أول أبريل‏

ثمن زوجة‏

الذكرى‏

مفترق الطرق‏

التطوع للعذاب‏

القيء‏

الهذيان‏

فتوة العطوف‏

حلم ساعة‏

أول أبريل‏

ثمن زوجة‏

الذكرى‏

مفترق الطرق‏

التطوع للعذاب‏

القيء‏

الهذيان‏

فتوة العطوف‏

حلم ساعة‏

فتوة العطوف

فتوة العطوف

تأليف

نجيب محفوظ

أول أبريل

في منتصف الساعة السابعة صباحا وصل علي أفندي خليفة إلى المدرسة التي هو سكرتيرها، كعادته منذ خمسة عشر عاما، وباشر أعماله بالأسلوب الذي تعوده وألفه وصار قطعة من صميم حياته؛ إذ إن كل ساعة من حياته الحكومية كانت تسير على وتيرة واحدة لا تتبدل ولا تتغير، يدخل إلى «حجرة السكرتارية» فيحيي زملاءه - الكاتب والضابطين - تحية الصباح، ويجلس إلى مكتبه ثم يحضر عم خليل بالقهوة والماء المثلج، فيمضي في احتسائها وهو يتحدث إلى القاعدين أو يستمع إليهم، ثم يأخذ في فتح الدفاتر ويراجع ويكتب. ثم تخلو الحجرة حين يذهب الآخرون إلى فناء المدرسة لمراقبة التلاميذ وتنظيم صفوفهم، ثم يخف بعد ساعة من الزمن إلى لقاء الناظر لعرض الأوراق واستشارته في بعض الأمور وتلقي الأوامر والإرشادات. وإذا جاء اليوم الأول من الشهر ازدحمت حجرته بالمدرسين والموظفين وامتلأت يده بالأوراق المالية، فلا يزال يوزعها حتى لا يبقى إلا وريقات معدودة يودعها جيبه ساعة ريثما يوزعها بدوره أشتاتا على صاحب البيت والقصاب والبدال.

هكذا تدور عجلة حياته فتبدأ من نقطة وتعود إليها، ثم تبدأ وتعود بحيث لو شذت عن الخط المرسوم بمقدار ذرة - كأن يتأخر عم خليل بالقهوة دقيقة أو يدق الجرس فيبطئ الضابط لحظة في مغادرة الحجرة - قلق واضطرب واهتز رأسه يمنة ويسرة، مثله مثل النائم في ظل ساقية دائرة إذا وقف الثور لعلة انتفض مستيقظا منزعجا! إلا أن طارئا من الحدثين نزل بساحته أخيرا فبدل طمأنينته رعبا وسكينته قلقا وتفاؤله تشاؤما، وكان الكاتب يعلم بخبيئته من دون الآخرين؛ لأنه كان أحب الناس إليه وأقربهم مودة إلى قلبه، فلما رآه هذا الصباح دنا منه وفنجان قهوته في يده وسأله همسا: كيف حالك؟

فأجابه بصوت تمزقه نبرات اليأس: يسير من سيئ إلى أسوأ. - ألا يوجد بصيص أمل؟ - أبدا .. أبدا .. لا بيع ولا شراء .. الحركة راكدة، والديون متراكمة، والتجار يطالبون ويلحون ولا يعذرون، وبات شبح الإفلاس مني قاب قوسين أو أدنى .. فإذا وقع - ولا مرد له - خربت خرابا تاما، ودمرت حياتي وحياة أولادي تدميرا، وهويت إلى أعماق السجون.

فتنهد علي أفندي من قلب مكلوم، وقال بصوت خافت: لا أمل في النجاة.

فسكت الرجل محزونا، ثم ذكر أمرا فسأله: وعمتك؟ - أف .. أف .. لا رحمها الله في دنيا ولا آخرة .. إنها تود لو تفقد ذاكرتها كي لا أخطر لها على بال، ولقد انقطعت عن زيارتها مضطرا منذ حين؛ لأنها لا تراني حتى تصيح في وجهي: «ماذا جئت تصنع؟! أنا لم أمت بعد!» والمرأة تتبرع كل يوم بمئات الجنيهات للجمعيات الخيرية لا حبا في الخير، ولكن كي لا تخلف لي مالا بعد موتها المتوقع يوما بعد يوم.

فهز الرجل رأسه أسفا، وقال: ليتك يا علي لم ترم بنفسك في ميدان التجارة غير المأمون. - هذا هو الكلام الذي لا جدوى منه .. ومع هذا هل تنكر أن هذه التجارة هي التي يسرت علي أمري وجعلت عيشي رغدا، وأعانتني على تربية ستة من الأبناء؟ •••

قبل ثلاثين عاما كان علي أفندي تلميذا بالمدرسة الابتدائية يجتهد أن يفوز بشهادتها، وقد جرب حظه مرات في سنين متتابعة، فخاب مسعاه فيها جميعا، حتى نفد صبره وذوى أمله. ورأى أبوه أن يفتح له حانوت عطارة في الغورية، لبث فيه عامين يناضل في معترك الحياة، ولكن لم يكن حظه في حانوته بأسعد منه في مدرسته، فاضطر إلى إغلاق الدكان، ورجع خائبا إلى بيت أبيه. وهناك فكر في أمر مستقبله طويلا فوجد أن خير طريقة، أو أن الطريقة الوحيدة الباقية لديه، هي أن يعود إلى نبش كتبه التي نسج عليها العنكبوت، وأن يجرب حظه مرة أخرى كتلميذ مجتهد وإن تقدم به العمر. وفعل ونجح، ووظف كاتبا في وزارة المعارف، واطمأن إلى الحياة بعد أن أشرف على اليأس والقنوط، وغبط نفسه على عمله المضمون الرزق، وأحس في أعماق نفسه بفخار الرجولة ونشوة الاستقلال. ولما كان عرضة للنقل إلى أقاصي الوطن، آثر - عن حكمة - أن يتزوج. وقد جاب مختلف البلدان في مصر العليا والسفلى إلى أن انتهى به المطاف رجلا في ذروة الرجولة إلى مدرسته الحالية فتقلب في وظائفها جميعا حتى رقي إلى وظيفة السكرتير.

وكان علي خليفة مثالا للرجل العادي الذي لا يخرج عن المألوف، وأنموذجا صادقا للأخلاق المصطلح عليها والعادات والتقاليد التي يجري بها العرف، لا يشذ إلى اليسار ولا يجنح إلى اليمين. وجد كل شيء جاهزا، فهش له وآمن به واتبعه، معتقدا مع المعتقدين، مستحسنا مع المستحسنين، ساخطا مع الساخطين، فإن عرفت جيله فقد عرفته بغير مخالطة، وأن خبرته فقد خبرت جيلا أو - وهو الأقرب إلى الحقيقة - خبرت الشطر الجامد من الجيل الذي يفتحه التاريخ إلى ما وراءه من الأحداث التي تخلق التاريخ. ولما تزوج استولت عليه الحياة الجديدة، واستبدت به، وتكشفت له حقيقته، فإذا به «رجل بيت» بكل معاني الكلمة، فالبيت مأواه ولذته، لا مقهى ولا ملهى ولا سينما ولا حانة ولا أصدقاء ولا هوية ولا أي شيء في الوجود بقادر على أن ينتزعه من أحضان بيته. وحين كان يعيش منفردا مع زوجة كانت حبيبة وأنيسة وجليسة، فلما انبثت ذريته - بنين وبنات - حابية ساعية لاعبة مشرفة على أنحاء البيت، كان له منها الحبيب والهوية والمأوى يسكن إليه.

وكانت الحياة تسير في بادئ الأمر هنيئة جميلة ممتعة، لا يكدر صفوها مكدر، ولا يظلل صفحتها البيضاء ظل من الحزن أو الفكر، ولكنها لم تلبث أن فرضت عليه ضريبتها التي لا تعفي منها أحدا من بني الإنسان، حتى صارت عنوانا عليها ورمزا لها، وباتت الشكوى منها إنكارا للحياة نفسها وجهلا فاضحا بأمرها، فمات أبوه ونما أطفاله صبيانا وغلمانا، وهجروا عشهم سعيا إلى المدارس الأولية والابتدائية ثم الثانوية، وتعددت حوائجهم، وتشعبت مطالبهم وتضاعفت نفقاتهم يوما بعد يوم، فانقلب يسر الحياة عسرا، وراحتها تعبا، وابتسامتها تجهما، وانسابت الهموم إلى كل جانب من قلبه، وطفق يردد لنفسه أن كل شيء يهون إلا أن يشقى أو يشكو هؤلاء الأبناء الأعزة.

وتذكر أن له عمة أرملة غنية تعيش بمفردها في بيت كبير تحت رعاية ممرضة، وكان يتجافاها وينفر منها من طول ما بث أبوه في نفسه، ففكر في أن يقصد إليها مضطرا.

وكانت عمته امرأة في السبعين، مات عنها زوجها - قبل أربعين عاما - وهما في زهرة العمر وميعة الشباب وخلف لها ثروة طائلة وطفلا وحيدا، وقد ترك موت الزوج في نفس المرأة آثارا عميقة مروعة تغلغلت في صميم حياتها، ولم تعف مع كر الأعوام ودوران السنين. وأقبلت على العزاء الوحيد الذي بقي لها في دنياها تمنحه كل ما في قلبها الحنون من عطف وحدب وتضحية، حتى شب طفلا جميلا، ونما شابا رقيقا نحيلا، وبدأت تفكر في أمر زواجه، كي تراه رب أسرة وتسعد بمشاهدة ذريته، إلا أن الأقدار فاجأتها بما لم يقع لها في حسبان، فتردى الابن كما تردى أبوه العزيز من قبل مصدورا ميئوسا منه، وقضى بين السعال من جانبه والتنهد والبكاء من جانبها.

انتهى كل شيء، وأقفرت الدنيا من الأمل والعزاء، وماتت حية، ودفنت مع ولدها الحبيب كل ما ميزها الله به عن الأحجار الجامدة، وصدق عليها كل ما وصفها به أخوها من قبل وما يصفها به ابنه الآن؛ فهي المرأة العجوز القاسية المجنونة التي تكره الخلق وعلى رأسهم أقاربها، وتسيء الظن بكل من يتقرب إليها، وتخال أي زائر طامعا في أموالها، وتقضي حياة الكبر طريحة الفراش مريضة القلب تسهر عليها ممرضة في بيتها المهجور كأنها مومياء في أحد معابد الكرنك الحزينة.

هذه هي عمته التي قصد إليها بعد أن اشتدت وطأة الحاجة عليه، وقد استقبلته استقبالا باردا جافا، فلم يأنس في نفسه الشجاعة أن يفاتحها فيما جاء من أجله، وبرح بيتها أشد بؤسا مما طرقه.

وقلب مسألته على جميع الوجوه فلاح له أن يشتغل بالتجارة وهو حل لا بأس به، ولكنه شديد الخطورة بالنسبة لموظف حكومي. ولكنه لم ييأس واستعان بالكتمان والخفاء وبخبرته التجارية التي اكتسبها في أول عهده بالحياة العملية، فاتجر في العطارة ونجحت تجارته، وأقبلت عليه الحياة رغدة، ولكن حال النجاح لم تدم، فساءت الأمور وركدت السوق النافقة، فجزع واشتد جزعه، ولعبت يداه في الدفاتر بغير الحق، ولم ينفعه تلاعبه شيئا، وسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، واضطر - تحت تأثير الخسران - إلى زيارة عمته مرات وفاتحها - على رغم تردده - في طلب المعونة، ولكنها كانت أشد عليه من حظه ومن الأقدار جميعا، فرفضت أن تمد له يدا أو أن تعيره أذنا صاغية. وفي ذلك الوقت بلغت الأمور شدة الفيضان الذي لا يكون وراءه إلا الانفجار والهلاك؛ فالعمة في أشد حالات الشذوذ وسوء الطبع والمرض، وعلي أفندي على شفا جرف هار من الخراب والدمار، والتجار متذمرون جزعون، يطالبون ويلحفون ويطبعون على آذانهم فلا يسمعون، وقد عينوا له أول أبريل كآخر منزع في قوس صبرهم، فإن لم يسدد دينه ويسو حالته أشهر إفلاسه، وليكن ما يكون بعد ذلك من رفته من وظيفته أو إيداعه السجن .. كل هذا ينتظره في أول أبريل! وما بينه وبين أول أبريل إلا أيام معدودات .. وقد نفدت حيلته وسدت في وجهه المنافذ! .. ثم ماذا يكون من أمر هذه الأسرة التي هي ثمرة حياته ومحيا آماله؟! هذه الأسرة التي تعيش سعيدة مطمئنة غافلة عما يهددها من الشقاء والبأساء، اللهم إلا ربتها الصابرة القانتة التي تشارك الزوج أحزانه، وتبادله همومه، وتكتم في قلبها الكبير ما لو أطلقته لأحرق الدنيا بأسرها من شدة ما به من هول، ولأحرق أول ما يحرق هؤلاء الأبناء السعداء الذين يمرحون سادرين كالأفراخ اللاعبة الغافلة عن القط الرابض لها من قريب .. وذكر في شدة حزنه أبناءه، فهرعوا إلى مخيلته في صورة تفيض حياة وجمالا. وكان حسين ومحمد في المدرسة الثانوية فتيين ناميين يحملان طلعة والدهما ورقة أمهما، وهمام وحافظ وياسين في المدرسة الابتدائية وهم حياة البيت يحيا ويمتلئ هرجا ومرجا ما داموا فيه، ويسكن سكون المقابر إذا غابوا عنه، وزينب أو زوزو في المدرسة الأولية هوية الأسرة ولعبتها، صبوحة الوجه، سوداء العينين، مرسلة الشعر، كانت بنتا بين ستة ذكور كالياسمينة وسط باقة من الورد الندي، حبيبة إلى كل قلب، عزيزة على كل نفس، حتى لكأن هذه الأسرة لم يتزاوج فيها الوالدان ويولد الأبناء إلا ليهيئوا المقام لزوزو؛ حيث كانت حسن الختام ونقطة الانسجام.

فماذا يكون من أمر هذه الأسرة من بعده، بعد أن يرفت من وظيفته ويزج به في السجن؟ أواه! دون ذلك ويمكن المستحيل وتقع المعجزات والخوارق!

ولم يجد مناصا من أن يذهب مرة أخرى إلى عمته علها تلين بعد طول التصلب والصلف والقسوة، فسار في طريقه إليها - وكانت تقيم على مدى منه قريب في شارع محمد علي - مهموما متضايقا يعمل ألف حساب لتلك الزيارة الاضطرارية الثقيلة.

يا لله من هذه المرأة! ما لها لا تموت؟ إن حياتها فرض ثقيل عليها وعليه، وإنها كالبنيان المتهدم ينعق فيه ناعق الخراب والمرض. ورغم هذا فذيول الحياة لا تزال متشبثة بها. إن سعادة نفوس عزيزة رهن بموتها فلم يبقي الله عليها؟ والمضحك المؤلم أنها قد تموت فجأة بداء قلبها بعد اليوم الأول من أبريل بساعات معدودات أو بعد القضاء عليه وعلى أسرته القضاء المبرم. وقد ينفذ هذا القضاء العجيب كما ينفذ أمثاله كل يوم وكل حين مما تحتار في تعليله العقول، وقديما وقف موسى الكليم حياله جزعا لا يستطيع معه صبرا! وطرق الباب ودخل حيث قابلته الممرضة بابتسامة صفراء ذات معنى، فسألها: كيف حالها؟

فأجابته ببرود: بخير.

ووصل إلى مسمعه صوت رفيع مبحوح دلت بشاعته على أنه يخرج من فم خرب يسأل: من الذي تكلمين يا عائشة؟

فارتجف جسمه، وسرت فيه قشعريرة مثل مس الكهرباء، وتردد، وجمد، ثم كز على أسنانه ودخل إلى الحجرة وهو يقول: أنا علي .. كيف حالك يا عمتي؟

فدمدمت، وقالت بتأفف وتبرم: علي!

فحنى رأسه ووقف صامتا، وعادت هي إلى سؤاله قائلة: هل جئت حقا لتطمئن على صحتي؟ - نعم. - وهل يهمك أمر صحتي؟ - طبعا. - إذن لم تخلط السؤال عنها بسؤال شيء آخر؟

فضرب كفا بكف، وقال بصوت حزين: لا تظني بي الظنون. فقد عشت دهرا لا أسألك شيئا ثم ... - ولم تكن تريني وجهك بتاتا .. ولم تكن صحتي أمرا يهمك السؤال عنه. - بالله أعيريني أذنا صاغية .. لقد شرحت لك أحوالي .. أنا مهدد بالخراب بين لحظة وأخرى. اصرفيني عن ذهنك، واذكري أبنائي البؤساء وما ينتظرهم من شقاء. - لم أر أبناءك طول حياتي.

فآلمته لهجتها التهكمية، وحمي رأسه بنار الغضب، ولكنه لم يكن في حال يأذن له بإعلان ما يبطن، فنظر إليها نظرة النمر الواقع في الشرك، وقال وهو يجهد أن يجعل صوته هادئا: إذا منعت عني يدك دمرت لا محالة.

وهنا هبت قاعدة في فراشها وصاحت في وجهه: في داهية! - عمتي ... - لست عمة لأحد. - لا تكوني هكذا. - هكذا أنا .. اغرب عني. ولا ترني وجهك مرة أخرى.

وحاول أن يقول شيئا، ولكن لم يسعفه الكلام، فجمد لحظة؛ حيث هو ملتهب العينين، محمى الرأس، مرتعش الأطراف، ثم غاب عن ناظريها .. ولقي في الخارج الممرضة واقفة تنصت، فقابلته بنفس الابتسامة، وقالت: ككل مرة؟!

فهز رأسه غاضبا، وقال: إنها شر ما في الوجود .. إنني أعجب كيف يؤاتيك الصبر على معاشرتها؟ - إني أقوم بواجبي .. وهي على كل حال لا تعاملني نفس المعاملة.

وتوقف لحظة، لا يدري ما ينبغي أن يفعل، فلاحت منه التفاتة إلى مائدة صغيرة رصت عليها زجاجات الدواء، فتنهد، وقال بغير وعي: لو يتأخر عنها الدواء دقيقة!

ولم تكن المرة الأولى التي تسمعه فيها الممرضة يقول هذا القول؛ فارتاعت لتكراره، ورددت قوله مرتعبة: لو يتأخر عنها الدواء دقيقة!

فنظر إليها بسرعة مرتجفا، والتقت عيناهما لحظة؛ فلمع بينهما ما يشبه البرق، ثم خرج مهرولا وهو ينتفض من هول ما خطر على باله، وهبط السلم مسرعا كأنما يفر فرارا. •••

وجاء اليوم الأول من أبريل، والأيام تسير في دائرتها المفرغة غير عابئة بما تحمل للناس من مسرات وأهوال، لا اختلاف في هذا بين يوم التطير أو يوم التفاؤل، ولم يكن هذا اليوم جديدا في العام ولا جديدا في حياة علي أفندي، ولكن خيل إليه هذا الصباح أنه يستقبله لأول مرة في حياته، بل عجب؛ كيف أمكن أن يوجد كبقية الأيام؟ وكيف أمكن أن يأخذ مكانه الطبيعي بين أيام السنة؟ وهو يحمل له نذير الخراب ولأسرته الشقاء والفناء!

أواه! إن موعده مع التجار أصيل هذا اليوم، ولدى هذا الأصيل يتقرر مصيره. وإنه ليعلم علم اليقين أي طريق هو موليها بعد حين قليل .. بعد ساعات سريعة الجريان.

ومع هذا فها هو ذا يجلس إلى مكتبه يرتشف القهوة، ويقلب الأوراق، ويشترك في الحديث مع هذا وذاك، وكل من حوله منصرف إلى عمله، والتلاميذ في الفناء يضجون ويلعبون، والحجرة هي هي، والمدرسة هي هي، والدنيا هي هي، كأن شيئا لن يحدث وكأن دمارا مروعا لا يوشك أن ينزل بحياة أسرة كبيرة؛ فيذروها ذر الرياح!

والمضحك بعد هذا أن يقال: إن الإنسان حيوان عاقل، وهل يستطيع إنسان أن يرد بنور عقله قضاء يعجز الحيوان عن رده لانعدام عقله؟ ها هو ذا لا يستطيع أن يصرف عن نفسه دمارا يعلم به قبل وقوعه، وكم غير هذا الدمار - مما يجهل - قريب لا يستطيع حياله تصريفا. حقا إن الحياة مأساة مؤلمة مضحكة، ما الذي ينبغي أن يفعل؟ .. إنه يطرح على نفسه هذا السؤال للمرة المائة والألف، ولا يملك إلا تكراره وترديده كالمخبول .. وقد سمع فجأة صوتا يقول: حان الميعاد.

فارتجف جسمه وانخلع قلبه في صدره .. الميعاد .. إنه لا يفكر إلا في ميعاد واحد، ولكن الصوت استطرد مرة أخرى ضاحكا: الساعة تدور في الحادية عشرة، فهيا إلى الوزارة لإحضار المرتبات.

حقا إن اليوم يوم المرتبات، ينتظره آلاف غيره بفارغ الصبر؛ فكيف ينسى هذا؟ وخرج متثاقلا مهموما يولي وجهه شطر الوزارة، وعلى حين فجأة، وبغير تمهيد واع اصطدم فكره الشارد المتوزع في محيط الشقاء بفكرة وامضة، فتنبهت حواسه، وشع من عينيه بريق خاطف، وأحاط به الرعب الذي مسه حين التقت عيناه بعيني الممرضة في بيت عمته بالأمس القريب. لاحت له هذه الفكرة في لحظة سريعة جنونية، رآها كمن يفتح عينين ناعستين في الظلام فتلمحان على غير توقع شبح شيطان ناري، يهدد ثانية ثم يختفي تاركا خلفه الصرع والجنون. وقد جن بغير شك، واستولت عليه الفكرة بقوة مارد مستبد. أي رعب، أي شر، أي مصيبة، أي اتجاه، أي فكرة نيرة، أي خلاص، أي دمار، أي هول، إنها تحمل جميع هذه المتناقضات إلى نفسه المضطربة المريضة، وإن من اليأس ما يعجز عن قلقلة ذرة من الرمال، ومنه ما يزحزح الجبال، وقد جرى منطقه المحموم في طريق ذي عوج: إذا سرق كان جزاؤه المحتوم الرفت والسجن، ولكن إذا لم يسرق لم ينج لا من الرفت ولا من السجن .. إلا أن النتيجة مع السرقة تختلف، فهو بها يستطيع أن يكسب التجار وينقذ تجارته فيضمن لأسرته - وأسرته هي قطب تفكيره - حياة رغدة سعيدة، بل إنه ينوي ما هو شر من هذا وأعظم رعبا، إنه ينوي أن يراود الممرضة - بسلطان المال - على ...! حقا إن هذا فظيع مخيف .. ولكن تأخير الدواء لحظة كفيل بالقضاء على تلك المرأة الشريرة، التي تقع من حياته موقع الزائدة الدودية الملتهبة .. حقا إنها جريمة نكراء ولكنها مضمونة العاقبة وعادلة من الوجهة الإنسانية .. ونفاذها يضمن لأسرته أرغد العيش وأطيبه. وهب أن الممرضة أبت عليه تحقيق غرضه فلن يضيره إباؤها شيئا، وتبقى بعد هذا تجارته، وهذا شيء مؤكد. نعم، إن السجن لا مفر منه، ولكنها سنوات سوف يقضيها - مع الاطمئنان على أسرته - صابرا ويخرج بعدها كي يتمتع بعيشة هانئة ثرية في مكان سحيق .. كل هذا واضح بين ولا بد من تنفيذه بدقائقه، وليكن بعده ما يكون.

