قتلوا كليبا ثم قالوا ارتعوا
كذبوا لقد منعوا الجياد رتوعا
قال: ليس علينا في ذلك عاقبة ولا تبعة لأنه قدم بلادنا في زي جاسوس؛ فقد كان يجب ... ثم أمسك عن الكلام إذ علم فظاعة الجملة، فقال له الكردينال: قد يجب ماذا؟ قال: لا شيء، فهل راقبت اللورد أيام كان في باريز؟ قال: نعم، وقد كان ساكنا في شارع لاهارب عدد 75، وما أظن أنه جرت بينه وبين الملكة محادثة. قال: إن لم تكن فمكاتبة، وهي التي شغلت الملكة سحابة يومها، فلا بد لي من أن أرى رسائلها طوعا أو كرها، وإلا فأنت ذو يد في الأمر علي. قال: لقد كنت أظن نفسي يا مولاي في معزل عن مثل هذه التهمة لما أني موضع ثقتك ومؤتمن سرك، أما مرامك فلا ينال إلا بطريقة. قال: وما هي؟ قال: أن تنيط هذا الأمر بحارس سيكوسيه، فإن ذلك من أعماله. قال: نعم، علي به. قال: لكن أخشى أن لا تطيعه الملكة لجهلها أنه آت بأمرك. قال: اذهب أنت إليه وأنا أدخل على الملكة. ثم دخل، فوجدها قاعدة حزينة بين نسائها، فوقفن له جميعا، فتقدم إليها وقال: يأتيك بعد قليل وزيري ريشيليه فيجري ما أمرته به. فارتاعت الملكة لذلك لأنها كانت تتوقع النفي والقتل، فقالت: وما هذه الزيارة يا مولاي؟ وهل من شيء يقوله الكردينال وأنت معقول عنه؟ فخرج الملك لا يرد عليها، ثم دخل الحارس فاستأذن للكردينال، ثم دخل الكردينال وهو يتلون كتلون الحرباء، وكانت الملكة لم تزل واقفة، فلما رأته داخلا جلست وأشارت إلى نسائها بالجلوس، ثم قالت له: ماذا تريد؟ وما أتى بك إلى هنا؟ قال: أتيت بأمر الملك لأبحث في أوراقك، ولا يسوءك ذلك مني فإني مأمور. قالت: إن ذلك لا يكون أبدا، فهي إهانة لي. قال: ألم يخبرك الملك قبل أن يخرج؟ قالت: فأعطه يا أصطفانة مفاتيح خزائني، فأخذها وجعل يبحث في الأوراق ساعة فلم يجد شيئا، فتقدم إليها وقال: بقي علي أمر وهو الأهم. قالت: وما ذاك؟ قال: تأذنين بتفتيش ثيابك، فقد بلغ الملك أنك كتبت رسالة ولم ترسليها بعد، ولعلها معك. قالت: أجرأة على الدنو مني يا كردينال؟ قال: العفو يا سيدتي، فما أنا إلا خادم مطيع ورسول أمين أصدع بما أؤمر، وقد أمرني الملك بتفتيش ثيابك ولا يكبر عليك ذلك فإنه أمر لا بد منه. فأجفلت الملكة مرتاعة ثم مدت يدها إلى صدرها فأخرجت رسالة وسلمته إياها وقالت: خذها واخرج وأرحني من مرآك. فأخذها الكردينال وخرج، وسقطت الملكة بين نسائها وشيكة الإغماء، وذهب الكردينال بالرسالة فبعثها إلى الملك فقرأها فوجدها موجهة إلى أخي الملكة في إسبانيا تستحثه على حرب فرنسا، وأن يجعل من شروط الصلح بعثة الكردينال منها، ولم يجد فيها أثرا للعشق. فدعا الملك بالكردينال فدخل، فقال له: صدقت أنت وأخطأت أنا، فليس للعشق فيها أثر. فأخذ الكردينال الرسالة فقرأها ثم عاد عليها وقال: أجد أنها تغري أخاها بطلبي إليه، وأنا أشير عليك بذلك أيها الملك فإني قد سئمت من حصار روشل وبرح بي همه، فلو رأى الملك أن يولي مكاني أحد رجال الحرب ممن يصلحون للحصار، فما أنا إلا رجل راهب. قال: عرفت من تريد، فلا بد لي من معاقبة كل من هو مذكور في هذه الرسالة حتى الملكة نفسها. قال: حاشا يا مولاي أن أكون سبيلا لإيصال الأذى إلى الملكة في أمر لا يشينك، ولو كان فيه شيء من الشين لكنت أول مساعد في عقابها، ولكنها أمور لا دخل للعشق فيها، فلا سبيل للقصاص عليها. قال: صدقت، فقد أغلظت لها في هذا الشأن وهو دأبي مع أعدائك وأعدائي يا كردينال. قال: إنها عدوتي ولكنها حليلتك يا مولاي وأحب الناس إليك كما أنك أحب الناس إليها، فأذن لي أن أتوسط في الصلح بينكما. قال: ذلك لا يكون إلا إذا بدأت هي به وأتت إلي. قال: لا يا مولاي، فأنت البادئ بالتهمة فعليك أن تترضاها. قال: ويحك، وأين تذهب عزة الملك؟ قال: أنا ألتمس ذلك منك يا مولاي فلا تخيب طلبي. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قال: إن الملكة تميل إلى الرقص، فلو أعددت لها ليلة راقصة، ولو كنت قليل الرغبة في مثل ذلك، فإنه مما يزيد في إعزازك عندها ويكون لها فرصة لأن تتحلى بالعقد الماس الذي هاديتها به. قال: سنرى في ذلك. وكانت الساعة الحادية عشرة قد حانت فودع الكردينال وخرج.
