1 - الشعر
2 - النقد الأدبي
3 - كل فن لما خلق له
4 - القصة
5 - الرواية المسرحية
1 - الشعر
2 - النقد الأدبي
3 - كل فن لما خلق له
4 - القصة
5 - الرواية المسرحية
Bilinmeyen sayfa
فنون الأدب
فنون الأدب
تأليف
ه. ب. تشارلتن
ترجمة
زكي نجيب محمود
مقدمة المعرب
بقلم زكي نجيب محمود
هذا كتاب ألفه ه. ب. تشارلتن
H. B. Charlton
Bilinmeyen sayfa
أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة مانشستر بإنجلترا، وسماه «فن الدراسة الأدبية»
The Art of Literary study ، وقصد به إلى أوساط القراء الذين لم يتعمقوا في أصول النقد الأدبي، ولعلهم لا يريدون أن يتعمقوا فيها، فهم يقرءون آثار الأدباء من شعر ونثر ليستمتعوا بما يقرءون؛ فأراد مؤلف الكتاب أن يكون لهؤلاء مرشدا ومعينا، وأن يهديهم إلى بغيتهم سواء السبيل؛ فهو في الفصل الأول يبين لقارئ الشعر كيف ينبغي له أن يقرأ الشعر لكي يسيغه ويتذوقه، وفي الفصل الثاني يحدد لبعض المصطلحات الأدبية معانيها؛ حتى يكون القارئ أتم دراية بما يقرأ، ثم يبين في الفصل الثالث لكل فن ميدانه ونطاقه؛ ليعرف صاحب الفن ما حدوده، فلا يطغى الشاعر على ما يجب أن يترك للمصور، ولا كاتب القصة على ميدان الرواية المسرحية وهكذا، وفي الفصل الرابع يوضح لنا الكاتب أصول القصة وأوضاعها وشروطها توضيحا دقيقا بارعا، كما يوضح في الفصل الخامس أصول الرواية المسرحية وشروطها. ولعلنا في هذا العهد الذي أخذت فيه القصة والمسرحية تلتمسان سبيلهما إلى الظهور في الأدب العربي، أحوج ما نكون إلى هذين الفصلين الأخيرين؛ فليس من يمشي مكبا على وجهه أهدى ممن يمشي على صراط مستقيم.
ولقد أخذت على نفسي أن أنقل آراء الكاتب نقلا أمينا لا زيادة فيه ولا نقصان، دون أن ألتزم الترجمة الحرفية جريا على السنة التي رسمتها لجنة التأليف والترجمة والنشر في إخراج هذه السلسلة؛ فقد أقف هنا سطرا أو سطرين لأوضح فكرة أخشى أن تكون غامضة على القارئ العربي، وقد أقتضب هناك سطرا أو سطرين لأجتنب إطنابا ليس فيه كبير غناء، واستبحت لنفسي أن أبدل عنوان الكتاب، فجعلته: «فنون الأدب».
وبديهي أن كتابا في النقد الأدبي لا بد له أن يسوق الأمثلة والشواهد للبيان والإيضاح، وبديهي كذلك أن من الأمثلة ما يفقد في الترجمة موضع الاستشهاد، بحيث لا تعود له دلالته التي أريد له أن يوضحها، فلم يكن لي بد من التصرف الشديد؛ فأمثلة حذفتها حذفا وحاولت جهد المستطاع أن أستبدل بها أخرى من الأدب العربي، تدل بعض الدلالة على ما أراد الكاتب أن يوضحه، وأمثلة آثرت نقلها إلى العربية؛ لأن الترجمة لا تفقدها الفكرة، وإن أفقدتها شيئا من جمال لفظها، ولم أشأ أن أفصل الأمثلة الدخيلة في هوامش الكتاب، بل أجريتها في سياق الحديث ليخرج القارئ العربي بشيء قريب من الأثر الذي يخرج به قارئ الكتاب في أصله الإنجليزي.
فإن استطاع هذا الكتاب أن يعين قارئ الأدب على أن يزيد من تقديره لما يقرأ واستمتاعه به فقد أدى رسالته.