واستلم المال واستقل «تاكسي» وقال للسائق بصوت حاول ما استطاع أن يجعله هادئا: إلى شارع محمد علي. نعم إلى البيت لا إلى المدرسة؛ حيث يجد متسعا للتفكير والتدبير. كم هو مرتعب خائف، إن أسنانه تصطك، وأطرافه تنتفض، وأجفان عينيه تتصلب، وريقه يجف، وأنفاسه تبطئ وتثقل كأن يدا جبارة تخنقه.

ووصلت السيارة إلى شارع محمد علي. ود لو لم تصل إليه أبدا. وكان قد دبر الأمر كله في عقله، ولكنه شعر في تلك اللحظة بأنه في حاجة إلى معاودة التفكير مرة أخرى من مبدئه، كأنه لم يطرقه بعد. وهنا اعترضت الطريق عربة كبيرة عرقلت حركة المرور؛ فاضطر السائق إلى إيقاف السيارة، فنظر إلى الأمام ليستطلع ما هنالك فرأى العربة وإلى جانبها شرطي يهدد سائقها، رباه! لقد أرعبه مشهد الشرطي، وأثلج دمه في عروقه، وهم أن يأمر السائق بالرجوع .. وعلى حين فجأة سمع صوتا يناديه قائلا: بابا!

فالتفت مذعورا فرأى زوزو واقفة على سلم السيارة، ووجهها الجميل قريب منه، وكانت تمسك بحقيبتها في يد وتعالج بالأخرى الباب لتدخل إلى أمها. فلما كان لها ما أرادت جرت إليه فرحة مسرورة، فمنعها بيده وسألها بسرعة ولهجة جافة: لم أنت هنا؟ - أنا آتية من البيت؛ حيث كنت أتناول غدائي وذاهبة إلى المدرسة. - حسن .. حسن .. هيا إلى المدرسة بسرعة لئلا تتأخري. - انتظر، عندي لك خبر سار .. هل تشتري لي شيكولاتة نسلة إذا قلته لك؟ - ليس الآن .. هيا .. هيا. - عمتي!

فجمد لسانه في فمه، ونظر إليها نظرة غريبة؛ ففرحت البنت لأنها لفتت انتباهه إليها وقالت: ماتت. - ماتت عمتك!

فرت هذه العبارة من فمه في صراخ مدو .. فازداد فرح الفتاة، وقالت: نعم .. هذا ما قالته لي حميدة «الخادمة» لما سألتها عن تغيب ماما على غير عادتها.

وصرف زوزو بعد أن وعدها خيرا، وأمر السائق وهو يلهث بالذهاب إلى المدرسة، نعم، إلى المدرسة ليسلم بدوره الأمانة إلى مستحقيها. لقد أتاه الفرج دفعة واحدة. لقد أنقذ بعد أن تدلى جسمه في الهاوية، أنقذ من الإفلاس والخراب والسرقة والجريمة والسجن. رباه! إنه لم يقدر هذا، ولم يحلم به أبدا وما كان في مكنة مخلوق مهما رسخ إيمانه أن يقدر هذه النهاية أو يحلم بها .. فالحمد لله .. الحمد لله!

وانصرف من المدرسة سريعا قاصدا بيت «المرحومة»، ووجده كما تعود أن يراه هادئا ساكنا لا صوت ولا نحيب .. فطرق الباب ثم دخل، وقابلته الممرضة، وكانت محافظة - برغم كل شيء - على هدوئها، وقد سألته منكرة: أجئت مرة أخرى؟

فنظر إليها دهشا، وقال: ما أغرب سؤالك! .. ألست على كل حال ابن أخيها؟!

واجتاز بها مسرعا إلى حجرة المتوفاة .. فرآها مستلقية على ظهرها ورأسها مائل نحوه، مفتحة العينين، بل رآها - وهو الأدهى - تنتصب قاعدة، وتشير إليه بيدها الضعيفة مهددة، وتصيح في وجهه: كيف تجرؤ؟ كيف تتجاسر؟ ألم أطردك طردا؟ اخرج .. اغرب عن وجهي.

والظاهر أن المرأة تأثرت من الغضب الذي تملكها فجأة، فسقطت على المخدة من الإعياء والجهد وصدرها يرتفع وينخفض. ووقف أمامها مبهوتا جامدا كالتمثال، ذاهلا لا يستطيع كلاما ولا حركة؛ كأنه ينظر إلى شبح مرعب لا إلى امرأة عجوز منهوكة القوى. وما أحس إلا يد الممرضة تسحبه إلى الخارج، فاستسلم لها طائعا، وغادر البيت دون أن ينبس ببنت شفة.

وقطع الطريق إلى بيته والذهول مستول عليه، وكان البيت يخيم عليه السكون - كعادته - إذ الأولاد في المدرسة. فظنت زوجه لأول وهلة أنه آيب من مكان عمله كعادته اليومية، ولكنها ما لبثت أن طالعت ما يكسو وجهه من آيات التجهم والذهول، فتملكها الروع والذعر، وظنت أن ما تشفق من حدوثه، وترجو الله آناء الليل وأطراف النهار دفعه قد وقع، وفزعت إلى سؤاله وهي أكره ما تكون للسؤال: ما بالك؟

فسألها بدوره بامتعاض: أين زوزو؟ - لعلها في الطريق إلى البيت .. فصاح بغضب: هذه الطفلة الشريرة؟ - زوزو شريرة؟

قابلتني في الطريق منذ ساعتين، وكذبت علي الشيطانة قائلة إن عمتي ماتت.

فضربت المرأة صدرها بيدها، وقالت بدهشة: كيف تجرؤ؟ من أين لها هذا الكذب؟ هذا أمر عجيب .. بل إنه أعجب شيء أسمعه في حياتي .. لعل البنت وهي تسمعنا دائما - نتمنى على الله موت عمتك - أرادت ...

ولم تتم حديثها إذ دق الباب ودخلت زوزو. وما إن رأت والدها حتى رمت حقيبتها وجرت نحوه ضاحكة، وقفزت إلى حجره وأحاطت بيدها عنقه، ثم قالت وهي لا تسكت عن الضحك: هل اشتريت لي الشيكولاتة كما وعدت؟

فنزع يدها الصغيرة عن رقبته بشيء من العنف، وحدجها بنظرة قاسية، ثم سألها بخشونة وهو يدفعها عن حجره: كيف تكذبين علي؟

قالت وهي لا تكف عن الضحك، وإن بدأت تدرك صعوبة الاستيلاء على الشيكولاتة: في أي يوم نحن : إني أسألك كيف تكذبين علي؟ - اليوم أول أبريل .. وقد علمت أنه يجب على الناس أن يكذبوا فيه .. وهكذا قالت لي بثينة، وقد سألت «أبلة» فأمنت على ما قالت بثينة، ولكنها نبهت علي أن أختار كذبة سارة كي لا أوذي أحدا .. وقد اخترت لك أحسن كذبة!

فقطب وجهه، وقال لها بشدة: لعنة الله عليك وعلى أول أبريل .. هل يصدق الناس طول العام كي يلهوا بالكذب في أول أبريل؟!

وهنا فقط أدركت زوزو أنها أخطأت، وأن والدها غاضب عليها حقا، وأنها فقدت كل الأمل في الشيكولاتة، فكفت عن الضحك، وعلا محياها الارتباك، واحمرت وجنتاها من الخجل، ونظرت إلى أمها تستغيث بها. أما أبوها فقد قام متثاقلا، ودلف إلى حجرته حزينا كئيبا ينوء بالهم والفكر. ولحقت به زوجه وانتبذت ركنا من الحجرة في صمت ووجوم. وقفت ترمقه بعينين كئيبتين وقلبها يحدثها بدنو شر مستطير، ولكنها لم تجرؤ على تمزيق هذا الصمت الغليظ. انتهى الأمر وخابت المحاولة الأخيرة وآذن الخراب بالوقوع.

هل ينتحر ويضع حدا لهذه الحياة القلقة المنغصة؟ فقد اضطرب عقله بهذه الفكرة الهائلة لحظة، ولكنه تغلب عليها وفندها قائلا لنفسه: «إذا انتحرت فمن للأولاد؟» .. ولم يجد أمامه سوى الاستسلام والنزول عند حكم المقادير.

وظل الصمت مخيما يزهق النفوس، والمرأة واقفة حيث هي، وهو قاعد على الكنبة مسندا رأسه إلى كفيه، وقد ظهر رأس زوزو من الباب لحظة ولاحت عيناها تدوران بين والديها، ثم ارتدت مسرعة، فارة مضطربة.

ولبثا على حالهما لا يشعران بفوات الوقت حتى تيقظا فجأة على طرق الباب، ووصلت إلى مسمعيهما أصوات الأولاد وهم يدخلون واحدا واحدا، يتقدمهم ضجيجهم وجلبتهم، وقد دبت الحياة في البيت وتحول في ثانية إلى سوق، وعلا صياح من هنا وصراخ من هناك، وسمعت أصوات تنادي، وأخرى تسب وتلعن، وثالثة تنشد بعض الأناشيد المدرسية، ورابعة تسأل عن ماما وبابا. ثم طرق الباب مرة أخرى بعنف، ودخل شخص ما، وساد صمت عجيب. ترى من القادم؟ لقد دق قلب الرجل بعنف واعتدل في جلسته، وعيناه تتساءلان، ونظر إلى الباب كأنه يتوقع سقوط صاعقة .. ورأى حسينا يدخل مسرعا، وسمعه يقول باضطراب: بابا .. يقولون إن عمتي توفيت!

فقام الرجل كالمجنون وحدج ابنه بنظرة هائلة، فقال الابن: حضرت الممرضة الآن حاملة هذا الخبر .. وها هي ذي واقفة تسأل عنك .. تفضلي إلى هنا يا سيدتي. •••

في ساعة متأخرة من ليل ذاك اليوم - يوم أول أبريل - جلس علي أفندي إلى جانب زوجه وكانت لا تزال في ثوب الحداد، وقد آوى الأبناء إلى الفراش وخيم السكون على البيت.

كانت المرأة صامتة، ولكن كان وجهها راضيا مطمئنا، وبالها مستريحا، وقد ولى عنها الذعر الذي لازمها أياما خالتها دهرا طويلا.

وكان علي أفندي يشعر شعور إنسان خطا قدما بغير وعي، وإذا به يرى صاعقة تنقض على المكان الذي كان يشغل .. قد كان السجن والرفت والدمار منه قاب قوسين أو أدنى، وها هو ذا يطمئن إلى مجلسه بين أسرته آمنا بمنجاة من كل دمار، يستقبل من الغد حياة رغدة مترفة، فكم بالحياة من معجزات!

وعلى رغم كل هذا لم يكن سعيدا تمام السعادة، ولم يصف ذهنه كل الصفاء واستمر في تأملات عميقة. لقد عاش طول عمره حياة راكدة راتبة، أما الساعات القلائل - القلائل! - الأخيرة فقد ابتلي فيها بما لم يبتل به في عمره الطويل المديد؛ إذ أثارت نفسه وعقله وجعلت من بحيرة نفسه الآسنة محيطا مضطربا عاصفا.

لقد خلصه الله من العذاب، ولكن هل يستحق الخلاص وهو الآثم الشرير الذي هم أن يقارف السرقة والقتل؟ ثم عمته المرحومة؟ إنه يدرك حالتها الآن بغير العقل الذي كان يصورها له ويعطف عليها بعد أن أمسى عطفه وقسوته لديها سيئين، فقد عاشت بائسة حزينة تجتر الهموم والآلام، وكانت حياتها فرضا ثقيلا عليها وعلى الآخرين. نعم! كانت قاسية شديدة فوق كل احتمال، ومع هذا فكيف كان يمكن أن تكون غير ما كانت؟ ومن يخلو من جانب بل من جوانب كريهة؟ أليس هو في أعماقه قاتلا سارقا مدلسا؟ وما هو إلا صورة تتكاثر وتتعدد فتكون عالم الناس .. ومع هذا فلا يجوز أن ينسى أن هذا الشر غالبا ما ينكشف عن ضعف وجهل وبؤس، كما انكشف شذوذ عمته عن ترمل وثكل، وكما ينكشف تخبطه وسوء نواياه عن محبة فائقة لأبنائه الأبرياء، وقد أذن الله فعالج الشر والبؤس برحمته، والرحمة أسمى حلم في الوجود، ولكنه لا يستطيع أن ينسى أيضا أنها سبقت هنا بكذبة ابنته وبموت عمته، فكيف يكون الموت والكذب من ممهدات الرحمة؟

حقا إنه مهما ادعى التأمل فسيبقى أمامه ما يعجز عقله ويربكه. وإذا كان أمر الدنيا على هذا النحو فلن يمنع الدمع الذي تبعثه مآسيها إلى العين الابتسام من اعتلاء الشفتين، ولقد ضاق صدره وأرقه السهاد فهتف من أعماقه: من لي بزوزو الآن؟ .. فإن ابتسامتها العذبة ونظرتها الطاهرة ويدها الصغيرة لحقيقة بأن تصرف عني أفكار هذا الليل وتسكب في قلبي الطمأنينة والسلام.

ثمن زوجة

جلس ينظر إلى صورته في المرآة الكبيرة، ويتابع بعينيه يد الحلاق وهي تقص شعره بخفة ومهارة، وكانت تبدو عليه آي الهدوء والغبطة كما ينبغي لشاب مثله في أسبوعه الثالث من شهر العسل.

ولا عجب فشهر العسل في حياة الأزواج كالشباب الناضر في الآجال المعمرة، وقد حبته الطبيعة ألذ المتع ودفعته مهرا لحياة الزوجية التي يستأديها الذكور من جميع الأنواع. وكان حضرة الفاضل حمدي أفندي المهندس واحدا من ذكور أسمى الأنواع كلها، وقد تزوج من ابنة أحد زملائه وأساتذته المهندسين، وهي فتاة جميلة مهذبة سمع عنها ورأى فيها ما علقه بها ورغبه فيها، وهو الآن يستمتع بلذة اللذاذات التي تجزي بها الطبيعة الصادعين بأمرها الداخلين في طاعتها.

ولاحظ المهندس في جلسته الهادئة المغتبطة أن «الأوسطى» لم يكن كعادته ذلك اليوم. رآه واجما والعهد به ضحوكا، ووجده صامتا والعادة أن يكون ثرثارا لا يسكن له لسان، فعجب لشأنه، ولكنه لم تؤاته الشجاعة على سؤاله عن حاله، ولاذ بالفرصة الجميلة التي كفته مشقة ثرثرته وشقشقة لسانه، وتغاضى عن شذوذه حتى انتهى من عمله فقام واقفا، ولم ير حرجا في إبداء ملاحظاته فسأله قائلا، وهو يعقد رباط رقبته: «ما لك صامتا واجما كأنك لا تجد ما تقوله؟»

وبدا على الرجل الارتياح لمفاتحة المهندس له بذلك السؤال، وكان يرغب في الكلام حقا، وتلح عليه الرغبة إلحاحا شديدا، ولكنه لا يدري كيف يلج الموضوع، ورأى زبونه يكاد ينتهي من ارتداء ملابسه؛ فأشفق من ضياع الفرصة، وقال: «الحق يا سيدي أن لدي كلمة أريد أن أقولها، ولكن ...»

وتوقف عن الحديث، فازداد عجب الشاب، وسأله باهتمام: «ولكن ماذا؟» - «إن بعض الظن إثم، وكثيرا ما يخطئ الإنسان في تقديره. والحق أني أدمت التفكير طويلا وقلبت المسألة على جميع وجوهها، فرأيت أن الواجب يقضي علي بمصارحتك بظنوني مهما كانت الاحتمالات والعواقب.»

وكان الشاب قد انتهى من عقد رباط رقبته وارتداء جاكتته وطربوشه، فدنا من الحلاق وحدجه بنظرة اهتمام وانشغال، وقال: «إن كنت ترى حقا أن الواجب يقضي عليك بمصارحتي، فما معنى التردد والتلعثم؟»

فتنهد الرجل، وقال: «حسن يا سيدي .. اعلم أني لاحظت أمورا ...» - «...؟» - «منذ أسبوعين أرى شابا يتردد على العمارة التي تسكن فيها كل صباح بعد الساعة الثامنة مباشرة.»

فزوى الرجل ما بين حاجبيه، وقال باستهانة: «نعم؟!» - «لقد لفت نظري بهيئته ومواظبته، فشغلت فراغ الصباح بمراقبته، ولاحظت أنه يحضر من شارع عاصم حوالي الساعة السابعة، ويأخذ مكانه في مقهى النجمة، حتى إذا غادرت البيت وذهبت إلى الوزارة يدفع ثمن قهوته، ويترك المقهى إلى العمارة رأسا.»

وكان المهندس - على شبابه - رزينا ثابتا بمنجى أمين من الرعونة والطيش، فعض على شفته السفلى كعادته كلما ارتبك أو أخذ، وكأنما أراد أن يغالب القلق الزاحف عليه فسأله بلهجة الغاضب: «ما الذي تعني؟»

فاصفر وجه الحلاق، وندم على خوض هذا الحديث الأليم، ولكنه لم ير بدا من الاستمرار، فقال: «إني أرجو أن أكون مخطئا يا سيدي، بل إني لا أتمنى على الله أكثر من أن يكشف عن وجه الخطأ في جميع ظنوني، ولقد ترددت طويلا قبل أن أبثك هذا الحديث، ولكني رأيت أن المصارحة مع ما تنذر به أفضل عندي من التستر على العيب مع السلامة .. وقد كان مما أيقظ الشك في نفسي أني رأيته مرات يلاحظك خلسة وأنت سائر في طريقك، ويرمقك بنظرات لم يرتح إليها قلبي، حتى إذا غيبك منحنى الطريق قام بسرعة وانسل إلى داخل العمارة.» - «ألم تره خارجا منها؟» - «رأيته مرات، وقد لبث في الداخل ساعتين أو يزيد.» - «ما شكله؟» - «هو شاب في مقتبل العمر، حسن الهندام، مخنث الهيئة، لولا تسكعه في الصباح لقلت إنه طالب.»

ورأى الحلاق المهندس واجما صامتا تصرح سرائره بما يقهر نفسه من الاضطراب والقلق، فقال بتألم: «لا تأخذ بظني يا سيدي، واسلك سبيل الحكماء؛ فتحقق الأمر بنفسك، والحق أني غير آسف على قول ما قلت، ولكني ألعن الظروف.»

فسأله المهندس وكأنه لم يسمع قوله: «هل حضر هذا الصباح كعادته؟» - «نعم يا سيدي.» - «ألا ينقطع عن الحضور أحيانا؟» - «يوم الجمعة.»

فعض الشاب مرة أخرى على شفته، ولم يزد على أن قال وهو يغادر الصالون: «إني أشكر لك مروءتك، وأرجو أن تفتح عينيك حتى أعود إليك صباح الغد.»

وكان البيت قريبا على قيد خطوات، ولكنه لم يشخص إليه - مع أن الوقت كان ظهرا - وأحس في نفسه برغبة طاغية في المشي، فهام على وجهه بغير هدف معين.

كان حمدي شابا في الثلاثين من عمره، يلفت الأنظار؛ لضآلة حجمه ورقة أعضائه وشحوب لونه، ولكن كانت تلتمع في عينيه نظرة تدل على حدة الذكاء، وكان ذقنه يلتوي التواءة يعرف بها ذوو الإرادات الحديدية، وكان أخص ما يعرف به الهدوء والرزانة والبرود، فلا يذكر أحد من معارفه أنه رآه مرة منفعلا أو متهيجا لحزن أو لفرح، ولكن لم يكن طبعه هذا ضعفا أو جبنا، فإنه يغضب إذا انبغى له الغضب، ولكن على طريقته في الغضب، فلا هياج ولا سب ولا شجار، وإنما عقاب صارم أو انتقام مهول، هكذا يتقدم في حياته ك «وابور الزلط» بطيئا رصينا، ولكنه لا يقاوم ولا يبقي ولا يذر.

وقد قال لنفسه وهو يسير على غير هدى: يلمح الرجل إلى خيانة زوجية، خيانة زوجية في شهر العسل! لا شك أنها أول خيانة من نوعها، هي كالإجهاض سواء بسواء، الذي يهلك الجنين قبل أن يكتمل .. كيف يستطيع أن يصدق هذا؟ .. بل كيف يمكن وقوعه؟ كيف استطاع ذلك الشاب أن يشق طريقا إلى بيت عرسه؟ هل كان يعرف زوجه من قبل أن يعرفها هو؟ مهما كان الواقع فهو أمر بعيد عن التصديق .. وذكر حياته الزوجية القصيرة؛ فذكر بها سعادة وصفاء ومتعا لا تحصى ولا توصف، فلم يشك في أنه سيكشف في غده خطأ مضحكا، لن ينفك يضحك كلما ذكره ما امتد به العمر.

ومع هذا ...

ومع هذا فهو لا يستطيع أن يخدع نفسه عن العاطفة الذميمة التي تقاتل في قلبه .. عاطفة الشك المعذبة. وها هي ذي تتشبث ببعض الذكريات التي مر بها مر الكرام، فتعرضها من جديد على مخيلته في إطار أسود مخيف لا يملك إلا أن يتأملها متحيرا متفكرا. فهو يذكر كيف كانت زوجه تلقاه - على أيام خطبتهما - بجمود ووجوم كأنها تلقى جدا لا خطيبا، وكيف أنها لم تحاول قط أن تفاتحه بحديث أو تشترك في أحاديثه بحماس، وكيف أنها كانت تقنع بالإجابات الضرورية؛ فتلفظها في اختصار ساسة الإنجليز!

لقد حمل ذلك كله على محمل حسن، وقال فخورا إنه حياء جميل. ويجوز أن يكون قوله حقا، ولكن يجوز أيضا أن يكون وهما، وأن يكون الباعث شيئا غير الحياء، من يعلم؟ ربما كان نفورا وكراهية وكان ينبغي له أن يدقق ويتحقق!

ويذكر أيضا أن الحال لم تتغير بعد الزواج، فلا تزال محافظة على رزانتها وتحفظها أو برودها - ولم يجر ذكر هذه الكلمة على لسانه من قبل - وكم تمنى لو كانت عروسه لعوبا طروبا، أما الآن فمن يدريه أنها ليست كذلك، وأنها لا تصطنع البرود إلا في حضرته؟ وا أسفاه! أي شقاء وأي تعاسة! ولم يكن حمدي خبيرا بالنساء ولا ذا حظوة لديهن، فاضطر - في عزوبته - إلى الاستقامة والزهد، وقضى تلك الأيام محزونا مفعم الثقة بنفسه، وقد ظن أن الزواج دواؤه ونجاته، فاستغاث به واطمأن إليه، وحمد الله على نعمته، ولكن ها هو ذا يوشك أن يخيب في زواجه؛ فيفقد الأمل الوحيد في السعادة والحياة المطمئنة، وها هي ذي الزوجة تكاد تنكشف عن امرأة ككل النساء اللاتي لم يفز منهن بحظوة .. فأي شقاء وأي تعاسة!

على أنه لم يستسلم للتشاؤم كل الاستسلام ولم ينغمس في اليأس كل الانغماس، وتعلق بالأمل الباقي له، وهو أن يكون الأمر غير ما قدر والظن غير ما أساء .. وتمنى لو يستطيع أن يبدد هذه السحابة القاتمة الغاشية على قلبه وأن يسترد بعض ما كان له من الصفاء والغبطة.

