطعت عن الغناء وصرخت صوتا مزعجا وسقطت مغشيا عليها، فبادر بيتروف لسد فيها خوفا أن ينم علينا أنينها المتواصل، ورمى عليها قطعة من القماش، ثم استدعى تيريزا فلبثت بجانبها كل الليل.
أما أنا فبقيت كالصنم لا أبدي حراكا، بينما كان ماكيري واقفا بجانب فريسته والخنجر لم يزل بيده يقطر دما ... وفي تلك الدقيقة دخل رجل فظن الجميع أنه رسول الانتقام، فتقدم ماكيري يريد أن يبطش به، فأوقفته كي أستوضح كلمات ذلك المسكين بقوله إنه أعمى.
وعندما تأكدت صدق مدعاه أسقيته كأسا من المسكر أضاع منه الرشد، ثم أرسلت بيتروف فأتى بعربة أغريت سائقها بالتخلي عنها بضعة دقائق. وبالحال حمل بيتروف الأعمى إلى العربة وابتعد به مسافة ميلين عن شارع هوراس ثم عاد فأرجع العربة إلى حوذيها وانضم إلينا.
وفي اليوم الثاني أشعت الخبر في المدينة، أن قد فاجأ المستر مارك مرض شديد، وكان الطبيب بيتروف يأتي في كل يوم لعيادته.
وبعد أسبوع نعيناه للأصدقاء، وكان الجسد حينئذ ملفوفا بالأكفان وموضوعا في نعش داخل غرفة خصوصية. وبعد أن انتهت فروض التعزية ذهبنا به إلى إيطاليا وواريناه قبر والدته، ونقشنا على الحجر اسمه وتاريخ موته، وبذلك أمنا كل خطر.
Bilinmeyen sayfa