وإني أشكر الأستاذ الجليل أحمد أمين بك على اختياره لهذا الكتاب، وعهده إلي بترجمته ومراجعته قبل طبعه.
والله أسأل أن يسدد خطانا، وأن يوفقنا إلى ما نريد.
الفصل الأول
الشعر
سل من شئت من أوساط الناس: ما الشعر؟ يجبك: إنه الكلام المنظوم. لكني في هذا الكتاب سأستخدم لفظ الشعر في معنى لم تألفه الآذان. سأستخدمه لأدل به على كلام صدر عن فن، ولم يقصد به كاتبه أو قائله أن يضيف بمعانيه إلى ذخيرة العرفان قطرة أو قطرات. سأستخدمه لأدل به على كلام يراد به قبل كل شيء أن يكون لقارئه لذة ومتاعا، وسواء بعد ذلك أكان هذا الكلام نثرا، كما ترى في القصص والمقالات والروايات المسرحية، أم كان الكلام نظما، كما ترى في القصائد الغنائية وشعر الملاحم. وما دمت قد أطلقت لفظ الشعر ليشمل هذا النطاق الواسع الفسيح، فلا بد لي أن أخرج منه القصائد المنظومة التي قصد بها إلى النفع لا إلى المتعة، كهذه التي تصادفها في كتب النحو تصوغ لك القواعد في منظوم لتحتفظ به الذاكرة في غير عسر ولا عناء. فالذي أردت أن أستهل به الحديث - إذن - هو أن سمة الشعر على اختلاف ضروبه أنه لا يرمي إلى نفع، ولا يبتغي معرفة وعلما؛ إنما هو شيء يذاق فيستساغ، ولكن ماذا أريد؟ إن كان الشعر لا يرمي إلى النفع، أفيكون معنى هذا أنه لا ينفع ولا يفيد؟ أيكون الشعر حقيقا منا بالجهد والعناء؟ أخليقون نحن أن ننفق فيه من دهرنا شطرا يقصر أو يطول؟ أيجوز في هذا العالم الذي يحيط بنا اليوم، والذي ارتج لزعازع السياسة الهوج ارتجاجا عنيفا، أيجوز لنا إذ نعيش في عالم اعوجت فيه قوائم المجتمع وأعوزه الإصلاح، أن نزجي من فراغنا وقتا وأن نبذل من مجهودنا قسطا في دراسة الشعر؛ وإن فراغنا لقليل، وإن جهدنا لضئيل؟ فإن قال قائل: ولم لا؟ إن الشعر بعد العناء متاع بريء لا يضر ولا يؤذي، أستمتع به لاهيا كما يستمتع اللاعبون بالنرد والورق في أوقات الفراغ. فلنا أن نجيبه: أواثق أنت أن الشعر ليس بذي ضر ولا أذى؟ ألا يجوز أن يكون الغاوون وحدهم هم الذين يقرءون الشعر ويلهون به؟ إن الرجل من أوساط الناس إذا ازدرى الشعر فسيجد إلى جانبه إمام الشعراء يؤيده في قضيته ويشد أزره، سيجد «شيكسبير» يجري على لسان «هتسبير» هذه الأبيات:
Bilinmeyen sayfa
قد كنت أوثر أن أكون قطيطة تصرخ بالمواء،
ولا أعد في قوم يتاجرون بنظم الغناء.
قد كنت أوثر أن أستمع إلى مقبض نحاسي يصر في وعائه وهو يدور،
أو إلى عجلة جفت تصلصل حول محورها.
فذلك كله لا يصيبني بضراس،
كالذي يصيبني به شعر يحز فيقطع.