على هذا النحو كانت تؤاتيه القدرة على تحليل أحزانه وأفراحه، ولكنه كان إذا انتهى إلى عزم عرف كيف ينفذه بحذافيره ولا يرده عن غرضه راد.

وكان قد قطع شوطا كبيرا، وبدأ يشعر بالتعب، فعاد أدراجه إلى مسكنه محمى الرأس ملتهب العواطف، ودخل إلى شقته وهو يتكلف الابتسام والهدوء؛ فرأى عروسه جالسة إلى المائدة، والغداء جاهزا، والأطباق مصفوفة، وسمعها تقول له عاتبة: «تأخرت عن موعدك.»

فنظر إلى وجهها نظرة سريعة؛ لأنه خشي أن تقرأ في عينيه ما يدعوها إلى التساؤل، وجلس إلى جانبها، بل وقبلها أيضا كما ينتظر من شاب مثله في شهر العسل، ثم قال معتذرا: «مررت في طريقي بالحلاق، وكان الصالون مزدحما.» •••

وفي صباح الغد خرج في موعده المعتاد، وسار في طريقه المعهود، ولدى مروره بمقهى النجمة قاوم رغبة شديدة نازعته إلى تصفح وجوه الجالسين بها وخيل إليه أن عينين براقتين ترقبانه بحذر وسخرية؛ فغلا الدم في رأسه، وخضب وجهه الشاحب باحمرار الخجل والعار، ولم يذهب إلى وزارته، ولكن دار دورة في الشوارع القريبة، وكان يخرج ساعته من آن وينظر إليها جزعا مضطربا، فلما دارت في منتصف الثامنة عاد أدراجه حذرا متيقظا حتى انتهى إلى صالون الحلاق وانسل داخلا، وكان خاليا إلا من صاحبه الذي حياه تحية الصباح، وابتدره قائلا: «جاء كعادته، وغاب داخل العمارة منذ ربع ساعة.»

وجمد الشاب في مكانه هنيهة؛ لأنه أحس بأنه مقبل على دقيقة فاصلة في حياته ستقرر حتما مصير سعادته وكرامته، فخان الهدوء أعصابه على رغم صلابتها وقوتها ، وشعر باضمحلال مخيف، وسمع الحلاق يقول له: «أتريد أن أصحبك؟» فآلمته عبارة الرجل، وقال بحدة: «كلا.» وغادر المكان بسرعة، وقد محا الغضب دبيب الاضطراب الزاحف على نفسه، ودخل إلى العمارة، وصعد السلم بخطوات ثقيلة. وجعل يرمق باب الشقة الذي يدنو منه بعينين جامدتين، وقد شل عقله عن التفكير ما يتجاذبه من الأفكار والخواطر التي تطفو على سطحه بسرعة، وتغيب بأسرع مما ظهرت غير تاركة من أثر سوى الذهول في النفس والحرارة في الدماغ، ووجد نفسه واقفا بإزاء الباب .. وكان يلهث كمن جرى شوطا كبيرا، وقلبه يخفق بعنف، ويدفع الدم إلى رأسه، فيدوي في أذنيه. وكأنه خشي على إرادته من التردد، فدس يده في جيبه وأخرج المفتاح، وأولجه في الباب، وأداره بخفة وحذر، ودفعه على مهل، وأدخل رأسه ليلقي نظرة على الردهة، ثم دخل وهو يكتم أنفاسه، ورد الباب بلا إغلاق كيلا يحدث صوتا.

وكانت الردهة خالية وجميع الحجرات مغلقة .. ترى أين الخادمة الصغيرة؟ وانصرف نظره إلى حجرة النوم، وخلع حذاءه ودنا منها على أطراف أصابعه حتى صار بإزاء بابها المغلق، وانحنى قليلا ووضع أذنه على ثقب الباب، وأرهف سمعه، فخيل إليه أنه يسمع غمغمة خافتة وأصواتا أخرى، ذهب الشك بعذابه وآماله، وسفرت أمامه الحقيقة الأليمة المخزية، وقد انطفأ نور بصره ثواني من شدة الغضب، ولم يعد يحتمل الجمود فتراجع خطوتين، وثنى ساقه وشد عليها بقوة جنونية، ثم أطلقها بعنف في الباب، فارتج ارتجاجا شديدا، وانفتح بحالة تشنجية. وخطا خطوتين، فاجتاز عتبة الحجرة، ودوت في الحجرة صرخة جنونية، وقفز من الفراش جسمان عاريان، الزوجة وذاك الشاب.

وكانت المرأة في حالة جنونية من الرعب؛ فجسدها يرتجف، ووجهها يصفر، وعيناها تتسعان، وقد سحبت اللحاف على جسمها بحركة عكسية، ولبثت تنظر إلى زوجها كأنما تنظر إلى شيطان رهيب .. أما الشاب فهم بالجري إلى ثيابه الموضوعة على «الشيزلنج»، ولكن قدميه تسمرتا في الأرض فجمد في مكانه، وجعل ينظر إلى الزوج نظرة ذعر ويأس مميتين، ومد يده بتوسل، وقال بصوت مرتجف كأصوات الأطفال المنتحبين: «في عرضك .»

من العجيب حقا أن الزوج لم يغشه الجنون، ولم يندفع إلى الانتقام كما يحدث عادة، بل هبط عليه جمود غريب، وتلبسه هدوء غامض شبيه بنكهة الخمر التي ترد المنتشي الهائج إلى ثقل النوم، فلبث واقفا مكانه، وجعل يقلب عينيه بين العاشقين في هدوء قاس كأنه يشاهد منظرا بعيدا عن مشاركة وجدانه ومشاعره.

ورأى يد زوجه وهي تسحب اللحاف على جسمها؛ فسألها ببرود قائلا: «أتخجلين من الظهور أمامي عارية؟»

وتحول إلى الشاب، فصاح به هذا بصوته المرتعش المحموم: «الرحمة .. دعني أرتدي ثيابي، وافعل بي ما تشاء.»

فقال له ساخرا: «هل يروقك أن تموت في ثيابك؟»

فصاح الشاب مولولا: «الرحمة .. أنا في عرضك.»

فقال بلهجة رقيقة: «ارتد ثيابك أيها الشاب، ولا تخش أذى.»

فلم يطمئن العاشق إلى قوله، وتوسل إليه بصوته الباكي المرتعب: «ارحمني!»

فقال له يطمئنه ويشجعه: «ارتد ثيابك أيها الشاب ولا تخش أذى .. تقدم، إني أعني ما أقول.»

ولكنه لم يتحرك من مكانه، واشتدت الرجفة بجسمه حتى خاله سيصعق صعقا، فسار بنفسه إلى الشيزلنج وأتى له بثيابه وقدمها إليه قائلا بسخرية: «أتحب أن أساعدك على ارتدائها؟» فأسرع في دفعة يحشر جسمه حشرا في ثيابه، فانتهى في ثوان، كان شكله زريا مضحكا؛ فشعر رأسه المدهون بالفازلين يبرز مبعثرا من حافة الطربوش، وأزرار البنطلون مفككة والقميص يتدلى من بينها، والحذاء لم يعقد رباطه. ولكنه كان في غيبوبة ذاهلة، فنظر إلى الزوج نظرة تسليم ويأس، وقال له: أنا تحت أمرك.

وهز الرجل كتفيه استهانة، وقال: وماذا أصنع بك؟ لا فائدة لي فيك .. استأذن الهانم .. فإذا أذنت لك انصرف مصحوبا بالسلامة.

فألقى إليه الشاب بنظرة كأنها تقول: لم التعذيب؟ .. اقتلني إن شئت، ولكن بسرعة. وقد فهم معناها، فهز كتفيه مرة أخرى بهزء، وقال: ألا تريد أن تذهب؟ ألم تسمع بعد؟ ألا تزال لك رغبة فيها؟

فاشتد الارتباك بالشاب، ورأى الزوج يوسع له الطريق فتحرك بخطوات بطيئة، وهو لا يصدق ما يسمع وما يرى. ولما صار بإزائه أحس بيده توضع على كتفه فانتفض رعبا وتوقع شرا، ولكن الرجل بادره قائلا: لا تخف .. ستذهب كما تشاء ولكن أين؟

قال هذا، وبسط إليه كفه، فنظر إليه العاشق مرتبكا متسائلا .. فقال: الثمن.

فظل الشاب ينظر إليه صامتا، فقال الزوج بلهجة جدية: ما لك؟! ألم تحظ بوصال هذه المرأة؟ فلم لا تدفع الثمن؟ هل تظن أن الوصال هنا بلا ثمن؟ - سيدي ... - يا لك من عاشق بخيل! ألا تريد أن تجود بشيء؟ بكم تثمن هذه المرأة؟ هه؟ إنها تستاهل ريالا فما رأيك؟

ولما يئس من الشاب؛ فتش جيوبه بنفسه حتى عثر على حافظة نقوده، واستخرج منها ريالا، ثم ردها إليه، وهو يقول: «تفضل الآن؛ فاذهب إلى حيث تشاء.»

وانفلت الشاب خارجا لا يصدق أنه فاز بالنجاة، والتفت الزوج إلى زوجه، فقال لها: «ارتدي ثيابك يا سيدتي واطردي عنك الرعب؛ فلا خوف عليك، ولا أنت تحزنين.» •••

كيف استطاع أن يسيطر على عواطفه؟ كيف أمكن أن تطيعه أعصابه تلك الطاعة العمياء؟ هذا سر من أسرار الطبيعة يعجز عن إيضاحه البيان، وعلى كل حال فقد انقضى ذلك اليوم كما ينقضي الكابوس الأليم. ولم يشر إليه - بعد انقضائه بتلميح أو تصريح - ولا ذكره بخير أو شر، ولا أجرى بسببه تحقيقا ولا أثار عنه سؤالا، وطالعها بوجه هادئ طبيعي كأنه شخص آخر غير الزوج المطعون، ولم ينقطع عن عمله أو يغير من عاداته ولا كف عن أحاديثه أو فتر عن مداعباته. وكان يذهب ويعود ويعمل ويستريح ويأكل ويشرب وينام ويقوم وكأنه زوج سعيد يعاشر زوجه الحبيبة، أو رب بيت مطمئن يسهر على بيته وأسرته دون أن ينغص حياته منغص أو يكدر صفوها مكدر.

وكانت المرأة في أول عهدها بالفضيحة كالمجنونة من شدة ما يعذب نفسها من الخوف والرعب والعذاب، وقد توسلت إليه ضارعة وهي تبكي أن يطلقها ويستر عليها، ولكنه قال وكأنما فقد ذاكرته: «أطلقك! لمه؟ أمجنونة أنت يا عزيزتي؟» وأسقط في يدها، ولبثت حائرة مذعورة معذبة تخشاه وتتوجس منه خيفة، ويغلق عليها أمره، فلا هو يطلقها، ولا هو ينتقم منها، والأعجب من هذا جميعه سلوكه نحو عاشقها في ذلك اليوم الأسود.

ومضت الأيام طويلة ثقيلة؛ فلم تتحقق مخاوفها، ولم تصدق هواجسها، وأخذت تخف عليها وطأة الخوف وتتناسى همومها فيما تقوم به من الواجبات البيتية، ووجدت نفسها - وهي لا تدري - تتفانى في خدمته والسهر على بيته وتوفير الراحة له بحماسة الخاطئ الذي يعالج جرح ضميره بالتفكير والتعذيب، على أنها لم تطمئن إلى دعته كل الاطمئنان، وكانت تسأل نفسها حيرى: ترى هل نسي وغفر؟ أم هو يتناسى ويتعزى، أو ما الذي تنطوي عليه حياته المبهمة وابتسامته الغامضة من النيات؟

ولبثا على حالهما والأيام تحث السير، وكل منهما متظاهر بالألفة والاطمئنان ويجتر أفكاره فيما بينه وبين نفسه، حتى كان يوم دعا فيه الزوج جميع أهله وأهل زوجه إلى مأدبة غداء، وبذل لإعدادها فوق ما تحتمل قدرته حبا وكرامة. وأم بيته ذلك اليوم جميع أفراد الأسرتين نساء ورجالا، فتيات وفتيانا وعلى رأسهم حماه وحماته، فضاق البيت بالمدعوين وضج جوه بأحاديثهم وضحكاتهم، وازداد سعادة بما شملهم من ود عائلي جميل .. وتشعب الحديث شعبا مختلفة، فطرق موضوعات السمنة والنحافة والزواج والعزوبة وبنات الأمس وبنات اليوم، ومن السياسة حينا والدرجات والعلاوات والأطفال أحيانا كثيرة .. وشارك المهندس في الأحاديث بشهية عظيمة، وكان بادي المسرة والبهجة عظيم الإقبال على مجاملة ضيوفه والترحيب بهم.

وقد توقف عن الكلام بغتة؛ كأنما تذكر أمرا مهما، ثم دس يده في جيبه فأخرج ريالا، جعل يقلبه في يده ثم أعطاه حماه وهو يقول: انظر إلى هذا الريال يا عماه .. أتراه مزيفا؟

فأخذه الرجل، وجعل يقلبه بين يديه، وقد اتجهت إليه الأنظار من كل صوب، ثم قال: كلا يا بني، إنه صحيح لا شك فيه .. هل رفضه أحد؟

واختلس الزوج نظرة إلى زوجه فرأى وجهها مصفرا يحاكي وجوه الموتى، فابتسم ابتسامة وقال: لم يرفضه أحد يا سيدي، ولكني أردت أن أطمئن عليه؛ لأنه محور قصة عجيبة قد يروقكم جميعا سماعها.

فازداد اهتمام الحاضرين، ودل تطلعهم إليه على شوقهم إلى سماع قصته، فطلب إلى حميه أن يعطي الريال زوجه، ثم قال: إن شوشو تعرف قصة هذا الريال خيرا مني، وسأتنازل لها عن حق روايتها .. هيا يا شوشو قصي عليهم القصة العجيبة، وهي حقيقة تفتح شهيتهم للطعام.

وانصرفت الوجوه إلى الزوجة، وقد تضاعف اهتمام الجميع، وتوقعوا جميعا قصة شائقة. أما شوشو فكانت في حالة يرثى لها من الذعر والارتباك، وقد جمعت قوتها المشتتة، وقامت واقفة، وشقت طريقا بين الجالسين إلى باب الحجرة، فاحتجوا على قيامها، وحاول بعضهم منعها، ولكنها قاومت الأيدي، وهي تقول بصوت خافت مضطرب: «انتظروا دقيقة .. سأعود في الحال.»

وولت خارجة وعينا زوجها تتبعانها بنظرة قاسية. •••

يستطيع القارئ أن يستنبط الخاتمة المروعة؛ فإنه لا شك يقرأ كثيرا في الصحف عن اللاتي يرمين بأنفسهن من النوافذ العالية؛ فيسقطن مهشمات مشوهات، ولعله إذ يقرأ هذه الأخبار المقتضبة يتساءل عن أسبابها الخفية، ويذهب به الحدس كل مذهب. فهذا سر واحدة من أولئك المنتحرات، وإنه ليؤسفني أن تنتهي القصة إلى هذه النهاية المحزنة، ولكن ما حيلتي وقد بدأت بتلك البداية الأسيفة؟

والحق لا تقع علي تبعة بدايتها ولا نهايتها؛ فهكذا يرويها بطلها المحزون الذي غدا لا يفارق الحانة ليل نهار. وكم تمنيت لو كان كاتبها كما كان راويها؛ لأني - وا أسفاه! - لا أستطيع مهما أحاول أن أبلغ بعض ما يبلغ من صدق الرواية وقوة التعبير.

الذكرى

إذا لاحت في الأفق القريب بشائر عيد الفطر خفت وطأة رمضان على النفوس، وهون الفرح الموعود من جفاف شهر الصوم، واهتزت صرامة التقشف في الصدور تحت موجة طرب آن انطلاقها. هناك تجد ربات البيوت أنفسهن في مكانة الساحر، يتطلع إليهن الصغار بأعينهم الحالمة هاتفة بهن أن يبدعن آيات الكعك اللذيذ، وأن يخلقن من العجين كهيئة العرائس والحيوان والطير.

أما جماعة الموظفين الذين تقضي عليهم أشغالهم بالتغرب في أقاصي القطر، فلا يشغلهم في تلك الأيام مثل إعداد الحقائب والتأهب للسفر إلى بلدانهم؛ حيث يسعدون بالعيد بين أهليهم، وحيث تتحقق للأطفال ولهم أحلامهم.

وكان من هؤلاء الأستاذ يوسف زينهم المدرس بمدرسة أسيوط الثانوية وأسرته المكونة من زوجة وابنتيه الصغيرتين ، فما أتى يوم الوقفة حتى كان الأستاذ وأسرته في القاهرة، بل في القاهرة المعزية؛ حيث يقع بيت المرحوم والده في الدراسة قريبا من مسجد الحسين. وكان البيت من البيوت القديمة، باهت الجدران رث الهيئة، يصعد إليه الصاعد على سلم ضيق متهدم الدرجات بغير درابزين، حلزوني الشكل كسلم المآذن. ويتكون البيت من طابق واحد ذي ثلاث حجرات صغيرة الحجم. ولكنها كانت سفرة سعيدة، ودواعي لذتها متوفرة من التنقل واستقبال العيد ورؤية الأهل والأحباب.

ومهما يكن من أمر البيت من التفاهة والضعة، فما كان يوسف يطأ بقدمه أول درجة من سلمه حتى يرفرف قلبه في صدره وتمتلئ عيناه بالأحلام وقلبه بالحنين، ويذكر لفوره ذلك الطفل الصغير ذا الجلباب والطاقية الذي كان يقفز على هذا السلم صاعدا هابطا كل يوم حافي القدمين.

أي ذكرى وأي أيام!

وكان كل مكان فيه يحفظ لقلبه ذكرى تنعش النفس وتشرح الصدر، سواء أكان ما تحمل نوعا من مسرات الصبا أو لونا من متاعبه وهمومه. وكثير من آلام الصغر التي يضيق بها الأطفال يجدونها إذا كروا إليها في الكبر متعة ولذة وتفكهة، فكان لهذا يطوف بحجرات البيت حالما متذكرا كأنما يطوف بضريح ولي من أولياء الله، ثم يستقر مدة إقامته في أعزها عليه وأحبها إلى قلبه: في الحجرة التي عاش فيها من عمره اثنين وعشرين عاما بين عبث الطفولة وأحلام الصبا وآمال الشباب.

والذي يقيم فيها الآن أخوه سامي، وهو ابن عشر ويختم في هذا العام دراسته الابتدائية. ويخيل إليه - أي إلى يوسف - كما شاهده أنه يعيد تمثيل الحياة التي حييها مرة أخرى، وأن الحجرة تشهد للمرة الثانية نفس فصول الرواية، ولعلها بدأت تبسم وتسخر وتسأم .. وكان سامي يتخلى عن حجرته سعيدا مغتبطا لأخيه الأكبر الذي ينزل من نفسه منزلة الأب، ويتولى من بعده جميع أموره ويتعهده بالتربية والمحبة.

وقد لاحظ يوسف أن أخاه غير من نظام الحجرة، وأنه نقل المكتب القديم إلى غير موضعه الأصلي، وكان يحب أن تبقى الحجرة محتفظة بصورتها القديمة، فسأله عن هذا، وأجابه الغلام: إني جعلت المكتب بحيث إذا جلست للمذاكرة جاء نور النافذة من الجهة اليسرى كما أوصانا مدرس علم الصحة.

فابتسم يوسف، وقال: «ما أسعد حظكم يا تلاميذ اليوم؛ فإن لكم من مدرسيكم آباء رحماء يودون لكم الصحة والعافية ويشفقون عليكم من الأذى، أما على أيامنا فكان الحال غير الحال والمدرسون غير المدرسين. وإني لأذكر العنت الذي كان يصيبنا - في نفس مدرستك خليل أغا - وما كانوا يلزموننا من حفظ البلدان والثغور والجزر والحاصلات. وكم من مرة مددنا على الأرض وألهبت العصي القاسية ظهورنا وبطون أقدامنا .. تلك أيام خلت .. أما أيامكم ...!»

ثم استلقى الأستاذ على كنبة، واستسلم لتيار التذكر العذب التسلسل، تاركا زوجه وأمه تتحادثان ما شاء لهما الحديث، وسامي يجالس ميمي وفيفي الصغيرتين ويلاعبهما.

ولم تنس أمه أن تأتي بمدفأة وتضعها في ركن من الحجرة؛ لأن الشهر كان ديسمبر والجو شديد البرودة يزيد من شدة قساوته الصيام، وكأن السماء أشفقت من البرد فتلفعت بأردية من السحب، أضاء بعضها عن لون أبيض ناصع بهيج، وأظلم البعض عن كتل دكناء كالجبال عند الغروب؛ فانكمش جسده، وتحفزت روحه للوثوب وحلقت على رأسه الأحلام. وسرعان ما كرت نفسه راجعة عشرين عاما في خط الزمن غير المتنامي، وذكر عهد هذه الحجرة أيام كانت رفيقة صباه وشبابه وشريكة أحلامه وأهوائه، وشاهدة أفراحه وأحزانه، ومستسرة خباياه ومرجع نجواه. رباه! .. إنه ليدير عينيه في أنحائها طمعا أن ينفذ إلى تضاعيف جوها الخفي، ويقرأ ما خط من حياته، وما سجل من نوازع قلبه وعقله ووجدانه .. ولقد تأتي عليه أوقات يغمره تيار الحياة وتكتنفه متاعبها فينسى ذكريات الماضي في هموم الحاضر، ويخيل إليه أن ذاك الصبي الذي عاش وفرح وتأمل وأمل ويئس شخص غريب عنه لا تربطه به رابطة ألم أو أمل. وقد تأتي عليه ساعات أخر يتوب فيها إلى نفسه فينسى حاضره هارعا إلى الماضي البعيد، وتقدم إليه حافظته الثائرة أزاهر الذكريات واحدة فواحدة حتى يخال أنه لم يعبر الماضي إلا منذ ساعات قلائل، وأنه لم يحي إلا به وله .

وها هو ذا الآن تغشاه ساعة من تلك الساعات الحالمة فتحلق روحه في آفاق بعيدة كالذاهل في غيبوبة مغناطيسية، وتتدفق عليه الصور الحالمة في غير ترتيب زماني، فيذكر كيف كان يستيقظ - في نفس الحجرة - منذ الفجر، ويدلف إلى النافذة يشاهد بهاء الفجر المشتمل الكون بثوبه الأزرق، والنجوم من فيض الحياة بها تكاد أن تتكلم بأحاديث الأزل، ويرى البيوت كالأشباح القائمة، ومئذنة سيدنا الحسين في المكان الأوسط منها كالحارس الحفيظ، ويستمع إلى صياح الديكة المنتشية ببشائر النور وقطر الندى، حتى يشق الفضاء صوت المؤذن داعيا «الله أكبر»، فيهبط على القلوب هبوط الصحة والطمأنينة فيملأها نشوة وبهجة وحنينا، ثم يصلي الفجر، فإذا انتهى أشعل المصباح وقعد يذاكر ويحل تمرينات الحساب ومسائل الهندسة.