وكانت الملكة فيما بين ذلك مفكرة مهمومة، وإذا بالملك قد دخل عليها وأعلمها بأن سيحيي لها ليلة راقصة، فعجبت لذلك أشد العجب وعلمت أن في الأمر حيلة من الكردينال، فسألت الملك: متى تكون الليلة؟ فأجابها أنه سيكلم الكردينال في تحديدها. ولم يمض على ذلك ثمانية أيام حتى ورد على الكردينال رسالة من لندرة فيها:
لقد حصلت عليهما، ولكني لا أقدر أن أسافر لقلة المال في يدي، فأرسل لي خمسمائة دينار، وبعد وصولها لي بخمسة أيام أكون في باريز.
وفي ذلك اليوم سأله الملك: متى تكون ليلة الرقص؟ فحسب الكردينال أيام ذهاب المال إليها وأيام مجيئها إلى باريز فوجد أنه لا بد لذلك من عشرة أيام، فقال: نجعلها بعد اثني عشر يوما، ولكن على شرط أن تتحلى الملكة بالعقد الماس.
الفصل الرابع عشر
في تداخل كونستانس بوناسيه
فأوجس الملك في نفسه أمرا من نحو الملكة إذ سمع الكردينال يشدد عليه بأن تلبس الملكة العقد، وقال: إن في الأمر شيئا ستكشفه لنا الأيام. ثم ذهب إلى الملكة فعرض عليها الأمر فلم تجب وأخذت في البكاء، فشدد عليها، فقالت: لماذا تكتمني أمرك يا مولاي؟ فماذا صنعت؟ وأي جرم اجترحت؟ وما أرى غضبك هذا ناتجا عن رسالة كتبتها إلى أخي، فقال لها: إنها ستكون ليلة راقصة بعد قليل، وأنا أحب أن تحتفلي لها وتلبسي العقد الماس الذي أهديتك إياه يوم العيد، أتسمعين ما أقول؟ فارتعدت فرائص الملكة وظنت أن للملك إلماما بأمرها، فاصفر وجهها اصفرارا شديدا وقالت: نعم. قال: أتحضرين الرقص؟ قالت: نعم. قال: وأنت لابسة العقد؟ فزاد اصفرارها واشتد رعبها وقالت: نعم. ومتى يكون ذلك؟ قال: لا أعلم، وسأسأل الكردينال. قالت: أظن أن الكردينال هو الآمر بذلك؟ قال: نعم، وما عليك كان هو أو أنا؟ أتستائين لذلك؟ قالت: لا. قال: فافعلي ما قلت. وخرج، فوقعت الملكة على ركبتيها تبكي وتقول: واكرباه، هلكت والله. وإذا بصوت من ورائها يقول: ألا أقدر أن أفيدك في بعض الشيء يا سيدتي؟ فالتفتت الملكة مذعورة فوجدت في ملتقى البابين امرأة صاحب الفندق بوناسيه، وكانت قد سمعت ما دار بينها وبين الملك، فعقبت المرأة قائلة: لا تخافي أيتها الملكة، فأنا أسعى في سبيل خلاصك، فقالت الملكة: وهل أقدر أن أسترسل إليك؟ قالت: نعم، والله على ما أقول شهيد، ولا بد من أن أرد إليك ذلك العقد. قالت: ومن لي به ودونه خرط القتاد. قالت: نبعث رسولا إلى اللورد. قالت: وإلى من أسلم سري؟ قالت: أنا أسعى لك في رجل يذهب في هذه البعثة. قالت: أرى أن ذلك لا يكون إلا برسالة مني. قالت: ذلك لا بد منه، ولا يزيد عن سطرين توقعين عليهما بخاتمك . قالت: هو ذلك، ولكن ألا تدرين أن هذين السطرين تتوقف عليهما حياتي وشرفي؟ قالت: ذلك إذا رآهما أعداؤك اللئام، وأنا زعيمة لك بإيصال كتابك إلى صاحبه، وثقي بقولي فإن حياتي مبذولة دون وصول أدنى أذى إليك. قالت: ومن عساه يكون الرسول؟ قالت: زوجي، وقد خرج من السجن قريبا ولم أره بعد، وهو رجل بسيط القلب يمضي فيما أرسمه له ولا يعلم ما يحمله. قالت: بارك الله فيك يا بنية، فإنك بذلك تخلصين عرضي من العار وحياتي من الموت. قالت: ليس لي في ذلك فضل خلاص، وإنما هو فضل جزاء للظالمين، فأسرعي في الرسالة. فقامت الملكة مسرعة فكتبت الكتاب وختمته وأعطته للامرأة وقالت: ينقصنا الآن شيء واحد وهو المال؟ قالت: صدقت، فإن زوجي رجل فقير، ولكن ننظر في ذلك. قالت: مكانك فقد فتح علي أمر، ثم قامت إلى خزائنها فأخرجت خاتما ثمينا وقالت: خذي هذا الخاتم فهو ملكي لا يعارضني فيه أحد، بعثه لي أخي ملك إسبانيا، فبيعيه ويسافر زوجك بثمنه، ولا تنسي أن العنوان: «الدوق بيكنهام في لوندرة.» فقبلت الامرأة يد الملكة وخرجت إلى البيت فوجدت زوجها وحده قائما في انتظارها، فجالت وساوسها في تسليمه السر وترددت، ثم خطر لها أنه بخيل يحب المال فطمعته فيه وقالت له: إن لدي أمرا مهما أريد أن أبثك إياه. قال: وما ذاك، وعساه أن لا يفضي إلى عودتي إلى السجن حيث كنت؟ قال: لا، بل هو أمر نثري منه ثروة عظيمة ويكون لك من ورائه ما يبلغ الألف دينار. قال: نعم، فما ذاك؟ قالت: تذهب إلى لندرة في رسالة تؤديها إلى أحد رجالها. قال: إنني لا شأن لي في لندرة، فما يذهب بي إليها. قالت: إن لغيرك فيها شأنا. قال: إذن لا أذهب أو تخبريني باسم المرسل والمرسل إليه، فإني لم أعد ممن يخبطون في أمورهم خبط عشواء بعد إذ أوصاني الكردينال. قالت: وهل رآك الكردينال، ويحك؟ قال: نعم، دعا بي إليه من السجن ودعاني بصاحبه، فأنا الآن صاحب الكردينال. قالت: قد أخطأت في مصاحبتك رجلا توجد يد فوق يده. قال: لا أصاحب سواه، فأنا خادمه الأمين ولا أفسح لك بالقيام في أمر يخالف صالح المملكة. قالت: أنت كردينالي إذن وضد الملكة؟ قال: لا، بل أنا مع من لا غاية له إلا صالح الدولة. قالت: ويلك، وهل تعرف ما هي الدولة وما هو صلاحها؟ فاطرح عنك هذه الأوهام واسع فيما فيه صلاحك. فضرب بيده على صرة المال وقال: ويحك، ما هذا؟ أليس هذا الصلاح؟ قالت: وأنى لك ذلك؟ قال: من الكردينال والكونت دي روشفور. قالت: تصاحب روشفور وهو الذي خطفني؟ قالت: أولم تقولي لي إن لاختطافك أمرا سياسيا؟ قالت: نعم، ولقد كان القصد منه أن أخون الملكة وأعبث بشرفها، فاذهب لعنة الله عليك من خائن يتبع الشيطان حبا للمال. قال: ليس ذلك الشيطان، وإنما هو الكردينال. قالت: هما واحد عليهما لعنة الله. قال: وماذا تريدين مني الآن؟ قال: تذهب فيما رسمت لك. قال: أرى أن لندرة تبعد كثيرا عن باريز، وما أنا كفوء لهذا الأمر على شدة الخطر فيه، ولقد أدبني السجن عن كل دخيلة، وقد ذقت فيه الموت ألوانا، وهل يشتهي الموت من ذاقه؟ فإليك عني يرحمك الله، فما أنا بصاحبها. قالت: أولا تعلم أنكم إذا عصيت أعيدك إلى ما تخشى منه بأمر الملكة؟ قال: إذا فعلت ذلك فأنا أشكو أمري إلى الكردينال.
ثم خطر بباله قول روشفور له أن استطلع سر امرأتك، فقال لها: ألا تقولين لي ماذا أصنع في لندرة وما الغرض من ذهابي إليها؟ قالت: إن لذلك سرا لا ينبغي أن تعرفه سوى أني قلت لك أن لك منه فائدة. فجال عند ذلك في خاطره أن يذهب إلى الكونت روشفور فيقص عليه أمر الرسالة إلى لندرة وأنها من الملكة، فيكون له من ذلك جزاء، فقال لها: أنا خارج الآن لموعد ضربته وسأعود بعد قليل. ثم خرج، وأقامت تندب نفسها وإخفاق مسعاها وخجلها من الملكة، وإذا بصوت يقول لها: من السقف: افتحي لي لأنزل إليك، فالتفتت الامرأة فرأت دارتانيان.
Bilinmeyen sayfa