ولا تقل إن ذلك «هتسبير» يتحدث في سياق روايته، وليس هو بالرأي يدلي به الشاعر، فما لاح لأحد خطر الشعر كما لاح لشيكسبير؛ انظر إلى «هاملت» كيف تردى - أو قل أرداه الشاعر - في المهالك؛ لأنه يحمل بين جنبيه نفسا شاعرة، وينظر إلى الأمور بعين الشاعر، وفي «حلم ليلة في منتصف الصيف» يسوق الشاعر رأيه في الشعراء على لسان الحاكم في أثينا، فيحشرهم في زمرة أشباههم، المجانين ومخبولي العاشقين، وعجيب أن يتفق شيخ الشعراء في رأيه مع شيخ الفلاسفة، أفلاطون! فهل جاءك أن هذا الفيلسوف في «جمهوريته» التي يصور فيها دولة مثلى، قد انتهى إلى ضرورة إخراج هذه الطائفة الخطيرة من حظيرة المجتمع، طائفة الشعراء؛ فهم عنده خطر على الدولة من أي ناحية أتيتهم، هم خطر على الناشئة إن قصد بشعرهم إلى تربية الناشئة، وهم خطر على الأخلاق إن اتخذت أوضاعهم مثلا أعلى للأخلاق، وهم فوق ذلك خطر على التفكير إن وضعت أقوالهم أمام العقول نماذج تحتذى؛ وإن كان ذلك كذلك فما بقاؤهم في جماعة تنشد لنفسها الكمال؟
فإن كان هذا رأي أئمة الفكر في الشعر، فلا ينبغي أن تنال منا سورة الغضب إذ نصادف بين أوساط الناس من يزدري الشعر، ولا يراه جديرا بما ينفق فيه من وقت ومجهود، وحري بنا ألا نطالبه بما يؤيد زرايته؛ فعلينا نحن - أنصار الشعراء - أن نقيم الدليل على قيمته، فالبينة على من ادعى.
ولما كان الحكم على الشيء فرعا عن تصوره - إذ لا نستطيع أن نجزم بشيء عن الشعر، دون أن نعرف حقيقته وطبيعته - كان لا بد لنا أن نعاود السؤال من جديد: ما الشعر؟ ههنا تجد إجابات عدة، منها ما يقف بك عند السطح، ومنها ما يعمق حتى يضعك في مشكلات ميتافيزيقية قد لا يكون لك بها قبل. فلئن أقنعت هذه الإجابات العميقة الفلاسفة والعلماء، فلسنا نريد اليوم أن نكون من هؤلاء ولا أولئك. ويقنعنا أن نقف مع أوساط الناس حتى نستطيع الفهم والإفهام، فنكتفي من الحلول بأيسرها، ومن الأمور بظواهرها ذات المأخذ القريب؛ فالشعر عندنا هو كلام يصنعه ويؤلف بينه الشعراء. وإن كان صناعة وتأليفا فمم يصنع، ومن أي مادة يتألف؟ ههنا أيضا تصدمك إجابات تضرب من الأمور في أعماقها، فتزعم لك أن الشعر مؤلف من أحلام سرمدية خالدة، أو أنه نفثات تزفر بها القلوب، لكننا سنقف مع أوساط الناس مرة أخرى، فلا نرضى عن مثل هذا القول المبهم؛ وعندنا أن الشعر مؤلف من ألفاظ، ومن ألفاظ فقط، كما تتألف سائر ضروب الكلام، فكل ما للشعر من سحر يفتن القلوب، إنما هو سحر صادر عن الألفاظ، والألفاظ وحدها.