وإنه ليذكر لهذه المناسبة عهد التلمذة الغريب، الذي كان يرسف في أغلاله كالسجين، أو الأسير المعذب، يجهد عبثا أن يقوم بما يفرضه عليه البرنامج الثقيل المرهق، وتضطرب أعصابه خوفا ورعبا من المدرسين وعصيهم الذين كان يكفي تذكرهم لتجميد الدم في العروق أو قطع الأنفاس في الصدور. ولا عجب فقد كانت القسوة هي السياسة المرسومة لتربية التلاميذ، وكان يظن أنها الطريقة المثلى لخلق الرجال الفضلاء، فكان عهد التلمذة عهد رعب وإرهاب وعنت. وإنه إذا جاز له الآن أن يشبه المعلم بالفنان يحاول أن يبدع من مادته أجمل الآيات وأمتعها فلا يستطيع أن يشبه مدرسيه القدماء إلا بمحصلي الضرائب الأتراك .. ولكنه بالرغم من هذا لا يذكر ذاك العهد حتى يعلوه الابتسام ويغمره الفرح، كأن ما فيه من مسرة فهو له وما فيه من ألم فهو لغيره، يراه كما يرى المشاهد الرواية التمثيلية الحزينة فيتمتع بأثرها الجميل.

وفيما هو سابح في بحر أحلامه، انتبه فجأة على يد ابنته الصغرى ميمي وهي تهزه، فالتفت إليها متبرما، وصاح بها منتهرا: «إيه يا بنت؟»

وهي تشير إلى حائط الحجرة.

فسألته بصوتها الرفيع المتقطع: «هل حقا أنت الذي رسمت هذه الصورة يا بابا؟»

وتتبع ناظره إصبعها إلى هدفها من الحائط في المكان الذي كان يشغله المكتب قبل أن ينقله سامي، فرأى صورة طفلة صغيرة في نصف الحجم الطبيعي سرعان ما تذكرها عقله وقلبه، وذكر بعض الظروف التي دفعته إلى رسمها منذ عشرات السنين .. وتعجب كيف شاءت المصادفة أن تنبه ابنته إليها ساعة تهيم روحه في سموات عهدها الحلو المنطوي، فكأنما سخرت الصورة للطفلة الصغيرة لتذكير أبيها الغافل.

قال سامي: لا شك أنك أنت يا أخي يوسف الذي رسمتها؛ فأنت صاحب الحجرة القديم، وأنت الذي تستطيع أن تجيد الرسم.

وقالت ميمي مرة أخرى: بابا .. اشتر لي عروسة مثلها.

ودلف يوسف إلى قريب من الصورة، وتأملها بعين لو رأت زوجه نظرتها المشوقة لسألت باهتمام عن الصورة وتاريخ رسمها، وأجرت في ذاك تحقيقا عسيرا، وكان ما يبقى منها ظل خفيف طمست منه بعض معالم الوجه، ولكن بقي منها محافظا على وضوحه مفرق الشعر الغزير المرسل في عبث فتان، وما يبين عن جمال الأنف الصغير الدقيق. فالشكر لله أنه كان يجيد الرسم منذ الصغر، وإلى جانب الصورة كانت مكتوبة هذه الأبيات:

أفق قد أفاق العاشقون وفارقوا ال

هوى واستمرت بالرجال المرائر

دع النفس واستبق الحياة فإنما

تباعد أو تدني الرباب المقادر

أمت حبها واجعل قديم وصالها

وعشرتها مثل التي لا تعاشر

وهبها كشيء لم يكن أو كنازح

به الدار أو من غيبته المقابر

إن للصورة والشعر قصة قديمة كانت حياة قلب ناشئ اصطرع من جرأتها فيه الأمل والألم، وتيقظت بسببها عواطف شتى وغرائز نائمة، وإن عفت آثار تلك الحياة من قلبه الآن كأنما فاضت من غير منبعه واصطخبت في غير ميدانه. وإنه لمن المؤلم المضحك أن يكون الحائط الحجري أحفظ للود وأرعى للذكريات الجميلة من قلب الإنسان العاقل .. وإن تلك الصورة وهذه الأبيات الشعرية لتذكره بأجمل ما وهبت حياته المنطوية، بل أجمل ما تهب الحياة لبنيها، تذكره بوهم الحب الطاهر، الحب الذي يفيض من قلب طاهر لم تعركه التجارب، ويخبئ أغراضه المرسومة منذ الأزل خلف وجه ملاك سام، ويخفي أنات الأرض وراء لحن سماوي ساحر، ويغشي على الطين ستارا كثيفا من السحاب الأبيض الجميل.

نعم، لا يكاد يذكر التفاصيل، ولا يحضره الترتيب الزماني، ولكن تندلع في قلبه ألسنة من اللهب بين الحين والحين؛ فيكشف نورها المتقطع عن صور عزيزة فاتنة من الماضي. •••

كان المرحوم والده طاهي الوجيه سليم بك عامر - من سراة القاهرة وأعيانها المبرزين - وكان يوسف يتردد عليه أحيانا كثيرة، ولا يزال يذكر القصر العامر بحديقته الغناء وجدرانه الشاهقة وأبوابه العالية ونوافذه ذات الستائر المختلفة الألوان، كما يذكر البناء الصغير المنعزل في ركن من الحديقة ذات المدخنة الطويلة؛ حيث كان يباشر أبوه عمله. وكان إذا زار أباه يجلس في ركن المطبخ يشاهد عملية الطهي الغريبة، وفن تحويل الخضروات والطماطم والطيور إلى أصناف شهية بهيجة اللون لذيذة الطعم، ويلتهم ما يعطيه من اللحم والحلوى، ويسمع في دهشة الخدم وهم ينادون أباه بقولهم: «يا عم زينهم.» وما كان يظن أن شخصا كوالده العظيم الذي يمتلئ قلبه رهبة منه، والذي تقف له أمه وإخوته كلما جاء أو ذهب يمكن أن ينادى بمثل هذا النداء الذي يخاطب به باعة الفول السوداني «وغزل البنات» .. ولكنه ما لبث أن اعتادته مسامعه وألفته نفسه، وطفق يدرك شيئا فشيئا مكانة والده من القصر العظيم، وتبين البون الشاسع الذي يفصل بين واحد مثله وبين أهل ذاك القصر الذين لا يدري على أي وجه من الحياة يعيشون خلف تلك الجدران الهائلة.

وهو لا يكاد يذكر تاريخ أول لقاء على وجه التحديد، ولكنه يرجح أنه وقع لأول عهده بزيارة قصر سليم بك، وهو في الثانية عشرة من عمره. وكان مطمئنا إلى مكانه المختار من المطبخ وفي يده قطعة «البقلاوة»، وعلى حين فجأة دخلت إلى المكان طفلة في مثل عمره لم ير مثلها من قبل، كانت مستديرة الوجه، مليحة القسمات، خمرية اللون، رشيقة القامة، ينتثر شعرها الأسود الحالك خصلات على كتفيها ويلتقي وسط الرأس في «فيونكة» حمراء، ثم تنزل منه شعرات رفيعة مستقيمة على الجبين كرذاذ النافورة، وترتدي فستانا أبيض شفافا ذا منطقة حمراء يكشف عن ركبتيها الصغيرتين، فأثاره منظرها، وجمدت عيناه عليها في إعجاب ورهبة بعد أن أخفت يده بحركة غريزية قطعة «البقلاوة»، وانتبه أبوه إليها فانحنى باحترام وهو يقول مبتسما: أهلا وسهلا بسوسن هانم.

ولاحظ الرجل أنها تنظر إلى ابنه نظرة غريبة، فقال يقدمه إليها: هذا خادمك يوسف .. ابني.

فدارت عيناها الجميلتان بينه وبين أبيه في صمت وسكون، ثم ولت مسرعة في خفة أخاذة، وأسرع يوسف وراءها زحفا على يديه وقدميه كالضفدع، فلما بلغ باب المطبخ أرسل بناظريه خلفها يشاهدها وهي تجري في الحديقة حتى أخفتها عن عينيه طرقاتها الملتوية. إنه يذكر هذا المنظر على توغله في الماضي كأنما لمس حواسه بالأمس القريب، ولا ينسى كيف أنه أيقظ نفسه وقلبه وخياله وبدل موتها حياة حارة وركودها ثورة هائجة. فما إن رجع إلى البيت ورقد - ربما حيث يرقد الآن - استحضر صورتها وخلا إليها واستغرق في حسنها وبهائها .. أي حسن وأي بهاء! .. رباه! .. هل تحوي الدنيا مثل هذه الفتنة وهذه النظافة؟ .. لقد عاشر من جنسها كثيرات، منهن أمه وأربع أخوات - تفرقن الآن في بيوت أزواجهن - شتان ما بينها وبينهن، إنهن من طين وهي نور، وما كان يظن أن لها لحما ودما كلحمهن ودمهن، أو أن يكون بداخلها معدة وأمعاء كبقية الإنس، فنزهها عن هذا وعن غيره، ونزلت من نفسه منزلة الملائكة في نفوس العابدين.

وكان يوسف رقيق العواطف متوثب الخيال دقيق الحس كجميع هواة الرسم والفنون، وكانت غريزته لا تزال راقدة في سباتها الذي فطرها الله عليها، فدبت فيها الحياة بعد أن نفخت فيها صورة سوسن من روحها العذب، وغاب عنه حينذاك أنه يمثل فصلا من رواية تكررت مشاهدها آلاف السنين، وأنه يقع في الأحبولة المنصوبة منذ الأزل لبني الإنسان، فظن أنه يكشف عالما روحيا جديدا يطير إليه على جناحي الحب. إنه ليذكر هذا الآن فيتعجب لهذا الحب الغريب، الحب الذي هو فلسفة الشباب الشاملة، والذي يتسامى إلى معارج التصوف والتجلي، وينحط إلى مهاوي القسوة والأنانية والقذارة، وتكمن خلف جميع أوجهه تلك الغريزة التي هي أمضى سلاح في يد الحياة .. واقتطفت ذاكرته صورة أخرى من الماضي الجميل لا يحسن معرفة موقعها من حوادث تلك الأيام، ولكنه يذكر جيدا أنه بعد اللقاء الأول غير مجلسه من المطبخ إلى مكان قريب من الباب، بحيث يستطيع أن يشاهد منه الحديقة طمعا أن يرى العروسة الصغيرة التي استبدت بأحلامه وأمانيه، وأنه كان يراها في صحبة أخوين لها في مثل عمرها يركبون الدراجة أو يلعبون «بالبلي»، أو يستبقون في ممرات الحديقة الرملية!

ففي جولة من جولاتهم عثروا به، فلفت منظره الغريب أنظارهم وتساءل عنه الصغيران، فأجابتهما سوسن بأنه «ابن عم زينهم» فدنوا منه، وأنعموا فيه النظر: في جلبابه الباهت، وطاقيته السوداء، وقبقابه الصغير، فجفل قلبه وهم أن يولي فرارا لولا أن صاحت به سوسن بصوتها العذب: لا تخف .. ولتبق حيث أنت؛ فلن يؤذيك أحد.

وسأله أحد الصبيين: وقد نسي اسميهما: هل أنت ابن عم زينهم؟

فأحنى يوسف رأسه أن: نعم. فسأله الثاني وعلى فمه ابتسامة: هل أنت تلميذ؟

فأحنى رأسه مرة أخرى أن نعم، مما أثار دهشة بين الثلاثة، فسأله الأول: وما مدرستك؟ - خليل أغا. - في سنة إيه؟ - في السنة الرابعة.

ثم سكت يوسف لحظة يغالب رغبة في الحديث حتى غلبته، فسأل الأخوين قائلا: وما مدرستكما؟ - الناصرية. - ولم لم تدخلا خليل أغا وهي قريبة من البيت؟

فبدت في عيني الشقيقين نظرة إنكار وقال أكبرهما: الناصرية مدرسة الأغنياء.

وقال الآخر وكان أشد صلفا: أما خليل أغا فهي مدرسة الفقراء.

وقالت سوسن: ماذا يهم بعد المدرسة إذا كانا يذهبان إليها في السيارة!

فردد يوسف عينيه بينهما، وقد غلب على أمره، واستخذى خجلا ومهانة، وكرهت نفسه الهزيمة؛ فقال بدون داع ولا مناسبة وبصوت يدل على التحدي: أنا أول فرقتي .. وأجيد الرسم إجادة فائقة .. إلي بورقة وقلم!

فنظر إليه الأخ الأكبر بعين الهزء، وأخرج من جيب بنطلونه ورقة وقلما، وقال له: إليك ما تريد.

وزاد اهتمام سوسن؛ فاقتربت خطوة منه، وقالت: إن كنت شاطرا حقا فارسم كلبا.

فبسط الصبي الورقة أمامه بثقة واطمئنان، وجرت يده بالقلم في ثبات وخفة ومهارة، فصورت كلبا لا بأس به. ولما انتهى منه نظر إليهم نظرة فوز وظفر، ونظر إليه الأخوان باحتقار وغيظ، أما سوسن فقالت وعلى فمها ابتسامة رقيقة: الكلب موضوع سهل .. إن كنت شاطرا حقا فارسم إوزة.

ولكنه لم يقهر أيضا، وذاق لذة الفوز مرة أخرى، فقال الأخ الأصغر: الرسم مادة تافهة. - ولكني الأول في جميع العلوم. - وهذا أمر تافه.

فقال يوسف بحدة: إذن فما المهم؟

فوضع الصبي الآخر يديه في جيبي البنطلون، وقال وهو ينظر إليه من عل: المهم أن تكون ابن بك .. وأن يكون لك مثل هذا القصر.

هذا ما يذكره من تلك المنافرة الصبيانية، ويذكر فوق هذا أنه عاد إلى بيته ذاك اليوم ينتفض من الغضب والحقد ويمتلئ كراهية للصبيين. أما سوسن فلم يكره منها قولا أو فعلا؛ إذ كانت حبيبة عزيزة جميلة، وكان حبيبا عزيزا جميلا كلله الحب بتاجه.

وكان مستعدا في أعماقه أن يكره منذ صغره إن وجد منها كرها له أو احتقارا، ولا يحب الشر ويعظمه إن آنس منها له حبا وتعظيما؛ إذ كانت تتبوأ من نفسه مكانة المثل الأعلى في كل شيء، فالخير خير بالإضافة إلى أفعالها، والجميل جميل على قدر مشابهته لصورتها.

إنه يذكر تلك اللوثة الهيامية كالمستفيق الذي يتذكر فعاله حين السكر الشديد. ولم يتصل الحديث بينه وبين الأخوين بعد تلك المعركة الكلامية، ولم يرهما إلا قليلا، وكانا إذا مرا به مرا مقتحمين كأنهما لا يريانه، أما سوسن فكان يراها كثيرا .. ولم تكن متكبرة قاسية كأخويها فكانت إذا التقت عيناها بعينيه ابتسمت إليه أو بادلته كلمة تافهة كانت لديه ألذ من الصحة والعافية.

وكان مرة جالسا القرفصاء، وكانت تلعب في الحديقة على بعد قريب منه، قافزة على حبل تديره خادمتان من طرفيه، فلبث يراقبها بعينين مشتاقتين، وبعد قفزاتها على دقات قلبه الولهان. وحدث أن ذهبت إحدى الخادمتين لبعض الشئون، فنادته أن يحل محل الخادمة، ولبى مسرعا سعيدا مغتبطا ظافرا، وود من قلبه لو لم تنته تلك الساعة السعيدة أبدا، ولكن الصغيرة تعبت فتوقفت تستريح، وخشي يوسف أن تنتهي سعادته ويعود إلى مكانه، وكان شديد الرغبة في أن يحادثها، وأن يستمع إلى صوتها العذب الذي يفعل به فعل التعويذة بالمسحور فسألها: هل تذهبين إلى المدرسة؟

وكان يخشى ألا تتنازل وترد عليه، ولكنه سمعها تقول: نعم. - أي مدرسة؟ - لامير دي دييه. - إنه اسم غريب.

فافتر ثغرها عن ابتسامة ظريفة يرى وميضها الآن منيرا في ظلام السنين المنطوية، وقالت: إنها مدرسة فرنسية. - ألا تتعلمين اللغة العربية؟

فضربت بقدميها الأرض، وقالت: بلى .. يدرسها لنا شيخ .. هي ثقيلة كريهة .. هل تحبها أنت؟ - إني أذاكرها برغم صعوبتها، وأحفظ النحو حفظا جيدا .. وأحب الشعر .. لماذا تكرهينها؟

هي ثقيلة جدا، وقلما تستطيع ذاكرتي أن تحفظ شيئا من قواعدها، ومدرسها رجل ثقيل الدم يضع على رأسه عمامة مضحكة.

فاضطرب وصعد الدم إلى وجهه، وذكر طاقيته السوداء، وما عسى أن تقول عنها، ثم قال: كثيرون يؤثرون العمامة على غيرها. - هي في نظري على كل حال مضحكة .. ثم إن هذا الشيخ قذر .. لمحت مرة يده فرأيت أظافره سوداء كالطين.

وهنا قبض يديه، وود لو يخفيهما.

ومن ذاك اليوم كان إذا نوى الذهاب إلى القصر قص أظافره، وخلع طاقيته، ولبس الحذاء بدلا من القبقاب. ومضت الأيام وهو على تلك الحال، يرنو بالنظر، ويسعد بالحديث الذي لا يمس الهوى، ويعاني حبا مكتوما ينمو يوما بعد يوم، وكانت سوسن تستأثر بحياته جميعا، الظاهرة والباطنة، اليقظة والغافلة، فكانت مثار أحلامه حين العمل وحين اللعب، ولدى اللقاء ولدى الغياب، وأوقات الفرح وأوقات الحزن، وعند الصحة وعند المرض، وكانت آخر فكر مودع عند النوم، وأول خاطر مرحب عند الاستيقاظ. وكان حبه طاهرا ساميا ارتفع به من العالم الصاخب إلى حيث يطلع على العالمين كما تطلع الآلهة على المخلوقات، إلا أنه لم يخل من الألم واليأس، بل الحقيقة أن الألم واليأس كانا من مقوماته الأولية؛ لأنه لم يغفل لحظة عما يفرق بين طبقتيهما، ولم ينس الحقيقة المرة التي جعلت أباه يقدمه لسوسن، فيقول: «هذا خادمك يوسف» فهو خادمها ما في ذلك من شك ، وهو وأهله من المحسوبين عليها والعائشين على فتات مائدتها.

حقا إن الحب من دوافع النشاط والاجتهاد والتطلع إلى المجد، ولكنه شك في قدرة الحب على خلق معجزة عظيمة، مثل ربط آنسة جميلة كسوسن بابن خادمها البائس يوسف ابن زينهم.

كانت تلك الأفكار السوداء تعصر قلبه عصرا، وتسكب السم في دمه والمرارة في ريقه، وبلغ به الحزن أنه كان يرمق أباه أحيانا بنظرات الغضب والسخط؛ لأنه كان القضاء الذي حكم عليه بالضعة، وأنزله حيث هو من الذل والهوان.

ولكن كانت تمسه السعادة في لحظات أخرى، فيسأل نفسه: لم ترضى بالحديث معي؟ لم تداعبني وتسألني؟ لماذا لا تتعالى عن مصاحبتي؟ لماذا تبسم في وجهي تلك الابتسامة المشرقة التي تقتل اليأس وتهلك الأحزان؟ أليست هي على كل حال إنسانة قبل أن تكون سوسن ربيبة المجد والشرف، أليست تخضع لسنن الحياة المستبدة الغامضة التي لا تميز بين كبير وصغير؟

ويغريه بالأمل أنه الصبي الوحيد الغريب الذي تراه مرات في الأسبوع، وأنه وسيم الطلعة جميل القسمات على رغم فقره وضعته.

ولكن هذه اللحظات السريعة كانت تمر به مرور النشوة بالسكران، وتتركه سريعا إلى الحقائق المحزنة. وهكذا فأغلب ما يذكر عن تلك الفترة كان خليطا من الهيام والتسامي والألم واليأس ولحظات قصيرة من السعادة والطمأنينة، وإلى جانب هذه تبرز له من غياهب الماضي واقعة مسلية يذكرها بتفاصيلها جميعا. وكان في السنة الأولى أو الثانية من المدارس الثانوية، ويبلغ الخامسة عشرة من عمره على وجه التقريب، وكان ينتظر مقدمها في مكانه المعهود إذ جاءته وعلى فمها الابتسامة الملائكية وفي يدها كراسة تقبضها وتبسطها في ارتباك ظاهر، فأقبل نحوها منتشيا بالفرح والبهجة وكأنه أراد أن يخلق أسبابا للحديث فسألها: ما هذه الكراسة؟ - كراسة العربي. - دائما العربي .. العربي.

فتنهدت، وقالت: أعوذ بالله من هذه اللغة .. أتعلم أنه لا يكدرني في الدنيا شيء إلا هم حفظها .. فلا الفرنسي ولا الحساب ولا التاريخ بالعلوم التي تعجزني، فجميعها كوم والعربي كوم.

ثم فتحت الكراسة وأنشأت تقلب في صفحاتها، وهي تقول: أملى علينا الشيخ سؤالا صعبا. - ما هو؟

فكان جوابها أن طلبت إليه أن يتبعها إلى أريكة في بعض منحنيات الحديقة، ثم جلسا جنبا إلى جنب لأول مرة، وقرأت السؤال قائلة: اشرح ما يأتي وأعرب ما تحته خط:

أشوقا ولما يمض لي غير ليلة

فكيف إذا خب المطي بنا عشرا

وظن يوسف أن السؤال غاية في السهولة، وأن في استطاعته أن يجيب عليه في غمضة عين، فقال: إنه سؤال بسيط، وهذا البيت موجود بنصه في كتاب قواعد اللغة.

فهزت كتفيها استهانة، وقالت: لا علم لي بكتاب قواعد لغتك هذا .. أما ما يهمني فهو أن تملي على مهل الإعراب والشرح.

ثم استعدت للكتابة .. فاعتدل في جلسته وقطب جبينه استحضارا لفكره الشارد، ثم أنشأ يقول: لما حرف جزم .. ويمض فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف آخره.

ثم سكت لحظة يختار ديباجة الشرح، ثم استطرد: أشوقا، ولما يمض لي غير ليلة .. يقول الشاعر: أأشتاق ولم يمض لي غير ليلة على الفراق ...

واضطر إلى قطع الشرح؛ لأنه اكتشف فجأة أنه يجهل معنى خب والمطي، فنادى ذاكرته ولكنها لم تسعفه، فاضطرب وارتبك واشتد به الخجل، وكاد الدم يتفجر من خديه، ولحظت سوسن صمته واضطرابه فسألته، وقد قل صبرها: والشطر الثاني؟

فاشتد به الاضطراب والارتباك والخجل، وأشفق من أن يفقد مفخرته الوحيدة في الدنيا، وهي ما يزعم من التفوق على الأقران، فآثر الكذب والتحايل على التسليم بالجهل، فقال: خب بمعنى طال .. والمطي هو الفراق .. معنى الشطر كله: كيف إذا طال الفراق عشر ليال لا ليلة واحدة؟

وأغلقت سوسن الكراسة في ارتياح وطمأنينة، ونظرت إليه ممتنة شاكرة، فأغضى أمام نظراتها الساحرة خجلا وخزيا، متألم الضمير من تضليله لها وعبثه بثقتها به، وذكر في رعب مفاجأتها المتوقعة أمام الشيخ حين يشطب بقلمه الأحمر على شرح الشطر الثاني .. فما عسى أن يكون رأيها فيه أو شعورها نحوه؟

وكاد يغرق في أفكاره، لولا أن سمعها تقول بصوت هادئ عذب:

أأشتاق ولم يمض لي غير ليلة

فكيف إذا طال الفراق عشرا

ثم ضحكت وسألته: لمن قيل هذا البيت؟

وكان قد سرى عنه الهم سماع صوتها وضحكتها، وقال: الذي يفهم أن الشاعر يخاطب حبيبته.