إذن فما هي الألفاظ؟ فما سمعت قبل اليوم أن السحر والفتنة من خصائصها. وأفتح المعجم لأعلم ما «اللفظ» فإذا هو «صوت أو مجموعة أصوات تواضع الناس على أن تكون جزءا من الحديث؛ لتنقل بينهم فكرة من الأفكار.» كلا، لا تحدد نفسك بأوضاع المعاجم، فللألفاظ مهمة أخرى غير هذه التي يعرفها لنا المعجم، بل ليس ما يعرف به المعجم «اللفظ» إلا أقل جوانب اللفظ شأنا؛ فمن ألفاظ اللغة طائفة قليلة جدا مهمتها أن تنقل الأفكار بين الناس، ثم تقف عند هذا الحد لا تعدوه، فالكثرة الغالبة من الألفاظ مثقلة بأشياء غير الفكرة التي تحملها، مثقلة إلى جانب الأفكار بما لا يقع تحت حصر من المشاعر والصور. خذ لذلك مثلا لفظة «أم»، فهي عند المعجم دالة على فكرة مجردة لوالدة مجردة، لا تستطيع أن تصورها لنفسك في «أم» من لحم ودم، فتقف إزاء المعنى المعجمي جامد العاطفة بارد الشعور؛ لأنه لا يعطيك إلا شبحا خافتا لأم تصلح لكل إنسان، وهي لهذا نفسه لا تصلح أما لإنسان، لكنك إذ تستخدم في حياتك الخاصة لفظ «الأم» تجده في ذهنك كائنا حيا، وترى هذا الهيكل الجامد البارد الذي قدمه إليك المعجم منذ حين قد انتفض في قلبك نابضا يتدفق عاطفة ويفيض شعورا، «ففكرة» الأم لم تعد فكرة وكفى، بل نفثت فيها الحياة، فخلقت بذلك خلقا جديدا من العدم أو ما يشبه العدم. ندع المعجم وشأنه في تعريف الأم بالوالدة. أما أنت وأما أنا في حياتنا اليومية فالأم تعني عندنا إنسانة بعينها، تحيط بها هالة وضاءة من ذكريات الطفولة، وترمز إلى ما شهدناه في أيامنا الأولى من أماكن وأحداث، وتفيض على وجودنا وكياننا سيالا دافقا من المشاعر الحية. هذا مثال واحد من ألفاظ اللغة بأسرها، فهي في المعجم جثث هوامد وهياكل جامدة ليس بها حراك؛ لأنها خاوية من اللحم والدم، هي رموز لأفكار. أما إن سلكنا اللفظ في الحديث فقط أضحى جزءا حيا من مجرى الحياة، أو إن شئت فقل إنه بات قطعة من الحياة نفسها، يكسوها اللحم وتجري فيها الدماء، وما لحمها ودماؤها إلا الصور والمشاعر التي تحركها في الأذهان وتثيرها في حبات القلوب، وهذه المشاعر وتلك الصور جزء من معانيها؛ لأن ذلك هو ما تعنيه بالقياس إلينا.
Bilinmeyen sayfa
ليست الألفاظ - إذن - أدوات نستعين بها على الحياة، ولكنها في ذاتها جزء من الحياة، بل إن الألفاظ حية أبدا لا تعرف الموت، وما ماتت إلا على صفحات المعجم؛ فجامع المعجم يحدد لك معنى اللفظ تحديدا قاطعا، ويحسب أنه بذلك قد حنطها وخلفها مضمونة من العبث في صندوق من زجاج، فما يروعه - وقد مضى على معجمه عشرون عاما - إلا أن يرى سواه قد اضطلع بجمع معجم آخر؛ لأن الألفاظ التي ماتت و«حنطها» قد دبت فيها الحياة وهو لا يدري، فطرأ عليها ما يطرأ على الكائنات الحية جميعا من تغير وتحول، ومن هنا مست الحاجة إلى معجم جديد. ومن ذا يريد لنفسه أن يقرأ عن فلان أنه ذهب في «سيارة» إلى داره، فيخامره الشك أن تكون السيارة المقصودة قافلة من الإبل لأن ذلك ما يريده لنا المعجم؟ الألفاظ كائنات حية تولد وتنمو وتتغير وتفنى كسائر الكائنات الحية، ومنها ما يبلغ فيه التحول حدا بعيدا بحيث يصبح من المعنى السابق كالنقيض من نقيضه، ونسوق لهذا مثالا كلمة إنجليزية هي «توري»
Tory ، فقد ظلت تعني حتى سنة 1680م مارقا سفاكا، ثم أخذت تتحول رويدا رويدا حتى باتت تطلق اليوم على أكثر الناس احتراما وأشدهم رعاية للقانون والنظام. ألست ترى إلى الفلاسفة يشكون مر الشكوى أن ألفاظ اللغة لا تذعن لهم ولا تستقر في أيديهم، فما تنفك قلبا حولا، وهم يريدونها ثابتة جامدة؛ لتصلح للتعبير عن أفكارهم المجردة التي تتصف بالدوام والثبوت؟ الفيلسوف في حقيقة الأمر لا ينشد ضالته في ألفاظ اللغة؛ لأنها لا تسعفه في مسايرة أفكاره، فهي متغيرة تغير المادة الحية، وأفكاره ثابتة؛ لأنها مجردة عن المادة. إنه يريد رموزا تعبر له عن آرائه العارية الخالصة؛ لأن الرأي الخالص العاري لم يخلق للألفاظ ولم تخلق له الألفاظ، إذ هي تحمل في تضاعيفها إلى جانب الفكرة المجردة الخالصة عددا يقل أو يكثر من الذكريات والعواطف والمشاعر، وكلها شراك وفخاخ يخشاها الفيلسوف؛ لأن فكرته إفراز عقلي خالص، لا تشوبه شائبة من عاطفة أو شعور؛ فإن أراد الرياضي - مثلا - أن يحدد العلاقة المجردة بين ضلعي مثلث تساوت ساقاه، فهو لا يريد لعاطفته أن تتدخل في مجرى تفكيره ليتحزب لضلع دون ضلع، ولا يحب لعينيه أن تفتنا بجانب وتنفرا من جانب؛ ولذلك تراه لا يطلق على أضلاع مثلثه ألفاظا؛ خشية أن تحمل اللفظة أكثر مما يراد لها أن تحمل، وهو يتحوط للأمر ويميز الأضلاع برموز تحددها، ولا تضيف إلى ذلك التحديد شيئا آخر، فيقول عن هذا «أ ب» وعن ذاك «أ ج». وحيثما استطاع الفيلسوف أن يصطنع من الرموز ما اصطنعه إقليدس في الهندسة، سارع إلى ذلك فرحا مغتبطا؛ لأن الرموز مؤتمنة على نقل المعاني المحدودة البينة، فهي ميتة لا حياة فيها. أما ألفاظ اللغة الحية فأداة خطيرة في نقل المعاني، إن أردت لمعانيك تحديدا لا يعرف الغموض وثباتا لا يقبل التغير.
ولا تحسبن أننا وحدنا قد احتكرنا لأنفسنا الحق في نفخ الحياة السارية في ألفاظ اللغة بما ندسه فيها من تجارب حياتنا؛ فقد تداول أسلافنا هذه الألفاظ، وكان كل إنسان في كل مرة يستخدم فيها لفظا من الألفاظ، يبث في ثناياها شيئا من المعنى، فكلما أمعنت الكلمة في القدم، أو كلما ازدادت الكلمة تداولا، كانت أثقل شحنة بتجارب الناس في حيواتهم، أو بعبارة أخرى كانت أملا بحياة الذين اتخذوها أداة للتعبير عما في نفوسهم. هكذا تفعم اللفظة بالحياة كما عاشها الناس، تتداولها الأجيال المتعاقبة، فيقطر فيها كل جيل تجاربه الخاصة من حياته الخاصة، وكأنما يتخذ من الفكرة الكامنة في حنايا اللفظة مشجبا يعلق عليه هذه التجارب التي بثها إياها. أتظن -مثلا - أن «الناقة» تعني لساكن البادية ما تعنيه لساكن الحضر؟ أكانت تثير كلمة «الحرية» عند المصريين القدماء ما تثيره فينا اليوم؟ أم ترى أن الألفاظ تختلف خلاء وامتلاء باختلاف الظروف؟ لقد كانت «الجبال» عند أهل القرن الثامن عشر من الإنجليز تعني هضبة ناهضة على صدر الأرض، يضطرب لها خط الأفق، فيضطرب في إثره قلب المسافر المسكين، فلا يظل على بشره ورجائه، إذ ربما اعترضته في طريقه فألزمته أن يجاهد لاهثا في صعودها وهبوطها، لكن «الجبال» تبدلت عند أهل القرن التاسع عشر، فأصبحت محاريب الطبيعة الشامخة بأنفها إلى السماء، وباتت مهبط الوحي وملاذ المكروب بجمالها الفتان، وكان «الدكتور جونسن» هو الذي طبع الكلمة في القرن الثامن عشر بطابعه، ووسمها بميسم تجاربه؛ فجاءت من البشاعة بما رأيت، وكان «وردزورث» هو الذي نفث في الجبال سحرها في القرن التاسع عشر، فأصبحت بفضله مجتلى للفن والجمال.