وكانت هذه أول مرة يجري بينهما فيها ذكر لإحدى اشتقاقات الحب، فنظر إليها مرتبكا وهاله أن يرى حمرة في خديها وارتباكا في عينيها .. لم؟ .. لم؟

وكانت الابتسامة لا تزال متعلقة بشفتيها الجميلتين المفترتين عن در نضيد، وخصلات شعرها مبعثرة على الجبين والخدين كلما هب النسيم حملها من حسن إلى حسن، فنسي الوجود، وما عاد يرى الأشجار والأزهار ولا يحس بهبات النسيم ولا يشعر بهمومه وتأنيب ضميره، وما عاد يذكر من هو، ولا من هي، واستقر وجدانه في هالة من النور تشع من وجهها الجميل، فأنعم فيها نظرا وهياما.

ولم تقو على نظراته فأسبلت جفونها وتدفق الدم إلى خديها كأن تلك الكلمة الساحرة التي أفلتت من لسانه عن غير قصد أروتها فأنبتت هاتين الوردتين، فلج بها الهيام، واستثاره ما تدل عليه هيئتها من الاستسلام، فمال بهامته حتى مس جبينه خصلة من شعرها وأسكره أريج أنفاسها .. وتردد لحظة .. ثم لثم فاها .. وعلى حين فجأة انتفضت الصبية في جلستها كمن يستيقظ على ضربة في أم رأسه، وقد اتسعت عيناها، وصرخت فيهما الدهشة والذعر، ثم انتصبت واقفة وفرت هاربة.

رباه .. ما الذي أفزعها .. ولماذا فرت على تلك الحال؟ وما عسى أن تفعل بعد ذلك؟

وامتلأ قلبه رعبا، فقام من فوره واندفع جاريا في اضطراب شديد إلى باب القصر، ثم ترك قدميه للريح، لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى حجرته.

هل يمكن أن تشكوه سوسن إلى أبيها؟ كم كان أعمى مجنونا! كيف آتته الجرأة! يا ويحه فقد خدع فظن عطفها محبة وعبثه ودا، وإذا فضحته عند أبيها فماذا يكون مصيره؟ بل ماذا يكون مصير والده نفسه؟ ولكن رجع أبوه إلى البيت كعادته، ومرت أيام دون أن يوجه إليه أي تهمة أو يتعرض للفصل من عمله، فهدأت نفس يوسف، وعاودته العواطف التي غاصت في قلبه لحظات خوفا وذعرا، ونازعه الشوق إلى الوجه الجميل وصاحبته، ورأى أن ما يمكن أن يصيبه من ذهابه لن يعدل ما هو فيه من ألم الشوق مهما ساء وغلا. فحمل نفسه إلى القصر بعد احتجابه تلك الأيام وانتظر ونفسه حيرى، وجاءته الصبية تسعى، ولما وقع نظرها عليه بدا على مخايلها الغضب فتقدمت منه خطوات، ووقفت متحدية، فأغضى أمام نظراتها خجلا وألما، وانتظر في يأس الكلمة القاضية، واشتد عليه الحال، فقال بصوت تمزقه نبرات الألم: كانت غلطة شنيعة .. هل أنت غاضبة؟

فأجابته بلهجة حادة: «طبعا .. ماذا كنت تنتظر؟» - اعفي عني. - لن أعفو.

وهنا رفع رأسه بحركة سريعة، وقد تبدل وجهه من حال إلى حال، لأنه خيل إليه أنها فاهت بالعبارة الأخيرة بلهجة رقيقة وهي تغالب ضحكة، فلما وقع عليها وجدها تبسم إليه بثغر فتان غفور رحيم!

وهم أن يتقدم منها خطوة؛ ففرت منه هاربة!

كانت تلك الأيام أسعد أيام حياته على الإطلاق، لا يذكر أنه سعد سعادتها من قبل ولا من بعد رغم تنوع الظروف واطراد التجارب، وبعد تلك القبلة وذاك الرضا لم تعد تقابله في علانية وسذاجة، بل اقتصر التبادل الروحي بينهما على النظرات والهمسات أو اللقاء المختلس تحت الخمائل أو خلف جماعات الشجر، وستر عليهما تعارفهما ترامي أطراف الحديقة وعدم إمكان تسرب الشك إلى قلب من يراهما معا، فعاشا زمنا سعيدا في غفلة من الناس والدهر حتى وقع ما قضى عليه بالخروج من جنته مقهورا مغلوبا على أمره: كانا جالسين على الأريكة التي قبلها عليها لأول مرة، وقد انساق الحديث إلى المستقبل، قال يوسف: هل يمكن أن تنسيني فيما يقبل من الأيام؟

فنظرت إليه نظرة إنكار، وقالت: أنا؟! .. مستحيل! - ولكني أخشى أن يبدد أهلك أحلامنا .. فتنهار آمالي وأفقد سعادتي.

فردت عليه وقد كشرت عن أنفة وكبرياء: أبدا .. لن أسمح بهذا ما حييت.

فصمت يوسف لحظة يمتع نفسه بحماسها الفاتن، لكن لم يطل به الصمت السعيد؛ لأنه تذكر العقبات الأوابد التي تسد عليه الطريق، فتنهد، وقال كأنما يحدث نفسه: ترى هل أبلغ أمنيتي يوما فأتزوج منك؟

وكانت تلك المرة الأولى التي ينطق فيها بتلك الكلمة الخطيرة، ولذا أنكرتها أذنه وخيل إليه أن قائلها غريب عنه، أما سوسن فقد ارتجفت شفتاها عن اضطراب، وتدفق الدم إلى وجهها فصار كالجمان .. ولم يكن يطمع أن تجيبه بأكثر من هذا .. وبعد هنيهة ذهبت في التفكير والأحلام فسألته: «أي مستقبل تبتغي؟»

فأجاب: «أنا ما زلت في مستهل الطريق ومبتدأ العمر .. وكل صعب يسير مع الجهد والعزيمة الصادقة، فعليك الاختيار وعلي الاجتهاد.»

ففكرت لحظة تختار لزوج المستقبل ما تحب من المهن والأعمال، ثم قالت: ألا تستطيع أن تكون من الأعيان؟ إنني أسمعهم دائما يقولون عن بابا إنه من الأعيان، فلم لا تكون مثله؟ - من الأعيان؟! .. ولكنها ليست وظيفة ولا مهنة .. الوظائف التي أعني مثل المهندس والمدرس والضابط والطبيب ...

وعادت مرة أخرى إلى التفكير والمفاضلة، وكانت عيناه لا تفارقان وجهها، فرآه تضيق عيناه وتنفرج شفتاه من الذهاب مع التفكير، ففتنه منظره وأنساه نفسه كما فعل به في المرة الأولى، فاقترب منها وهوى برأسه يريد أن ينال منها قبلة .. ولكنه أحس بغتة .. نعم بغتة، بشيء يصيب رأسه وسمع صوتا يصرخ به: أتجرؤ يا كلب؟! .. والتفت مذعورا فرأى أخا الآنسة الأصغر ينهال عليه لكما وضربا. وأراد دفع السوء عن نفسه فأمسك بتلابيبه، فضاعف غضب الأخ وضاعف له الضرب .. ووقفت على بعد قريب سوسن تشاهد ما يقع بعينين محملقتين ووجه شاحب كوجوه المرضى. ولا يدري كيف نمى الخبر إلى أبيه فجاء يجري مضطربا وأمسك بيوسف بعيدا عن الصبي الآخر، وسأله بصوت ملؤه الاحترام: «لماذا تجد عليه يا سيدي؟ ماذا فعل؟» فأجابه بصوت عال مغيظ: «رأيته يحاول أن يغتصب ... قبلة من سوسن بالقوة!» فصرخ الرجل: «يا للفظاعة! .. هل حقا يا سيدتي؟» وكانت سوسن لا تزال ملازمة لحالة المباغتة التي استولت عليها .. فلما سمعت سؤال الرجل اضطربت ثانية .. ثم بلعت ريقها، وقالت بصوت خافت: «نعم.» وفرت هاربة من الواقفين ومن عيني يوسف خاصة.

بعد هذا شد الرجل على يد ابنه وساقه أمامه .. وقد هم يوسف أن يتكلم فما أحس إلا بيد أبيه تصيب مؤخرة رأسه فيقع على وجهه بين الإعياء الشديد والإغماء .. وهكذا كان ختام حديث الحب والمستقبل .. وهكذا كانت نهاية مغامرته في قصر سليم بك عامر.

لقد بدا له تصرفها أول الأمر غدرا وخيانة. ولكنه لم يلبث أن انتحل لها الأعذار .. وما كان الغضب ولا الموجدة ولا الاعتقاد في غدرها بمستطيعة أن تزحزح الحب عن قلبه قيد أنملة، فانزوى في حجرته يعاني الحرمان والألم واليأس المميت شهرا بعد شهر وعاما بعد عام، حقا لقد كان حبا عجيبا رهيبا .. وأنه لن ينسى ما عاش تلك الأعوام التي شهدت أيامها وساعاتها ودقائقها معاناته الألم الشديد واليأس والحب الخائب، وفي بعض ساعات اليأس والشوق رسم صورتها على حائط حجرته التي شهدت آلامه جميعها وكتب إلى جانبها تلك الأبيات الشعرية، وجعل يرددها كل حين عله ينسى ويتعزى.

وما كان يستطيع أن يتصور أنه ينسى.

ولكن للأيام أحكامها وقد تسرب النسيان إلى طيات قلبه نقطة نقطة حتى برئ وشفي وعفا من قلبه الهوى. ثم تقدم به العمر ووظف ثم تزوج وخلف وضاق بالحب.

وكم سخر من حياته ومن دنياه! .. إلا ذكرى واحدة إذا زارته انبسطت أسارير وجهه ولاحت في عينيه الأحلام .. وبعد فحسبه أن تذكر .. لأن التذكر للقلب كالحفر في باطن الأرض يفجر الماء فياضا غزيرا.

مفترق الطرق

زماننا عاثر الحظ، أو نحن به عاثرو الحظ؛ فأينما تول وجهك تسمع تنهد شكوى أو تر تجهم كدر. ولن تعدم قائلا يقول: إن هذا الزمان أضيق رزقا، وأنضب حياء، وأفسد خلقا، وأقل سعادة وأنسا من الزمان الماضي، ويجوز أن نكون لزماننا ظالمين، وأننا نتحامل عليه لا لعيب اختص به دون غيره من الأزمنة، ولكن تبرما بقساوة الحياة وفرارا من جفاف الواقع ولياذا بظلام الماضي الذي يشبه ظلام المستقبل بعث أمل وطب آلام. ومهما يكن من أمر هذا السخط فما من شك في أن جلال أفندي رغيب كان على حق في شكواه التي يرددها بغير انقطاع. كان مراجع حسابات في وزارة المعارف وفي السادسة والأربعين من عمره، قد وسع الله له في إحدى زينتي الحياة الدنيا وقتر عليه في الأخرى، فرزق ستة أبناء يسعون ما بين حجر الأم والسنة الرابعة الثانوية. وأما مرتبه فسبعة عشر جنيها، فناء بأثقال العيش ومتاعب الحياة، وقصمت ظهره المصاريف المدرسية. وكان كثيرا ما يقول متبرما حانقا كلما آن موعد قسط أو اقترب موسم من المواسم: «رجل مثلي، أب لستة ذكور، اثنين في المدرسة الثانوية، واثنين في المدرسة الابتدائية، وواحد في المدرسة الأولية، وواحد في البيت، غير زوجة وأم، ولا تراه الوزارة حقيقا بإعفاء واحد من أبنائه من المصاريف .. فمتى إذن تجوز المجانية؟! .. ولمن تجوز؟» وكان كغالبية أهل هذا البلد يائسا من العدالة قانطا من الخير، يعتقد اعتقادا كالإيمان الراسخ أنهما لا يصيبان إلا المجدودين من ذوي القربى والأصهار والأصدقاء، فرأى أن ليس أمامه سوى الكفاح الشاق، ومعاناة الشدة عاما بعد عام، والتصبر على مرارة الحياة، ولبث على حاله لا يطمع في رجاء حتى تولى وزارة المعارف معالي حامد بك شامل؛ فطرق أذنيه اسم الوزير الجديد، وجذبت عينيه صورته المنشورة في الصحف، فومض في أفقه المظلم بارق أمل جديد، وانتعشت نفسه برجاء لا عهد له به، وقال لنفسه: «ينبغي أن أقابله .. وأن أشكو إليه .. هل يرفض رجائي؟ .. لا أظن.» وقصد يوما إلى سكرتير الوزير، وكتب حاجته على رقعة ليوصلها إليه، فمضى الشاب بها وتركه في حالة من القلق والإشفاق لا توصف، وعاد مسرعا يقول لجلال أفندي: «معالي الباشا مشغول جدا اليوم، فلتتفضل بالمجيء ضحى الغد.» فعاد إلى حجرته مسرعا واجدا متألما، وكان ألف طوال مدة خدمته خيلاء الرؤساء وانتهار المديرين، ولكن انشغال الوزير آلمه أكثر من أي شيء، وجعل يتساءل: ترى هل يذكرني؟ .. ولم يكن شيء ليصده عن هذا الباب، فذهب ضحى الغد كما قال له السكرتير وانتظر طويلا حتى قال له الشاب: «تفضل»، فقام مسرعا خافق الفؤاد، وفتح له الباب المحروس فاجتازه إلى الحجرة ذات السجاجيد والزخارف، ونظر إلى صدر المكان فرأى معالي الباشا كما يدعونه يطالع في شيء بين يديه، فلما أن شعر بوجوده رفع إليه عينيه ومد له يده وعلى فمه شبه ابتسامة وقال: أهو أنت؟! .. لقد اشتبه علي الاسم .. أوما تزال حيا؟

فسر جلال للمداعبة الأخيرة واطمأنت نفسه، وقال بخضوع وإجلال: نعم يا صاحب المعالي، ما أزال أكابد حظي في الدنيا.

فنظر إليه نظرة استفهام، ومال إلى الوراء قليلا وهو يتمتم: «أفندم»، فقال جلال: يا معالي الباشا، قصدت إلى معاليك لأشكو إليك ما أشكوه من عنت الدهر وشقاء الأيام. لي أسرة كبيرة وأبناء كثيرون ومرتبي صغير، ولست طامعا في علاوة أو درجة، ولكني أضرع إلى معاليكم أن تعفي ابنين لي في مدرسة شبرا الثانوية من المصروفات. - الاثنين معا؟! - نعم يا معالي الوزير، إن آمالي مشرقة بمعاليكم، لقد جاورت معاليكم عهدا طويلا من سني الدراسة، وينبغي لمن حظي بذاك الجوار أن يربو حظه على حظوظ الناس جميعا، خاصة إذا علمتم أن لي غيرهما أربعة آخرين، فقال له الوزير باقتضاب: قدم لي مذكرة.

وكان الرجل محتاطا لذلك، فأخرج من جيبه التماسا أعده لهذه الساعة وقدمه إلى الوزير، فجرت عليه عيناه بسرعة، ثم أمسك قلمه ووقع عليه بكلمة، وقال للرجل: اطمئن.

فانحنى جلال أفندي تحية، فتكرم الآخر بمد يده له، ثم غادر الحجرة مغتبطا مثلج الصدر. ولكنه ما كاد يعود إلى مكتبه بالوزارة، حتى قال لنفسه متعجبا: لم يتغير «حامد شامل» البتة، ولا تقدم به العمر، وكأنه في ريعان الشباب .. هل يصدق إنسان أن كلينا ابن خمس وأربعين؟ تالله إني لأبدو لعين الناظر في سن والده! .. وقضى وقته يفكر في الوزير، في حاضره وماضيه، وفي صلته القديمة به .. ثم اضطجع بعد تناول غدائه في بيته، وأشعل سيجارة، واستسلم إلى أحلام الذكريات .. فألوت به إلى عهود الماضي المنطوي .. إلى الوقت الذي كان يجلس فيه إلى يسار التلميذ «حامد شامل» على مقعد واحد، لا يكاد يفرق بينهما فارق جوهري .. وكان التلميذ «حامد شامل» يلفت الأنظار إليه ببياض بشرته واحمرار شعره، وبملازمة عبد متهدم طويل يرتدي بذلة سوداء له في الطريق إلى المدرسة وفي طريق العودة، يتبعه كالظل إذا مشى، ويطمئن إلى مكانه إلى جانب حوذي العربة إذا ركب؛ ولذلك كان يحلو لرفاقه أن يداعبوه، فدعوه «حامد أغا»، على أنه عجب غاية العجب كيف كانت المنافسة تحتد بينه وبين وزير اليوم وتلميذ الأمس كأنهما أخوا حظ واحد .. والأعجب من هذا أنهما جريا معا وراء تلك العاطفة - التي تهيج الجد والنشاط ولا تتسامى عن المرارة والألم - منذ أول عهد تجاورهما، وكانا في كفاحهما كأنهما يعيشان منفردين في فصل واحد، فكانت الغاية التي يهدف إليها كل منهما أن يتفوق على قرينه بغير مبالاة الآخرين. وعلى الرغم من استعانة حامد بالدروس الخصوصية يتلقاها على أنبه مدرسي المدرسة، فقد كانت الغلبة بينهما سجالا، وكانت كفة جلال الراجحة .. وكانا في ملعب كرة القدم مثلهما في الفصل لا يريحان ولا يستريحان .. وكان كلاهما يزعم أنه أحق من صاحبه بقلب الدفاع .. فكان مدرس الألعاب يعاقب بينهما فيه، حتى بدا تفوق جلال للجميع فاستأثر به، فكان آخر عهد الآخر بلعب الكرة. يا لله! .. كانا يستبقان كأنما الدنيا تضيق عنهما معا، وكأنما كان مستقبلها ينذر بحرب مستعرة تشمل ميادينها الجد واللعب والإدارة والوزارة. فكيف شالت كفته بعد ذلك؟ كيف سقط من عيون الغربال وضاع في الحثالة؟ .. كيف صار رفيقا المقعد الواحد أحدهما وزيرا والآخر مراجعا بالحسابات ينوء صدره بآلام الحاضر ووساوس المستقبل!

ثم تمتم قائلا وهو يطفئ سيجارته ويرمي بالعقب إلى المنفضة: تالله ما يستحق أن يكون وزيرا ولا وكيل وزارة ولا شيئا من هذا، وخشي أن يكون متجنيا عليه أو مائلا مع عواطفه القديمة فتساءل باهتمام وجد كأنما يزمع كتابة ترجمة له كيف اعتلى كرسي الوزارة؟ .. لقد انفصلا في نهاية الدراسة الثانوية فاضطر هو لأسباب إذا ذكرها جرت المرارة في فمه، إلى الانقطاع عن الدراسة والتحق صاحبه بمدرسة الحقوق، ثم حصل على الليسانس، وكان أبوه محمد باشا شامل وزيرا للحقانية، فعينه سكرتيرا له في الدرجة الخامسة، فكانت القفزة الموفقة الأولى. وقرأ بعد ذلك في الصحف أنه اختير لبعثة في فرنسا لا يعلم كم أمضى بها ولا ما حصل عليه فيها من الإجازات، ولكن كثيرين يعلمون بزواجه بعد ذلك بسنوات من كريمة المرحوم حامد باشا حامد الذي تولى الوزارة مرات، فارتقى فجأة إلى الدرجة الثالثة مديرا لإدارة التشريع، وانقطعت عنه أخباره فترة وجيزة حتى علم بتوليته مديرية أسوان، ثم بترقيته محافظا للقنال بعد ذلك بقليل، ثم باختياره وزيرا للمعارف، ومضى على توليته الوزارة أسابيع والمجلات لا تكف عن الإشادة بمواهبه القانونية ومقدرته الإدارية ومشروعاته عن إصلاح التعليم، وكاد جلال أفندي أن يصدق ما يقال لولا أنه قرأ مقالا عن تفوق الوزير في عهد الدراسة - في العلم والرياضة البدنية معا - وكيف أن مفتشا من مفتشي الوزارة تنبأ له على أثر مناقشته بأنه سيكون يوما وزيرا، فأغرق الرجل في الضحك، وقال ساخرا: «الآن فهمت سر المواهب القانونية والإدارية.»

وتنهد جلال أفندي رغيب وتمتم قائلا: «دنيا!» وأراد أن يريح نفسه من أفكاره، فتناول مجلة يقلب صفحاتها المصورة. والظاهر أن ذكريات الوزير كانت تأبى أن تفارقه؛ فرأى صفحة من المجلة مخصصة للوزير تتوسطها صورة كبيرة، ما إن بصر بها حتى صاح في دهشة وغرابة: «رباه هذه صورة فصلنا القديم.» وألقى عليها نظرة سريعة، فثبت بصره على صورته، وكان يقف في الصف الأول وراء المدرسين مباشرة إلى يمين الوزير ينظر إلى عدسة المصور في ابتسام وثقة، وكان الوزير كالعابس وعلى حاجبه الأيمن ذبابة، فضحك جلال طويلا وذكر قصة الذبابة، وقد كانت في الأصل من نصيبه هو وتنبه لها والمصور يهم بالتقاط الصورة، فهشها بسرعة فطارت عنه إلى حاجب قرينه وحطت عليه، وقد أحس أسفا لذنب الذبابة فلعلها كانت ذبابة الحظ السعيد سكنت إلى وجه الوزير المدخر، ورنا إلى الصورة بعينين حالمتين، فهامت روحه في آفاق الماضي حتى شعر بأن روح الطفولة تحل فيه مرة أخرى، وأن شعيرات قذاله البيضاء تسود، وتجاعيد جبينه وما حول فمه تلين، ونظرة عينيه تصفو وترق، ويمسح على ما فيها من هم وبلبال .. أحس قلبه يخفق مرة أخرى بالأمل والطمأنينة، وجرى بصره على الوجوه الصغيرة وهو يتساءل: ترى كيف صار هؤلاء جميعا؟ .. وعاين أول صورة في الصف الأخير فعرف صاحبها بوضوح غريب، وذكر اسمه «عبد الملك حنا»، وذكر كيف كانت تنتابه نوبات الصرع في الفصل حتى انقطع عن المدرسة .. أما بقية الصف فتذكر وجوههم، وغابت عنه أسماؤهم ومصايرهم، وعرف في الصف الثاني وجها كأنما تركه بالأمس، كان ابنا لأحد كبار المستشارين، فكان يتمتع لذلك بنفوذ وصولة فيحييه الناظر إذا بصر به، ويلاطفه المدرسون، وقد علم فيما بعد أنه عين وكيلا للنيابة وترقى قاضيا، ولعله يتأثر الآن خطى أبيه الكبير. أما من يليه من الصغار فجلهم من المغمورين وبعضهم معه في المعارف وهو يعرفهم حق المعرفة، وأما آخر هذا الصف - الذي ينظر إلى المصور بتحد غريب ويشبك ذراعيه على صدره - فكان من أشقياء التلاميذ المولعين بالشجار والتصادم، وقد طرد من المدرسة لاعتدائه على أحد المدرسين، ومن العجيب أنه احترف فيما بعد «البلطجة»، وطاف بالسجن مرات، وألقى نظرة أخيرة على الوجوه الأخرى فلم يعرف عنها شيئا إلا الدكتور المعروف «حنا عبد السيد»، وإلا هذا الذي يتوسط الصف الأول، كان أنبغ التلاميذ جميعا، وكان أول الابتدائية، ثم أول البكالوريا، والتحق بمدرسة الحقوق كبير الهمة سخي المواهب، ولكنه أصيب أول عهده بها بداء الصدر، فاضطر إلى ترك المدرسة والكف عن التحصيل، واشتغل بعد ذلك بعامين كاتبا في الصحة .. فلا يقل حظه شذوذا عن حظ الوزير نفسه.

نال كل منهم نصيبه وخضع لحكم حظه وسعيه. كانت تجمع بينهم جدران واحدة، لا يكاد يتميز وراءها إنسان إلا بجده وخلقه، ففرقت بينهم الحياة، فرفعت وخفضت، وأحيت وأماتت، وأذاقت الفقر، ومتعت بكرسي الوزارة، وكل بما قسم له غير راض ولا قانع ..

ونظر جلال أفندي عند ذاك في الساعة فوجدها تدور في الرابعة، فعلم أن موعد الصغار آن واقترب، وأنهم عما قليل يملئون البيت حياة وقلبه نورا، فرمى بالمجلة بعيدا وطرد من عقله الوسواس ليستقبلهم أجمل استقبال، وقال لنفسه متعزيا: من الخطأ أن يفكر الإنسان في شئون الناس ما دام هذا لا يورث الضيق، وحسبي أن معاليه قال لي: «اطمئن.»

التطوع للعذاب

انتهى الأستاذ حسان جلال - وهو محام تحت التمرين - من كتابة المذكرة القضائية التي شرع ينشئها منذ الصباح الباكر؛ في تمام الساعة الثانية عشرة. وكان الجهد قد نال منه كل منال، فاستند إلى ظهر كرسيه في إعياء ونصب. ومد يده إلى فنجال قهوة، وارتشفه وهو ينظر إلى الأمام بعينين يوشك أن يلتقي جفناهما. ودخل الخادم عند ذاك، فأقبل على سيده وبصره بخطاب كان تركه على المكتب قبل ساعة والشاب مستغرق في عمله. فألقى عليه نظرة فاترة، وتناوله بغير اكتراث، ولكنه حين وقع بصره على الخط المكتوب به العنوان حدثت في وجدانه صدمة عنيفة مباغتة، أرهفت حواسه، وأثارت انفعاله، وأقلقت باله، فالتمعت عيناه بنور خاطف، وبدا شخصا جديدا. عرف الخط من أول نظرة، فتأمله بدهشة وكأنما ينظر إلى وجه كاتبه في ضوء النهار، فلم ير خطا ولكن رأى وجها مستديرا كالبدر، خمري اللون، تدل قسماته الدقيقة على الأناقة والملاحة. وغشيه الانفعال ساعة لا يدري من أمره شيئا، ثم جذبه الخطاب من العالم الداخلي الغارق فيه، ولكنه لم يطع لأول وهلة الدواهي الدفينة التي تهتف به أن يفض الغلاف، وأبقاه على يده، وجعل يديم النظر إليه في شغف ولذة وارتباك وخوف. وقد فرح به وحزن، ورضي عنه وغضب. وتساءل في حيرة أيصح أن يطلع على ما فيه أم الأولى له أن يطرحه في سلة المهملات؟ .. على أنه كان يتساءل ويداه تفضان الغلاف بسرعة وتبسطان الخطاب. وما لبث أن قرأ مطلع الكتاب، وهو «عزيزي حسان»، فلم يستطع أن يستمر في القراءة واستولت عليه خواطر وشجون، وأحس بخيبة لم يهون من شأنها أنه كان يتوقعها. كانت إذا كتبت إليه فيما مضى تبدأ خطابها، فتقول: «حبيبي حسان» أما اليوم فإنها تتجنب هذه الكلمة الساحرة، ولعله دار بخاطرها ما يدور بخاطره الآن حين همت بالكتابة إليه، فليس إبدال عزيزي بحبيبي بالشيء الهين، وإنما هو حدث من الأحداث وفجيعة من الفواجع .. رباه! لماذا تراسله وتجذب أفكاره إلى واديها، فتنكأ جرحا في فؤاده أوشك أن يلتئم، وتثير بركانا كاد يخمد بين جوانحه؟ وتنهد من أعماق صدره، وكر بعينيه الحالمتين إلى صفحة الخطاب، وألقى عليها نظرة عامة، فأدرك إيجازها «التلغرافي»، وأحس لذلك بكآبة الكلمات: «سأنتظرك أصيل اليوم في مكاننا المعهود بالحديقة الأندلسية؛ فإن أنت أتيت لكي نصفي الحساب - أي حساب يا ترى؟ - رحبت بك، وإن أنت أصررت على الجفاء، فيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد.»

ويلي ذلك الإمضاء المحبوب: إحسان ج. وكان أول ما فاه به بعد تلاوة هذه الكلمات أن قال باضطراب: «أصيل اليوم في مكاننا المعهود.» وأحس بدنو الموعد فاهتاج شعوره واضطرم صدره، ثم استقر بصره على هذه العبارة: «فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد.» فجفل منها وذعر، وانقبض صدره، ألم يجعل فراق سنة هذه العبارة حقيقة واقعة؟! أولم يكن يظن أنه نفض منها يديه إلى الأبد؟! .. بلى، ولكن ذاك الخطاب رده إلى ماضيه بسرعة، فانبعثت فيه حرارة كما تنبعث الكهرباء في المصباح بعد سريان التيار إليه. وضاق عند ذاك بمقعده وبالمكان، فاعتزم مغادرة المكتب الذي يتمرن فيه، وطوى الخطاب، وارتدى طربوشه، ومشى إلى الخارج. وفي الطريق ارتد خياله إلى الماضي يتعقب حوادث الأمس المنطوي .. لا يدري بالضبط متى تعرف بإحسان، وإن كان يشعر أنها تملأ ماضيه جميعا؛ ذلك أنه لم يعتد مطلقا عادة كتابة المذكرات، فسجلت ذاكرته الحادثات بنسبة تأثرها بها لا على حقيقة وقوعها، ولكنه يذكر بغير ريب أنه في صيف العام الماضي سكنت أسرة إحسان في عمارة رقم 10 بشارع البستان بالسكاكيني، وأنه تعرف بالفتاة قبل أن يمضي شهر على نزولها بالحي الجديد. وقد جعلت المقادير حجرة نومها تجاه حجرة نومه، فتهيأت لكل منهما الفرص لتذوق صاحبه وتقدير مزاياه. وجذبته بادئ الأمر ملاحتها وأناقة قسماتها، فانجذب إليها ينشد الحب واللهو والعبث، وما يدري إلا وقد بهره ذكاؤها ورقة روحها وأنوثتها الناضجة، فأحبها الحب الصادق، وتعاهدا مخلصين أن يكون لها وأن تكون له ما امتد بهما العمر. وشاركا المحبين حياتهم الهنيئة التي تطرد في هدوء بين المناجاة واللقاءات والوعود والآمال كأنها جدول صاف يشق حقلا من بدائع الورود والرياحين، إلى أن كان يوم عادت أمه فيه من إحدى الزيارات تكيل الذم لفتاة التقت بها لأول مرة في بيت جارتها. فدفعه حب الاستطلاع إلى السؤال والتحري، فإذا بالفتاة فتاته دون غيرها، وإذا بأسباب غضب أمه عليها أنه دار حديث بين السيدات عن أعمارهن، ولما سئلت أمه عن سنها قالت: «كنت ابنة عشرين أيام الحرب.» وكانت تعني الحرب الكبرى. ولكن إحسان تساءلت بخبث تعقب على قول السيدة - وهي تجهل أنها أم حبيبها: «حرب عرابي يا تيزة.» وضحكت السيدات طويلا، وضحكت إحسان كذلك، ولم تكن قالت ما قالت إلا بدافع الميل إلى الفكاهة، ولكن أمه لم تحتمل هذه الفتاة، وأحست بطعنة أليمة نغصت عليها صفوها، واستمع حسان إلى قصة والدته باستياء وغيظ وأسف، وكان ينوي قبيل ذلك أن يعلن خطبته فاضطر إلى التريث مغلوبا على أمره، وعهد بإسكات ذاك الغضب إلى الزمن، ولما ظن أن ما كان من الأمر قد نسي وعفا أثره، تقدم إلى والدته يحادثها في أعز أماني قلبه، ولكنه وجد منها ازورارا وإباء، وكبر عليها جدا أن تستأثر بابنها غدا التي أهانتها بالأمس، فرفضت الإصغاء إليه وأصرت على أن مثل تلك الفتاة غير جديرة به ولا كفء له، وذهبت كل محاولاته وتوسلاته لاسترضائها أدراج الرياح، وعجب حسان لغضب أمه أكان حقا لتلك الدعابة المرة، أم لإشفاقها من احتمال تحول قلب ابنها الوحيد عنها إلى امرأة أخرى؟ أم كان لهذين معا؟ ومهما يكن من الأمر فقد أسقط في يده، وتوزع قلبه ألما وحزنا بين أمه وحبيبته، وكابد فترة من الحياة مليئة بالقلق والعذاب، موزعة بين الألم والضجر واليأس والحنق. ثم أعلن ما كان سرا وافتضح ما كان خافيا، فصار عداوة صريحة بين أمه وخطيبته تحدثت بها ألسنة الحي جميعا. وإنها لعلى شدتها وقوتها إذ أحست أمه بالمرض فجأة، فلزمت الفراش ثلاثة أيام ثم انتقلت إلى جوار ربها في اليوم الرابع، ووقع عليه الخبر بعنف وشدة، ففزع وهلع وتقطع قلبه ألما. كان يحب أمه حبا كبيرا، وقد هاج الفراق الأبدي الحب المتغلغل، فاختنق بالعبرات وأظلمت الدنيا في عينيه ..

ووسوس له قلبه بخاطر زاد من ألمه، قال عسى أن تفرح إحسان لموت أمه، وقد كانت تعدها عثرة في سبيل سعادتها، فما من شك في أنها سعيدة مغتبطة وإن تظاهرت بمشاركته حزنه. وآلمه هذا الخاطر ألما عميقا، وزاد من وقعه أن سمع من حوله يتهامسون به، فانطوى على الحزن والغضب، ورأى قبر أمه العزيزة يقوم حائلا منيعا بينه وبين الفتاة.

فهجرها فجأة وامتنع عن الرد على رسائلها، وانغمس في الكآبة والأحزان ومكابدة الآلام والأشواق، زائغ البصر بين ذكرى أمه وذكرى سعادته حتى تعود على الألم وألف التصبر والتجلد، وظن أنه يتناسى الماضي بهمومه وآلامه أو أنه نسيه بالفعل.

ازدحمت هذه الذكريات برأسه في طريق العودة إلى البيت، ولكنها لم تصحب بعواطف في مثل مرارتها وحزنها؛ إذ كانت الذكريات تمر برأسه أخيلة مجردة عن عواطفها وإحساساتها. أما وجدانه فكان كله مستغرقا في أثر الخطاب والموعد. لذلك انصرفت نفسه عن الغداء، وعز النوم على جفنيه، وحامت أفكاره حول فتاته فتمثلها أمامه بقدها الممشوق ووجهها البدري، وكأنه كان يسمع رنة صوتها، ويشم رائحة «سوار دي باري» التي تتعطر بها، فانفعل انفعالا شديدا نبا به عن الطمأنينة. ولم يكن قر رأيه على شيء، ولا بت في المسألة برأي، بل كان يحاذر من مواجهتها مواجهة حتى لا يقطع فيها برأي ينغص عليه أحلامه أو يميل بها إلى حل يثير كوامن أحزانه. حتى إذا وافى الأصيل وجد نفسه يغادر البيت ويقصد إلى قصر النيل مستسلما لتيار عنيف لا يتنكب عن طريقه، ويأبى أن يقر بالاستسلام. ولكنه ألفى نفسه أمام ما يحاذره، حين عبر الجسر، وطالعته الحديقة الأندلسية بخمائلها المعشوشبة، ومدرجاتها السندسية، هنالك أحجم عن التقدم وانعطف إلى يمينه يساير النيل مضطربا حتى حجبه سورها الحجري، ثم استند إليه متريثا، وقد لفتته الحيرة والاضطراب ولبث في جمود تام، وكانت أفكاره تنجذب بشدة نحو تلك التي لا يفصلها عنه سوى السور الحجري . وسرى في ملمسه من الحجر البارد تيار حار متدفق، فخفق قلبه بعنف وكاد يتحول إلى الباب مندفعا، وفي تلك اللحظة الفاصلة ارتد خياله - فجأة - إلى بعض حقائق الماضي الأليمة، فبردت حماسته، وهبطت حرارته، وانتكس انتكاسا غريبا أحس من جرائه بخجل واستحياء وألم، فجعل يتساءل مغيظا محنقا: كيف حملتني قدماي إلى هنا! ولم يلبث أن احتدم بقلبه الغضب، وخال أن إقدامه على الذهاب إلى هناك عيب حقيق بأن يجعله ضحكة للضاحكين والشامتين، وهز منكبيه باستهانة، وانحدر في الطريق الضيق مبتعدا عن الحديقة، ولم يعتوره التردد سوى مرة واحدة وقف عندها قليلا والتفت وراءه، ثم استأنف المسير بعزم ويأس، ولم يكن يملأ فراغ خياله حينذاك سوى صورة أمه .. وهكذا خان عهد سعادته ليكون وفيا لذكرى أمه، وكثيرون هم الذين يعانون الآلام والمتاعب في سبيل ما يتمثل في نفوسهم من الأوهام.

القيء

كان سعادة سعيد باشا كامل يقول كثيرا لخاصته: إن رجلا مثله ألفت نفسه العمل والنشاط لأحرى أن تقعده حياة المعاش مقاعد المرضى المنهوكين. وصدقت نبوءته، فما كاد يحال على المعاش حتى سارع إليه ذبول الشيخوخة، واعتوره الإعياء والخمول؛ ولذلك فإنه حين أصيب بالإنفلونزا لم يعمد كعادته إلى قهرها بالعناد والإيحاء الطيب والمثابرة، ولكنه رقد على فراش المرض عشرين يوما قانعا من لذيذ المأكل والمشرب بعصير البرتقال وماء الليمون. على أنه في فترة النقاهة اعتاض عن تصبره لذة لم يكن له عهد بها؛ كان الصيام قد صفى بطنه، وطهر قلبه، وأسكت نوازع جسده الصارخة، وطرد أشباح نفسه المفزعة، فأضاء عقله بسنا نور بهيج، واستنارت بصيرته بالصفاء والتجلي، وتبدت له الأمور على غير ما كان يرى. تراءت له الدنيا كومة من تراب، وكأنه يعتلي قمة السماء التي تظلها، وانكشفت له الحقيقة بغير قناع، فكأنما انجلت غشاوة الغرور عن ناظريه، فأحس أن بنفسه كنزا يغنيه عن الدنيا وما فيها، وشعر بالسلام والطمأنينة يتدفقان من ينابيع صدره، فذاق سعادة الجنان، وما كان ليفيق منهما لولا أن كر به الخيال إلى الوراء يتيه في غياهب الماضي ، وينبش قبور المنطوي من الزمان، وينشر الرمم والعظام من الذكريات .. كيف اختار أن يدعو الماضي ليتطفل على سعادته الراهنة؟ كيف رضي أن يغفل عن لذة الصفاء ليعاني ضراوة الأفكار؟ في الحق إنه لم يرغب في ذلك مختارا ولا راضيا، ولكنه وجد الذكريات تطرق باب قلبه بإلحاح وعناد وعنف، فلم يملك إلا أن يفتح لها كارها وأن يستقبلها ساخطا متبرما، وأن يجترها يتقزز ونفور. ولم تكن المرة الأولى التي تزوره فيها ولكنها لم تكن تبدو له مخيفة ولا محزنة، أما في ساعة الصفو والتجلي فقد آلمته وأحزنته؛ لأنه استقبلها بقلبه الجديد. رجع به الخيال إلى عهد كان سعيد أفندي كامل كاتبا بالأرشيف في الدرجة الثامنة المخفضة! وكان يقيم في منزل قديم بعطفة الجلاد بباب الشعرية يعاني الأمرين من بساطة حاله، وكثرة تبعاته، وطموح قلبه، وتعالي همته. وكان يقول لنفسه دائما إن الله وهبه ذكاء عاليا، ولكن حظه السيئ ران عليه فصد أو خبا؛ ولكنه كان معروفا بين الجيران لجمال زوجته الحسناء، وكانت أمينة من أصل تركي عاجية البشرة، سوداء الشعر والعينين، فاتنة القسمات؛ فكان يدعوها أهل الحي بالأميرة، وكانوا يضربون بجمالها المثال.

وفي يوم من الأيام صدر قرار وزاري بنقله إلى أسيوط فأسقط في يده؛ لأنه كان يعول والديه وإخوة صغارا، ولا يقوم مرتبه بالإنفاق على بيتين؛ وبدا له - في يأسه - أن يوجه زوجه إلى قصر «سليمان باشا سليمان» السكرتير العام لوزارته، لتستعطف أمه أو زوجه لكي يبقيه الباشا في الإدارة العامة بالقاهرة. وراقت الفكرة لأميرة عطفة الجلاد بباب الشعرية، فذهبت إلى قصر الباشا، وسألت عن أم الباشا، فقيل لها إنها ماتت من عهد طويل معه، فسألت عن زوجه، فقيل لها إن الباشا أعزب، فأوشك أن يلحقها القنوط وأن تهم بالعودة من حيث أتت. ولكن صادف ذلك خروج الباشا من قصره، فاستوقف بصره منظر السيدة الجميلة التي تحادث البواب فسأله عنها، فاستجمعت الشابة شجاعتها الموزعة وحدثت الباشا عما جاءت من أجله، ورق الباشا لجمالها، فدعاها إلى صالون الاستقبال، واستمع إلى شكاتها باهتمام وشغف. كانت تنظر عيناه أكثر مما تسمع أذناه، وكان كلفا بالحسان ينسى في مجلسهن دينه ودنياه، فتحلب ريقه، واحترق صدره، وابتسم لها ابتسامة حلوة وربت على منكبها بحنو، وقال لها: سأنظر في طلبك بعين العطف يا حسناء.

وكانت أمينة قادرة على قراءة العيون فتولتها الدهشة، ونظرت للباشا نظرة ملؤها الشك والارتياب، ففتنته النظرة؛ فمد يده - كما تعود وكما ألف - فعبث بذقنها الصغير، فقطبت جبينها وجفلت منه. فلم يدركه اليأس، وما كان يدركه اليأس أبدا، وقال لها برقة: كلانا له رجاء عند صاحبه، فاقض رجائي أقض رجاءك. وعادت المرأة إلى زوجها، وقصت عليه ما لقيت من الباشا، فانزعج الشاب انزعاجا كبيرا. وأرادت أمينة أن تشاركه عواطفه، فبكت وإن لم تخل من زهو وفخار، وأزمع الشاب يأسا وقال لنفسه: «ليكن سفر، والأمر لله.» ولكن في صباح اليوم الثاني استدعاه مدير الأرشيف، فذهب إليه مبلبل النفس مضطرب القلب، يظن أنه مبلغه أمر النقل لينفذه، ولكن الرجل قال له: «مبارك يا سعيد أفندي، لقد ألغي أمر نقلك.» فشكره الرجل متحيرا وهم بالرجوع، ولكن المدير قال له: «ومبارك أيضا؛ فقد رشحت لوظيفة من الدرجة السابعة بمكتب السكرتير العام.» آه! كم رنت الدرجة السابعة في أذنيه رنينا بديعا! .. لقد اضطرب وغضب وسخط وتحير وتردد وقارن ووازن، لكن رنين الدرجة ابتلع كل صوت حتى صوت ضميره وعفته، وتيقظت أطماعه، وجمح طموحه، فاستسلم، وكانت أمينة التركية الجميلة ذات غرور وطموح أيضا، فاتفقا على أن السوءة شيء يدارى، أما الفرصة المواتية فشيء لا يعوض .. وهويا معا.

وعزم على ألا تكون تضحيته عبثا؛ فدرس في بيته حتى حصل على ليسانس الحقوق ورقي سكرتيرا للسكرتير العام. وما زال يصعد مدارج الرقي مستعينا بهمته وذكائه وجمال زوجه. فلما اختير سليمان باشا سليمان وزيرا جعله مدير مكتبه، وقامت زوجه بنشر الدعوة له في الأوساط العالية، وقدمته إلى كبار الرجال، فتبوأ بفضلها مركز السكرتير العام، وصار سعيد باشا كامل، وصارت هي حرم الباشا المصون .. وكان قد تعود المهانة كما يتعود الأنف الرائحة النتنة .

وفي يوم من الأيام أعلن الباشا أنه مسافر إلى بورسعيد في رحلة تفتيشية تستغرق عشرة أيام. وبلغ المدينة، وشرع في العمل بما عرف عنه من النشاط وعلو الهمة، ولكن اعتوره تعب فجائي اضطر معه إلى قطع رحلته والعودة إلى القاهرة، وانتهى إلى قصره مع المساء وكانت عودة غير متوقعة، فاستقبله البواب بدهشة لم تخف عن عينيه على ندرة اندهاش النوبيين، والتقى الباشا بالسفرجي في الردهة التحتانية، فتولى الرجل الانزعاج، ولم يستطع أن يخفي تأثره، فغضب الباشا وسأله: «أين الهانم؟» ولم يجب الرجل كأنه لم يسمع، فقال له بحدة: أين الهانم يا أحمق؟! فارتعب الخادم، وقال بتلعثم: «فوق يا سعادة الباشا .. فوق.» فصعد السلم الخشبي المفروش بالبساط الأحمر المخملي وهو يتساءل: ماذا هنالك؟! وبلغ الصالون في ثوان، فرأى وصيفة زوجه تنسق باقة زهر ناضرة .. فلما رأته حملقت في وجهه بذهول وجمدت عن الحركة لحظة كأنها فأرة جذبت عيناها إلى عيني هر .. ثم هزعت إلى حجرة النوم ونقرت على بابها المغلق وهي تقول: سيدي .. الباشا هنا .. فساوره القلق والاضطراب، ودنا من الباب ووضع يده على الأكرة، وهو يعجب كيف لم تسارع الهانم إلى فتح الباب واستقباله، ثم أدارها فلم ينفتح الباب، فالتفت ناحية الوصيفة فلم ير لها أثرا، فنقر الباب وهو يقول بصوت متهدج: يا هانم .. لماذا تغلقين الباب؟

فلم ترد جوابا، فأدنى رأسه من الباب فسمع حركة صوت اصطدام شيء صلب بالأرض .. فاهتاجه الغضب .. فضرب الباب بعصاه، وصاح بحدة قائلا: يا هانم .. ألا تسمعينني؟ .. أمينة هانم.

ثم مضى يدفع الباب بعنف، فسمع صوت الهانم تقول: انتظر من فضلك في المكتبة حتى ألحق بك!

فقال بحدة: افتحي الباب.

فردت عليه بهدوء وإصرار: انتظرني في المكتبة من فضلك. - هذا سلوك غريب .. ما هذه الحركة بداخل الحجرة؟ - اذهب إلى المكتبة من فضلك. - لن أتنحى عن الباب حتى يفتح لي. فسكتت المرأة هنيهة، ثم قالت بحدة وغضب: معي شخص ينبغي أن يخرج بسلام.

وخذلته أعضاؤه المنهوكة فأحس خورا وذهولا، وجمودا ثقيلا ران على قلبه وتنفسه ، ولبث دقائق لا يبدي حراكا، ثم مضى بخطى ثقيلة إلى المكتبة وارتمى على مقعد ترتعش يداه من الانفعال والحنق، وقال بصوت كالمختنق: «يا عجبا! .. إنها لا تكلف نفسها مئونة التستر على فضيحتها؛ فالخدم يعلمون بغير ريب ...» واهتاجه الغضب، ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا، وما كانت إرادته تقدر على أن تصطدم بإرادتها بحال، فتصاعد غضبه دخانا كتم أنفاسه وسد مسالك صدره .. وقال بلهجة هستيرية: «هل يكون هذا المنتهك حرمة فراشي إلا تلميذا شريرا أو متعطلا متسكعا؟!» وانتظر أن تلحق به فلم تفعل؛ فقام مرة أخرى وقصد إلى حجرة النوم يسير بخطى مضطربة، فوجدها جالسة على الشيزلنج منكسة الرأس، فلما أحست به بادرته قائلة: إني أغادر البيت في الحال إذا كان هذا يروقك.

فلوح بعصاه غاضبا وقال بحنق: ما هذه الفضائح؟ .. ما هذه القذارة؟

وأصابت العصا ساقها دون قصد منه. فرفعت إليه بصرها وحدجته بنظرة باردة قاسية كان لها في نفسه وقع شديد، وقالت له: أتضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب؟!

لقد كانت تلك الكلمة أليمة موجعة، ولكن ذكراها التي تعاوده الآن أنكى وأمر.

وشعر عند ذلك بغمز موجع في صدره، فاتكأ على يديه الضعيفتين، وهم جالسا في الفراش، وكسر مخدة واستند عليها متنهدا من الأعماق، وبدا كالمستغيث من أفكاره، ولكن ذاكرته لم ترحمه ولم ترق لحاله، فاستحضرت أمام ناظريه حادثة أخرى ليست دون سابقتها بشاعة وقبحا .. وكان ذلك وهو في أوج مجده الحكومي، وكان يترأس حفلة بمدرسة الجيزة الثانوية، فألقى كلمة استقبلت بالتصفيق والتقدير، ووزع الجوائز على المتفوقين، وغادر المنصة مودعا من كبار الموظفين إلى سيارته. وانطلقت به السيارة وقد أخذ الظلام يغشى الطرق والحقول؛ وعند منعطف الطريق انبرى له شاب - ولعله كان تلميذا - وصاح به بأعلى صوته: «كيف تضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب؟» وعرته رجفة شديدة، وتشنج جسمه فلم يلتفت نحو القاذف الخبيث، وشعر بانهيار وتفكك، فتفصد جبينه عرقا باردا، ثم غلى دمه، وعجب كيف ذاعت هذه الجملة الآثمة حتى بلغت هذا الشاب. لقد غدا قصره موردا لفضائح غير مستورة ينهل منها المتطوعون لإذاعة المخازي. على أنه كان في تلك الأيام قويا مستهترا يهضم ضميره القتيل الفضائح بغير مبالاة، فهدأ روعه وقال باستهانة وحنق: قولوا ما يحلو لكم قوله، فسأظل - وأنوفكم في الرغام - السيد المطاع والرئيس المرتجى. أما الآن في ظل النقاء والطهارة فقد امتعض وحزن وشعر بالذكريات تصليه لهيبا جهنميا .. ودخلت عند ذاك أمينة هانم فسألته برقة: «كيف حالك يا باشا؟» ثم جلست على مقعد وثير، فنظر إليها بعينيه الذابلتين نظرة غريبة لم تفهم معناها الحقيقي؛ وعجب الرجل كيف تحافظ على حسنها وشبابها حتى ليخال الناظر إليها أنها في منتصف عمرها، مع أنه لا يكبرها بأكثر من ثمانية أعوام .. ثم قال لنفسه دهشا: «رباه! .. كأني كلما زدت عاما نقصت عاما .. فمتى تذبل وتذوي وتجفل من النظر إلى المرآة؟»

الهذيان

أوشك الفجر أن يطلع، وتصايحت الديكة إيذانا بطلائع النور، فأخلدت الحجرة إلى السكون والصمت، كأنما أسلمها أنين المرض الموجع، وتأوه الإشفاق الأليم إلى الهمود. كانت ترقد على الفراش امرأة شابة يبدو من اصفرار وجهها وذبول خديها وشفتيها وتضعضع كيانها أنها تعاني وبال مرض يهتصر شبابها. وعلى فراش قريب رقد شاب في مقتبل العمر، يثقل جفنيه السهاد، ويأبى القلق أن تلتقي أهدابهما، يطالع وجه المريضة في حزن، ثم يعطف رأسه إلى مهد جديد فيجري الحنان في عينيه الذابلتين، ويتمتم في رجاء صادق: «اللهم صن حياة الأم المسكينة .. وطفلتنا البريئة.» وكان الشاب من ذوي القلوب الرقيقة والنفوس الندية بالرحمة والعطف. وكان على عهد صباه يلذ لرفاقه أن يدعوه رجل البيت؛ لما طبع عليه من النفور من المجتمعات والأندية، والاشتراك في المظاهرات التي تستهوي أفئدة أقرانه، والانجذاب نحو البيت بسبب وبغير سبب، فكان يقضي نهاره في الحديقة يسقي أشجار البرتقال والليمون، أو في السطح بين الدجاج والحمام، فإذا كان الخميس أعطى ذراعه لشقيقته، ومضيا معا إلى السينما .. ولذلك أخذ يفكر في الزواج تفكيرا جديا منذ اليوم الذي عين فيه مهندسا بمصلحة الأشغال العسكرية. وراح يقتصد من مرتبه ما يقوم بنفقات الزواج، من مهر وشبكة وهدايا وفرح كما كان يفعل شباب الجيل الماضي. فلم يكد يمضي عليه عامان خارج المدرسة حتى تزوج، ولم يدهش أحدا أن تنعطف هكذا سريعا إلى الزواج هذه النفس المطمئنة إلى الحياة البيتية منذ نعومة الصبا. ولكنه كان سيئ الحظ؛ فما كاد يستدير عام ويستقبل طفلة حتى أصيبت زوجه بحمى النفاس، فزلزل بيته الهادئ المطمئن وارتجت حياته السعيدة وقد عرف منذ اليوم الأول للمرض ما الخوف وما الإشفاق وما الجزع. واندفع إلى استدعاء أعظم الأخصائيين من الأطباء حملة الباشوية والبيكوية غير مبق على مال أو ضان بثمين، حتى اضطر إلى بيع المذياع وساعته الذهبية، ولو طلب إليه أن ينقل دمه إليها لأداه إلى آخر قطرة .. وبالغ في ذلك فطلب من مصلحته إجازة كي لا يفارق المريضة، وكان يراقب أعين الفاحصين من الأطباء ويسألهم، ويطالع وجه زوجه بعد ساعة، ويسأل العرافين ويزور أضرحة الأولياء ويفسر الأحلام، متلمسا الطمأنينة في مظانها جميعا.

وهل ينسى الليالي التي قضاها مسهدا قلقا لا يغمض له جفن، ينظر ببصر حائر إلى الوجه الشاحب على ضوء المصباح الأحمر الخافت؟ .. وكانت هي مسكينة تستحق الرثاء، تضطرب بين النوم القلق واليقظة الحائرة، وبين النزاع والهذيان، وما هذا الهذيان؟! .. إنه ظاهرة عجيبة تدل على أن الإنسان قد يخون نفسه كما يخون الآخرين. كما يصغي إليها وهي تذكر بلسان متقطع أسماء أناس وأماكن وحوادث كثيرة، وكان شاركها شهود بعضها، فجرى الابتسام على فيه، وترطب التهاب عينيه المحمرتين بنظرة حنان. وفي ذات ليلة سمعها تناديه بصوت واضح قائلة: «صابر»، فهرع إليها متسائلا: «نعيمة .. هل تحتاجين إلى شيء؟» ولكنه أدرك أنه خدع لأنها كانت مغمضة العينين يابسة الفم كما يبدو من ازدراد ريقها بصعوبة، فعلم أنها ماضية في هذيانها الذي لا ينتهي، فعاد إلى سريره، وما كاد يرقد مرة أخرى حتى سمعها تقول وكأنها تحادثه: «صابر .. أنا متألمة خجلة.» فهز رأسه المثقل المتعب، وقال لنفسه: «أنت متألمة بغير شك. أعانك الله على ما أنت فيه. ولكن مم تخجلين! إن هذا الابتلاء لا يخجل أحدا وإن كان يحزننا جميعا.» وظن أنها تألم لما يتكلفه من حولها من العناء والسهر، فرمقها بنظرة حنان ورجا أن يكون هذا الشعور من آي اليقظة والشفاء. واستدركت المرأة تقول: «زوجي أحسن الأزواج، أما أنا فشقية. لست أهلا لوفائه.» فتنهد الشاب حزنا، وتمتم قائلا بصوت غير مسموع: «أنت أهل لكل خير.» وأراد أن يناديها لعله ينتشلها من تيار أفكارها المحمومة، ولكنها حركت رأسها بعنف على الوسادة وقالت بحنق: «راشد .. كفى وابتعد عني .. ابتعد ودعني.» وكان يهم بمناداتها فاحتبس الكلام في فيه، وحملقت عيناه المسهدتان، وبدا على وجهه الذهول والإنكار. وجلس في فراشه وهو يتساءل: «راشد! من راشد هذا؟» وكان يشعر شعورا باطنيا بأنه لا يسمع هذا الاسم لأول مرة، وكأنما سبق أن آذى مشاعره. وأسند جبينه إلى كفه، وأغمض عينيه، وكأن صاحب هذا الاسم يعيش في الظلام فقد رآه وعرفه، وأحس لذلك رجفة تسري في مفاصله .. راشد أمين أو أمين راشد - لا يذكر - شاب نافسه في طلب يدها على عهد خطبته لها، ولولا أن والدها فضله هو واختاره لكان قد تزوج منها. وقد تذكر أنه رآه مرة وإن كان لا يحفظ من صورته أي أثر، ورفع رأسه مرة أخرى ونظر إليها بعينين مرتابتين لا تصدقان؛ ورغب رغبة حارة في أن يستزيدها ويستوضحها، ولكنه لم يدر كيف يحثها على الكلام. ورأى شفتيها تتحركان في ضعف؛ فدنا من حافة سريرها، وأرهف السمع وكتم أنفاسه وهو يعاني جزعا مجنونا، فسمع صوتها يقول فيما يشبه الأنين: «من يقول هذا؟ .. أف والخيانة .. راشد .. صابر .. الخيانة شيء قذر.» فشبك كفيه وشدهما على صدره بحالة عصبية كأنما يضرع إلى شيء مجهول أن يمنع كارثة على وشك الوقوع، وحول بصره من طول الجمود على وجهها، فغاب عنه ما حوله، وكبر الوجه في وهمه حتى ملأ الفراغ الذي أمامه فثقل عليه وسمج، ودوى صدى صوتها في أذنيه فصار كطنين لا ينقطع، وثقل تنفسه ويبس حلقه .. ما هذا الذي تتكلم عنه؟! ما هذه الخيانة التي أطلق الهذيان عقدة كتمانها فانطلقت خبيثة منكرة أنكى من الحمى؟! هل يكذب الهذيان؟ كيف يكذب الهذيان؟! ولكن كيف يصدق أذنيه وما بذل زوج لزوجه عشر ما بذل من الرقة والمودة، وما بذلت زوجة لزوجها عشر ما كانت تبذله له من الصفاء والإخلاص؟ فكيف انطوى هذا على أقذر ما تبتلى به الضمائر والنفوس؟ رباه! .. إنها تقول إن الخيانة شيء قذر، وإنها لكذلك، ولكن لا يفزع في هذيانه من قذارتها إلا من انغمس في بؤرتها. رباه! .. لقد ظن أن ما ابتلي به من مرض زوجه أقسى ما ابتلي به إنسان، فإذا به بلاء هين عابر لا يقاس بما هتك الهذيان أستاره، وأحس اليأس يحبس أنفاسه. وكان صابر دمث الأخلاق لين الجانب رقيق الحاشية، لا يدفعه الغضب إلى الانفعال الشديد والعدوان، ولكنه يشل حركته ويعطف اندفاع أعصابه إلى صميم نفسه فيجعله كسيارة يدفعها محركها وتقيد الفرملة عجلاتها، ولكنه بالرغم من هذا، تحول رأسه حركة عصبية إلى سرير الطفلة، وبرح فراشه في سكون، ودنا من السرير وأزاح ستاره، وألقى نظرة غريبة على الوجه الصغير المدمج القسمات، وأدام إليه النظر، والشك والألم يأكلان قلبه بقسوة، ثم تحول عنه إلى وجه زوجه كأنه يسألها ويستوضحها، ودنا من فراشها كالسائر في نومه حتى التصق به. وكانت مغمضة العينين، بادية الاصفرار والخور، تقلب رأسها ذات اليمين وذات الشمال، فألقى عليها نظرة جامدة، جرى فيها بريق القسوة جريان البرق في السحاب الداكن، وكان قبل لحظات إذا وقف موقفه هذا اضطرب جسمه من الحنان والرحمة ودمعت عيناه، ولكن قلبه تحجر هذه المرة، فمال عليها حتى نسمت عليها أنفاسه، وسألها: «نعيمة .. نعيمة .. ماذا فعل راشد؟» فلم تنتبه إليه ولم تصح. فرفع صوته وناداها وهو لا يدري: «نعيمة»، فبلغ صوته مسمعي أمها في الحجرة القريبة. وقامت المرأة من فراشها مضطربة وهي تظن الظنون، وهرعت إليه متسائلة: ما لها؟ .. هل أعطيتها الدواء؟ ولم يكن أعطاها شيئا، وكان يريد استبقاء حالة الهذيان التي تعانيها ليستنطقها ما يريد. فكذب عليها قائلا في استهانة وقسوة: «نعم، وهي بخير والحمد لله.» وعاد إلى فراشه وأسند رأسه المثخن بالجراح إلى الوسادة ليتخلص من حماته. ولبثت حماته قليلا، وفي أثناء ذلك أخلدت المريضة إلى الهدوء والسكينة كأنما راحت في نوم عميق، فبرحت المرأة الغرفة وكان يتشوق إلى إيقاظها، ولكنه خشي التي في الخارج، قضى بقية الليل مفتوح العينين محموم الرأس بالأخيلة الشيطانية وعيناه زائغتان ما بين فراش المريضة ومهد الطفلة.

وحين سفور الصبح عاودت اليقظة المريضة، وبدا عليها أنها لا تحس شيئا حتى اهتدت عيناها إليه فدبت فيها حياة ضعيفة، وقالت بصوت غدا من وهنه كالصفير: «ما الذي أيقظك؟ لماذا ترهق نفسك هكذا؟» فرد عليها بنظرة جامدة، وكانت تبدو ذاك الصباح أشد هزالا وشحوبا ولاحت في عينيها نظرة الوداع المخيفة، وكان يشغل باله شيء واحد أسهده الليل، ولم يجهل أن إثارته خطر يهدد بالقضاء عليها، ولكنه لم يحس سواه ولم يبال غيره، وكان يشعر نحوها ما عندئذ بحنق وكراهية ورغبة في الانتقام؛ فقال بلهجة جافة: «تكلمت الليلة الماضية كثيرا، فشرقت وغربت، وأجرى الهذيان على لسانك كلاما يحتاج إلى إيضاح.» فلم تفهم شيئا ونظرت إليه بعينين لا تعبران عن شيء سوى الذهول المطلق، وأراد أن يسترسل ولكن منعه عن الاسترسال صراخ الطفلة فجأة، فما لبثت أن هرعت إلى الحجرة حماته والمرضعة فنكص على عقبيه مغضبا وهو يقول لنفسه: «الطفلة الملعونة تداري فضيحة أمها وأبيها!» وغادر البيت يهيم على وجهه ومضى يحدث نفسه: «كان ينبغي أن أعلم كل شيء وقد أتيحت لي فرص، لماذا أفر من صراخ الطفلة؟ أو من ظهور جدتها؟ الحقيقة أني ضعيف .. ضعيف .. دائما يندى قلبي بالحنان وبالعطف، فما كان أجدر بي أن أكون ممرضة .. أما رجلا فلا .. لست رجلا ولست زوجا .. فأمثالي نساء كاملات، أو رجال مغفلون .. ومع هذا هل أنا في حاجة إلى دليل جديد؟ دمرت حياتي وانتهى كل شيء.»

وقضى النهار ضالا لا يقر، يتردد الألم في صدره مع أنفاسه. وعاد مع الأصيل إلى البيت، فوجدها أسوأ حالا وأشد هزالا، وأقبلت عليه حماته تسأله أين كان وتقص عليه ما قاله الطبيب، فلم ينفذ من قولها إلى صدره، وعاف الرد عليها بتاتا، بل لذ له أن تقول إن الحالة سيئة. فلتتألم كما يتألم، ولكن كيف يفهمها أنه يعلم كل شيء؟ كيف يحادثها في هذا الموضوع الخطير وأمها لا ترضى بمفارقتها في مثل تلك الحال الخطيرة؟ .. واشتد به الحنق فاعتزم أن يمنع عنها الدواء ليعاودها الهذيان سريعا فيسمع منه ما امتنع منه سماعه في اليقظة؟ وملأ الفنجان ماء خالصا ووضعه على فم المريضة فازدرته بامتعاض .. وعاد إلى فراشه يرقب الفرصة، ولكن زوجه لم تنم في تلك الليلة ولم تهذ واشتد عليها الألم الموجع فباتت تئن وتشكو وتضطرب. واستدعى الطبيب عند منتصف الليل فعاينها ولكنه لم ينصح بشيء، وهمس في أذنه بأن الحالة جد خطيرة .. وبعد هذا التصريح بنصف ساعة احتضرت المريضة وفاضت روحها.

وخلا إلى نفسه وكان الذهول مطبقا على حواسه جميعا؛ لأن الموت والخيانة الزوجية انتظما تجاربه الشخصية معا في ساعة واحدة دون عهد سابق بهما. وماتت نعيمة ولم يحزن لموتها، ولكن حادثة الموت أذهلت نفسه الرقيقة المرهفة؛ على أن الحقيقة لم تغب عنه، فقال: «لم تمت كما يظنون .. أنا قتلتها .. قتلتها لأني منعت عنها الدواء ليلتين متواليتين هما أشد ليالي المرض .. فأنا قتلتها.» وجعل يردد: «أنا قتلتها.» فكان يشعر لها بوقع غريب في نفسه يمتزج فيه الخوف بالارتياح. ثم قال مرة أخرى: «وقتلتني هي حيا، وألصقت اسمي قسرا بطفلة إنسان سواي .. ولكني قاتل فلست إذن مغفلا.» وأسند رأسه إلى يده وراح في تأمل طويل، وقد سرت في جسده قشعريرة البرد والخوف.

كيف انقضت الأيام التي أعقبت الوفاة؟ .. انقضت في ألم وقلق ومخاوف لا يمكن أن تتمثل لعقل إنسان، ثم أعلن عن رغبته فجأة في السفر إلى لبنان انتجاعا للصحة والراحة، كان في الحق يفر من أفكاره وطفلته. ومضى إلى الإسكندرية واستقل السفينة، والظاهر أن نفسه الرقيقة تعرضت في البحر لأزمة عنيفة هدت كيانها وأتلفت أعصابه، فاستشعر اليأس من الدنيا جميعا .. وألقى بنفسه في اليم خلاصا من عذابه وآلامه، محتفظا بأسراره لقلبه ولبطون الأسماك.

وكان يترحم عليه المترحمون فيقولون: «ما رأينا إنسانا يحب زوجه كالمرحوم صابر، فلا هو صبر على فقدانها ولا احتمل الدنيا بعدها، فقضى على نفسه بعد موتها بأيام .. رحمهما الله!»

فتوة العطوف

عند هبوط المساء غادر المعلم «بيومي» الفوال نقطة بوليس الحسينية يحمل «إنذار التشرد»، يكاد يتصدع صدره من الغضب والغيظ. وكان يرغي ويزبد ويتمتم ويدمدم بأصوات كالخوار، خشنة مبهمة، ما زالت تعلو وتتميز كلما باعدت الخطا بينه وبين نقطة البوليس، حتى صارت في ميدان فاروق لعنا وسبابا وقذفا وصريخا مخيفا عنيفا. وجعل يهز قبضة يده الغليظة في الهواء مهددا متوعدا، ويدير في الفضاء عينين يتطاير منهما الشرر صيرهما الغضب كجمرتين ملتهبتين. فوقع بصره على «تاكسي» واقف بالميدان، فقصد إليه، ورآه السائق - وكان يعرفه - ففتح له الباب، فاندفع إلى الداخل وارتمى إلى جانبه. وأحس السائق بالثورة المضطرمة في صدر صاحبه، فسأله عما يقلقه، ووجد المعلم في السؤال متنفسا عن صدره فرمى إليه بالإنذار وهو يصيح غاضبا: «انظر كيف تعاملني الحكومة السنية!» وشبك يديه على صدره، وقال بلهجة تدل على السخرية والحنق: «ألا ترى أنه يحتم علي أن أجد عملا في ظرف عشرين يوما، أو يزج بي في السجن مرة أخرى؟ ما شاء الله!» واشتد اكفهرار وجهه، وأرسل من تحت حاجبيه الكثيفين نظرة شريرة، وكان صاحبه ساهما متفكرا يردد ناظريه بين وجه المعلم المكفهر والإنذار المبسوط بين يديه.

وكانت هيئة المعلم بيومي من الهيئات التي لا يمكن أن تقتحمها العين، أو تمر بها دون التفات إليها؛ لأن صورته كانت حافلة بآي القوة والجسارة. نعم كان مظهره الرث وملابسه البالية القذرة تنطق بما هو عليه من فقر وبؤس، ولكن هيكله الصلب وصدره العريض وعضلاته المفتولة دلت على القوة والبأس، ونظرة عينيه وإيماءاته توحي بالكبرياء والعنف، وتلك الندوب تكتنف وجهه وجبينه، وآثار من طعن سكين في صفحة عنقه تثبت أنه خاض معارك عنيفة شديدة الهول؛ ولذلك أحاط به في غضبه صمت رهيب ألزم ألسنة الأقربين من سائقي «التاكسي» الجمود الثقيل. وقد التفت إلى صاحبه وقال في غيظ وحنق: «أنا .. أنا بيومي الفوال. تتنكر لي الدنيا إلى هذا الحد؟!» وكبر عليه الأمر فجعل يضرب كفا بكف ولسانه لا يكف عن القذف والتهديد، وأكثر من القذف والتهديد. وقليلا ما كان يحرك لسانه ساعة الغضب فيما مضى من زمانه. فكان إذا غضب انطوى على الغضب حتى ينزل عقابه الصارم بعدوه، ولكن لم يبق له من ماضيه ذاك إلا ذكريات تطوف بين الحين والحين برأسه المثقل فتنشر في ظلماته ضياء منيرا مقتبسا من عز الماضي ومجده وسلطانه.

كانت نشأة المعلم بيومي في العطوف. وقد شهد صباه الأول على جسارته الطبيعية، فكان من خيرة صبيان الأعور «فتوة» العطوف الذي أرهب السكان وأعجز رجال الأمن. يجلس بين يديه يستمع إلى قصص مغامراته، ويشهد مشاجراته ويخرج في مؤخرة عصابته إذا نفرت لقتال عصابات الدراسة أو الحسينية عند سفح المقطم، يحمل في حجره «الزلط» و«قطع الزجاج» يمد بها المتعاركين من قومه، ويلاحظ فنون قتالهم عن كثب، ويمتلئ حماسة للقتال وأعمال الجرأة. فما شارف الثامنة عشرة حتى اشتد ساعده وانفتلت عضلاته، ومهر مهارة عجيبة في الضرب ب «الروسية» والعصا والسكين والكرسي؛ واشترك في معارك فردية وجماعية، فأبلى فيها أحسن البلاء .. وذاع أمره كمتعارك شديد المراس، يقدم على مقاتلة عشرات الرجال بقلب لا يهاب الموت، ويدمر مقهى كاملا إذا حدثت النادل نفسه بمطالبته بثمن مشروب. وأكبر الأعور فيه هذه الصفات، فاصطفاه وآخاه وجعله ساعده الأيمن، وقاسمه الغنائم والأسلاب. ومات الأعور فخلفه على أريكة «الفتونة» دون شريك. وأبى طموحه عليه الهدوء والراحة، فتحدى فتوة الحسينية وظهر عليه، وقاتل فتوة الدراسة فهزمه، وخرج بمجموعه إلى الوايلية فأذل كبيرها ومزق جموعه شر ممزق، ودوى اسمه في تلك الأحياء دوي نذير الغارات، واستكانت له نفوس الفتوات، وأفاد من سلطانه فائدة رمقتها عيون الحسد جيلا طويلا، فجعل مركزه قهوة غزال بالخرنفش حيث يجتمع بأنصاره وصبيانه. وفرض الإتاوة على كبار الأغنياء والتجار والقهوجية وشركة سوارس يؤدونها إليه صاغرين، ومن يتردد عن دفع ما يطلب منه عرض نفسه وما يملك للهلاك المبين. هذا غير ما كان يؤجر له من أعمال الانتقام والتهديد وحماية بعض النسوة من أهل الهوى. وتنافس كثيرون في التودد إليه بإهدائه الهدايا الثمينة، فكان يتقبلها تقبل الزاهد فيها وهو من غير الشاكرين. وعاش المعلم بيومي في ظل سلطانه عيشة راضية في بلهنية ونعيم، يلبس الجلباب الحرير والعباءة من وبر الجمل، ويتلفع بالشال الكشمير الفاخر، ويركب الدواكر تجره الجياد المطهمة .. ثم عشق «عالمة»، فتزوج منها، وكان فرحه فرح أهل الجمالية والعطوف والدراسة جميعا، وانتظمت «زفتة» الفتوات من جميع الأحياء وعددا عديدا من أصحاب «السوابق» وحاملي الإنذارات والمترددين على السجون .. وأحيا ليالي العرس الشيخ ندا وعبد اللطيف البنا وبمبة كشر. ثم ما زال يعلو يوما بعد يوم حتى تسنم ذروة المجد في الانتخابات الأولى عام 1924. فقد أقر بنفوذه كثير من رجالات السياسة في مصر وسعوا إليه يرجون نصرته لهم، ويساومون على شراء أصوات أنصاره وأتباعه، وشهدت قهوة غزال محضر باشوات وبيكوات يجلسون إلى المعلم بيومي الفوال متوددين متحادثين. وكان المعلم يصغي لهم ويستولي على نقودهم، ولكنه في يوم الانتخابات ذهب، وصحبه إلى أقسام البوليس يعطون أصواتهم لمرشحي سعد زغلول.

ومنذ ذاك العهد وهو يسمي أولئك الباشوات والبيكوات ب «الكروديات» على أنه كان يباهي باتصالاته بهم في أحايين كثيرة، فيقول في أثناء حديثه: «وقال لي الباشا كيت وكيت.» وقلت للباشا كيت وكيت.

تلك أيام خلت .. وخلفت وراءها دهرا قاسيا شديد الظلمات، فما يدري أولئك الفتوات إلا والبوليس يضيق بهم ذرعا ويشمر للقضاء على أعمالهم. وكان من سياسته أن قذف الحسينية بضابط شاب لم تشهد الداخلية له من قبل نظيرا، سواء في قوته أم في شجاعته وشدة عناده. وكان يعلم أن هدفه الأول هو المعلم بيومي الفوال، فلم يجد عنه، ولم ينتظر الأدلة القانونية لأنه كان يعلم أن أحدا من الناس لن تواتيه شجاعته على الشهادة ضده. فهاجمه بجنوده بغتة، وقاده إلى النقطة وأمر الجنود بضربه ضربا مبرحا. وأصيب المعلم بذهول شديد لذاك العدوان الجريء. فما كان من الضابط إلا أن أعاد الكرة مرة ومرتين حتى كسر شوكته. ثم جعل يسوقه أمامه محاطا بجموع الجند الشاكي السلاح يصفعونه في كل منعطف طريق، ويركلونه أمام كل قهوة، وينزلون بمن يظهر لهم من فتيانه أشد العقاب، فأفاق الناس من غشيتهم، وانحلت عقدة الذعر الممسكة بألسنتهم، فهرعوا إلى رجل الأمن يشكون ويستعدون، ووجد الرجل الدليل الذي يطلبه وزج بالمعلم في غيابات السجون يذوق أشد الأهوال والآلام. وهكذا أخذ المعلم بالإرهاب الذي أخذ به الناس جميعا. وقضى في السجن بضع سنين. ولما فارقه لم يجد أحدا من الفتوات في استقباله يهنئه ويقول له: «السجن للجدعان»؛ فقد لاذ كل منهم بسبيله؛ منهم من سجن، ومنهم من هجر الحسينية، ومنهم من راض نفسه على العمل كما يعمل الناس جميعا سعيا وراء الرزق. فألفى المعلم عالمه مهجورا كئيبا، ومجده ذكرى أليمة لا يترحم عليها إنسان، حتى زوجه ضاقت بفقره وتسوله، فهجرته وعادت إلى بنات فنها في شارع محمد علي. وطحنت الآلام تلك النفس الجبارة العاتية، وترنح صاحبها تحت أثقال الهموم لا يستطيع أن يجأر بصوت الشكوى خشية عيون البوليس المحدقة به من كل جانب، وظل على حزنه وألمه حتى تلقى إنذار التشرد الذي يخيره بين العمل أو السجن.

طافت برأسه - في ساعة بؤسه تلك - صور من أيام مجده تراءت راقصة أمام ناظريه خلال أغشية الحزن والألم. وكان صاحبه السائق في تلك الأثناء يراقبه بطرف خفي وأصابعه تعبث بالإنذار الذي أحدث كل ذاك الغضب. وكان يدير أمرا هاما في عقله. فلما قلبه على أوجهه المحتملة التفت إلى المعلم وسأله: ماذا تقول يا معلم لو عرض عليك عمل يدفع عنك غائلة البوليس؟

وحدجه المعلم بنظرة غريبة دون أن يفوه بكلمة، وتشجع السائق بصمته، فاستدرك قائلا: سبق أن علمتك قيادة السيارة، وهي صنعة في اليد تعمر بيوتا، وما من شك في أنك خبير بالطرق والمواصلات، وأستطيع أن أدلك على عمل في «الجراج» الذي أعمل فيه على شرط أن تتنازل وترضى .. فما رأيك يا معلم ؟

ولم يسارع المعلم إلى الفرح كما ينبغي لأي رجل في مكانه؛ لأن العمل كان التجربة الوحيدة التي لم يعرفها، وهو لم يكن شيئا عظيما قط في نظر الفتوات المحترفين، فتوجس منه خيفة، ولكنه لم يكن في حالة يستطيع معها رفض ما يعرض عليه ما دام العمل هو المنقذ الوحيد له من السجن. فقال لصاحبه بلهجة لم تخل من الامتعاض: وهل من الممكن أن ألحق بهذا العمل قبل مضي العشرين يوما؟ - بغير شك ولا ينقصك إلا شيء واحد.

فتساءل المعلم قائلا: وما هو؟ - بذلة يا معلم، لأنه لا يمكن أن تكون «شوفيرا» بغير بذلة. اشتر بذلة أو أجرها أو استعرها كيفما اتفق. ولكن لا بد من بذلة.

ومال إلى التفكير في الأمر تفكيرا جديا، ووجد نفسه يحاول حل مسألة العثور على بذلة. ولكنه لم يدر له بخلد أن يجد ضالته عند صاحبه السائق أو عند أحد من أقرانه؛ لأنه كان يعلم أنهم لا يملكون سوى البذلة التي يلبسونها، على أنه لم ييأس لذلك من العثور على بذلة، فعليه بالأفندية الذين كانوا إلى عهد قريب يتقون أذاه ويرجون خيره، فلا يمكن أن يضنوا عليه ببذلة قديمة ناءت الأقدار باقتنائها قوام حياته. واعترض على أولئك الأفندية سبلهم وطرق أبوابهم، ورجاهم بلهجة غير التي ألفوا أن يسمعوها منه أن يتنازلوا له عن بذلة قديمة، ولكنهم ردوا عليه بأوجه من الأعذار لا تنفد؛ فقال فريق إنهم لا يملكون سوى بذلة واحدة غير التي يلبسونها، واعتذر فريق آخر بسوء الحال وكثرة العيال ووطأة الأزمة. وقال واحد بقحة إن خادمه أحق ببذلته القديمة. وعجب المعلم لأولئك اللؤماء، واهتاجه الغضب اهتياجا شديدا وقال لنفسه بإصرار وعناد: «ما دامت البذلة تنقذني من السجن فسأحصل عليها مهما كلفني ذلك من العناد.» وكان يتخبط في الطريق على غير هدى حين وجد نفسه اتفاقا أمام دكان كواء عند مبتدأ شارع السبيل، فألقى عليها نظرة سريعة لصقت بالبذلة المعلقة، فتراخت ساقاه عن المشي، وأسند ظهره إلى شجرة قريبة، ومضى يتفرس في البدل المتراصة تفرس الجائع المنهوم في فرن الحاتي المليء بالشواء من اللحوم، ثم عاين المكان فرأى الدكان قاتما إلى جانب جراج تحدهما من الخلف صحراء العيون. ودارت برأسه خواطر محمومة عنيفة وعزم عزما أكيدا.

وأصبح الصباح وجاء الكواء يفتح دكانه فما راعه إلا أن رأى في ظهرها ثغرة، فانخلع قلبه وهرع إلى ثياب زبائنه، ووجدها كاملة عدا بذلة واحدة .. فكانت دهشته قدر انزعاجه!

وصار المعلم بيومي سائق تاكسي، ولم يعد لضابط نقطة الحسينية من سلطان عليه، ولأمر ما اختار الجيزة ميدانا لعمله فارا بالبذلة التي لم تهده الحيلة إلى صبغها أو قلبها كما كان ينبغي أن يفعل اللص الماهر. وما كان يصبر على نظام العمل لولا أن السجن كان عوده على ما هو أشد إيلاما ومقتا، فرضي كارها أن يلبي النداء ويحمل الراكبين، ويبدي احترامه لمن كان بالأمس ينظر إليهم شزرا، ويدعوهم ب «الكرديات».

ولم تخل حياته في ذاك المهجر من حوادث؛ ففي ذات أصيل، وكان مضى عليه ما يقارب الشهر في عمله. وكان ينتظر في موقفه، برز رجل وجيه من باب الفانتزيو، وناداه ولبى المعلم مسرعا، وترك مقعده ليفتح الباب للسيد الوجيه. ومضت دقيقة وهو ينتظر والرجل لا يتحرك، فعجب المعلم للأمر، ونظر إلى الرجل فرآه ينظر إليه بإنكار، بل رآه ينعم النظر في بذلته. وخفق قلب المعلم واضطرب وأحس كمن وقع في فخ، وهم بالتحرك، ولكن الرجل دنا منه وأمسك بالياقة بسرعة وثناها ليقرأ اسم الطرازي ثم قبض على ذراع المعلم وصاح به بغضب: قف يا لص .. من أين لك هذه البذلة؟

ونادى الشرطي بصوت عال، فحدجه المعلم بنظرة نارية، وكان يستطيع بغير شك أن يبطش به لو أراد، ولكنه استشعر بأسا غريبا خرج به عن وعيه فما يدري إلا والشرطي يقبض عليه .. والظاهر أن الحظ الذي حالفه قديما تخلى عنه إلى الأبد، وإنه ليعاني الآن آلام السجن، والله وحده يعلم ما هو صانع به بعد ذلك.

حلم ساعة

من عجيب الأمور أننا قد نحيا حياة سعيدة نخالها طويلة في حلم قصير الأجل. وما تعتم أن تطرق اليقظة مغلق الأجفان، فينتقل النائم من عالم الأحلام المخدرة إلى دنيا حقائق شديدة الجفاء، وما يجد يده قابضة إلا على هواء. على هذا المثال مضى ذلك اليوم من حياته. كان يوما أو بعض يوم، ولكن قلبه ذاق فيه سعادة وغبطة، وحلق في آفاق بعيدة من أحلام المنى، وخفق خفقة فرح سماوي جاز به عالم الزمان والمكان. ثم أدركته يقظة منكرة اغتصبته من عالمه الحنون السعيد، على نحو بالغ في القسوة والوحشية.

كيف كان ذلك؟!

كان اليوم السعيد يوم الخميس، وكان الأستاذ «بهاء الدين علما» عائدا من سماع محاضرة علمية في الجمعية الجغرافية الملكية عن الغدد الصماء، وكان يسير في ميدان الإسماعيلية متفكرا في تلك الأدوات الإنسانية العجيبة المسيطرة على الفرد أيما تسيطر، وكيف يزعم العلماء أنهم بالتحكم في إفرازاتها يستطيعون أن يحولوا الطيب إلى شرير، والشرير إلى طيب، والشاعر إلى رياضي، والرياضي إلى شاعر. وكيف يفسرون أخيلة جيته وأحلام شيلي بعصاراتها المتدفقة في الدم؟ .. وكان رأسه لا يكاد يخلو من أمثال هذه الأفكار، فهي مادة عمله ومادة حياته معا. وفي الواقع يندر أن تجد بين الشباب المعيدين بكلية العلوم من يناظر الأستاذ بهاء الدين في حبه العلم وحرصه على تحصيله.

وكأنما أرهقه القعود والسكون - في أثناء إلقاء المحاضرة - فأحس بارتياح إلى المشي واعتزم السير على قدميه إلى شارع فؤاد الأول، واتجه إلى شارع قصر النيل في خطى وئيدة، يدخن لفافة من التبغ ويجتر أفكاره وتأملاته في لذة ويسر، وصادف بلوغه مدخل المكتبة الفرنسية بروز فتاة منها تندفع فيما يشبه العدو، فتوقف بحذر ووجل، وتراجع خطوة على عجل، وتوقفت مثله وتراجعت، والتفت نحوها فرآها ترمقه بنظرة ارتباك واعتذار ثم مضت في سبيلها، حتى إذا ما حاذته عطفت رأسها إليه بغتة، وقد بدا على وجهها التساؤل والحيرة وكأنها تحاول تذكره ولا تدري كيف، ثم أدركت ما في نظرها إليه هكذا من الغرابة، فأدارت رأسها عنه وما روت غلة، وقصدت إلى سيارة تنتظر إلى جانب الطريق ، فأدرك من أول وهلة أن صورته اشتبهت عليها وعلت لذلك فمه ابتسامة، وأراد أن يستوثق من رأيه فألقى بنظرة إلى السيارة - وكان جاوزها بأمتار - فرآها تتابعه بنظرتها تعلو وجهها آي الحيرة والغرابة، فغمرته موجة انفعال مضطرب لذيذ، وتعثر بأذيال الارتباك والحيرة. ثم تحركت السيارة مندفعة في الاتجاه الذي يسير فيه وما تزال صاحبتها ترنو إليه خلال زجاج النافذة بنظرة تحير بماذا يصفها .. ودية حنون؟ .. حتى باعدت بينهما المسافة .. وعجب الأستاذ أيما عجب، على أن عجبه كان شيئا يسيرا إلى ما أحس به ساعتئذ من ثورة الوجدان، وكانت الفتاة شابة حسناء مدمجة الخلق، مرتوية الساقين، فاتنة القسمات، يزين وجهها عينان زرقاوان، لنظرتهما وقع السحر في الحواس والقلب والأعصاب، فانبعث في قلبه خفقان واضطراب، وشعر بنشوة رائعة، ثم لسعته حسرة أليمة، حسرة محروم طال عهده بالحرمان. وكانت حياته في الواقع خالية من الحب مثل كهف رطب لا تزوره الشمس؛ لأن تفانيه في طلب العلم لم يدع له وقتا لشيء سواه، ولعيبين طبيعيين كبرا في وهمه واشتدا على نفسه؛ إذ كان يترامى إلى أذنيه أنه ثقيل الظل، وكان إلى هذا عيب حصور لا يكاد يبين، فلم يكن في وسعه قط أن يحسن خطاب فتاة فضلا عن أن يغازلها. ودعاه هذا وذاك إلى النفور من الحسان وإلى ما يشبه الخوف منهن. وحز لذلك الألم في نفسه، وسكب في قلبه امتعاضا ومرارة، فتبدى عليه الجفاء والوحشة، واضطرب عهدا طويلا يائسا بين الرغبة في الحب والخوف من المرأة، والتشوف إلى النساء والحقد عليهن، فكانت تلك النظرة الحلوة أول نسمة تهب عليه من دنيا الوجدان فترتوي بها نفسه الظمآنة ويندى بها قلبه الجاف. ولكنه ارتواء كالظمأ وندى أشد حرقة من الجفاف، فتحير وتعجل وتساءل وهو يقلب كفيه .. ترى ما خطب هذه الفتاة؟ .. وما معنى هذه النظرة الفاتنة التي أذابت الوجد والهيام والحنو، المتجمدة في قرارة نفسه؟ .. إنه لا يعرفها على وجه اليقين، ولا يذكر أنه رآها من قبل، وهي بغير ريب لا تعرفه أيضا؛ فلا هي قريبة ولا جارة ولا طالبة بكلية العلوم، ولعله التبس عليها شبهه، ولكن كيف طال بها الشك تلك المدة السعيدة التي أدامت فيها النظر إليه؟! .. ومضى يتفكر تنقله الحيرة من فرض إلى فرض، وقد انشغل عن الغدد والكيمياء جميعا، وكان في عزمه أول الأمر أن يعود إلى بيته فيستمع إلى المذياع ساعة ويطالع ساعة قبل النوم، ولكن عافت نفسه ذلك ومضى يضرب في الأرض على غير هدى تاركا محرك خياله للخواطر السعيدة والأحلام اللذيذة والأوهام المخدرة، حتى أعياه التعب وتعناه المشي. وكان سري عنه بعض الشيء، وأخذ يفيق من أثر النظرة، فاتجه إلى قهوة روجينا، وجالس بعض صحبه حتى شارفت الساعة التاسعة، ثم خطر له أن يقضي سهرة المساء في سينما رويال، وكان قليلا ما يجذبه مزاجه إلى ذلك. فسار بلا تردد إلى السينما، وابتاع التذكرة، وكان يكره الانتظار جالسا، فدلف إلى الصور المعلقة بالردهة الخارجية، وقلب فيها عينيه، ثم أولاها ظهره ملالا، وأرسل بناظريه إلى مدخل السينما يشاهد جمهور الداخلين، فرأى سيارة فخمة تقف أمام مدخل السينما، وفتح بابها ونزلت منها سيدة بدينة بادية النعمة والثراء، تبعتها على الأثر فتاة حسناء انخلع لرؤيتها قلبه في صدره وأحس بفرح عجيب تمازحه دهشة، فلم تتحول عنها عيناه. وفاته في ذهوله أن يرى ضابط بوليس شابا يبرز من الباب الثاني للسيارة، ويدور حولها بسرعة ويلحق بالسيدة والفتاة. وانعطف رأس الفتاة إليه - وكانت فتاته دون سواها - كأنما جذبتها قوة بصره المشوق فالتقت عيناهما، ولاح على محياها الجميل الاهتمام والدهشة، ورقت نظرتها بالحنان الذي حيره وفتنه منذ حين، فتبعها في خطى مضطربة ملبيا نداء قوة عاتية. وصعدت الفتاة مع الصاعدين إلى الطابق الثاني فوقف في الردهة يتابعها بعينيه، ورآها قبل أن يغيبها عن ناظريه منعطف السلم تلقي عليه نظرة أخرى .. يا لها من نظرة! .. فاستخفه طرب جنوني عذب لا يتأتى لغير الموسيقى وصفه. واندفع إلى الداخل لا يلوي على شيء، فلما اطمأن به مقعده مضى يصعد نظره في «الألواج والبناوير» باحثا عن الوجه الحبيب ذي النظرة الفاتنة الحنون حتى وجد ضالته في «البنوار» رقم 3، وكانت تتقدم السيدة بقامتها الهيفاء، والتقت نظرتها بوجهه هذه المرة نحو السيدة البدينة، التي تدل الظواهر على أنها أمها، ورآها تهمس في أذنها، ثم شاهد السيدة تنظر إلى أسفل باحثة بعينيها حتى استقرتا عليه .. فارتبك وتعجب وتساءل: ترى لماذا تدل أمها عليه؟ .. على أن عجبه ازداد إلى غير حد؛ لأنه رآها تعطف رأسها إلى الوراء وتحادث شخصا لا يرى سوى أعلى طربوشه، ومال هذا الشخص إلى الأمام ونظر صوبه وكان ضابط البوليس، فلم يستطع أن يديم النظر إلى أعلى، وأدار رأسه إلى الأمام، ولكنه تذكر هذا الضابط، وذكر أنه كان من زملاء فرقته في الخديوية، وأنه كان يدعى علي سالم، وأنه كان مبرزا في الألعاب الرياضية، وظن أنه أخو الفتاة، ولكنه تحير في فهم الدواعي التي بعثتها إلى توجيه الانتباه إليه بكل جسارة، وفيما عسى أن تكون حدثتهما به عنه .. وغلبه الشوق وحب الاستطلاع، فرفع بصره إلى «البنوار» مرة أخرى، فرأى الوجوه الثلاثة محدقة فيه. وخيل إليه أن زميله القديم يحييه، فلم يصدق بصره وظل جامدا لا يتحرك، فأعاد الضابط تحيته برفع يده إلى رأسه، ورد عليه الأستاذ التحية مرتبكا، وشاهده يدعوه أن يصعد إليه، فخفق قلبه خفقة عنيفة وقام واقفا وقد لفته الدهشة والارتباك، وغادر المكان في ذهول شديد، وصعد السلم والتقى بصاحبه عند مدخل «البنوار»، واستقبله هذا استقبالا وديا، وشد على يده بحرارة - ولعله فعل ذلك ليطرد عنه الدهشة والارتباك - ثم أوسع له وهو يقول هامسا: «تعال أقدمك إلى أهلي.» ووجد نفسه في البنوار أمام السيدة والفتاة الجميلة، وقال الضابط يقدمها له وهو يشير بيده: «حرم الأميرالاي محمد جبر بك. الآنسة زينب كريمتها وخطيبتي.»

ثم التفت إليه وقدمه لهما مكتفيا بذكر اسمه وزمالته القديمة؛ لأنه يجهل حاضره .. ودوت كلمة «خطيبتي» في أذنيه دويا مزعجا أطفأ نشوة الفرح في حواسه جميعا، وسكب مكانها خيبة مرة، فجلس كما طلب إليه ذاهلا مرتبكا قانطا عاجزا العجز كله عن حصر انتباهه فيما حوله، وكانت السيدة ترحب به وتشارك الضابط في التودد إليه ومجاملته ولكنه لم يدر مما قالا شيئا، واكتفى بانتزاع ابتسامة مغتصبة من شفتيه يرد بها عليهم ردا صامتا كئيبا. وكان يتخبط في حيرة.

Bilinmeyen sayfa