فليست الفظة إذن رمزا يشير إلى فكرة ومعنى فحسب، بل هي نسيج متشعب من صور ومشاعر أنتجتها التجربة الإنسانية، وبثت في اللفظة فزادت معناها خصبا وحياة؛ فإن رأيت رجلا غنيا بألفاظه فاعلم أنه لذلك أوسع حياة من سواه، وإن رأيت رجلا قديرا على استخراج المعاني من ألفاظها فاعلم أنه أيضا أعمق حياة من سواه. وأول طابع يميز الشاعر من سائر الناس قدرته على أن يستخرج من اللفظة المعينة عددا من المعاني يعجز عن استخراجه سائر الناس. للألفاظ تأثير عجيب في الشاعر؛ فهي تتفجر في نفسه كأنها القنبلة المشحونة، فتخرج كل ما تحتويه في جوفها من صور ومشاعر وتجارب؛ أعني أنها تنحل في نفس الشاعر، فتخرج مكنونها الذي اختزنته على مر الدهور؛ فكل لفظة عند الشاعر مستقلة بوجودها متميزة بشخصيتها، تختلف عن كل لفظة أخرى في خصائصها وسماتها. ولنضرب لذلك مثالا يوضح ما نريد: لقد رووا أن الخنساء سمعت في عكاظ حسان بن ثابت يقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقالت الخنساء في نقده: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع. قال: وكيف؟
قالت: قلت «لنا الجفنات» والجفنات ما دون العشر فقللت العدد، ولو قلت «الجفان» لكان أكثر. وقلت «الغر» والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت «البيض» لكان أكثر اتساعا . وقلت «يلمعن» واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت «يشرقن» لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت «بالضحى» ولو قلت «بالعشية» لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقا. وقلت «أسيافنا» والأسياف دون العشر، ولو قلت «سيوفنا» كان أكثر. وقلت «يقطرن» فدللت على قلة القتال، ولو قلت «يجرين» لكان أكثر لانصباب الدم. وقلت «دما» و«الدماء» أكثر من الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك. وهذا يدلك على الفروق الدقيقة بين الألفاظ عند الشعراء.
Bilinmeyen sayfa
الشعر مفعم بالمعاني على نحو لا يدنو منه ضرب آخر من ضروب الانشاء؛ لأن الشاعر يريد بالألفاظ حين يستخدمها أكبر قسط من معانيها الدفينة ومشاعرها المخزونة. وإذا وزنت الألفاظ بكل محصولها من معنى وشعور، وجدتها متباينة لا يتشابه بينها اثنان؛ لأن لكل منهما تاريخا مرت به، وظروفا نشأت فيها، وتجارب اندست في حناياها، فاللفظتان المترادفتان تتقاربان كما يتقارب الشقيقان، ولكنهما لا تتماثلان تماثل الأصل وصورته، والشاعر المجيد حين يتناول المترادفات لا يغض عن هذه الفروق مهما دقت؛ ومن ثم استحال عليك أن تستبدل في القصيدة الجيدة لفظة بأخرى، دون أن يتغير معنى القصيدة كلها. والقصيدة العصماء يصيبها الفساد إن تغيرت فيها لفظة واحدة؛ لأنها نتاج شاعر عبقري عظيم، ولا يستحق الشاعر أن يرقى إلى صف العباقرة الأفذاذ إلا إن علم علم الإحاطة واليقين ماذا يريد أن يقول، وكيف يستطيع، وبأي الأدوات يستطيع أن يعبر عن هذا الذي يريد تعبيرا دقيقا لا زيادة فيه ولا نقصان، لكن الشاعر قد يريد أحيانا أن يقول ما يستحيل قوله في ألفاظ، فثم ضروب من الخيال الجامح تحطم حدود الألفاظ ثم تلوذ بالفرار؛ لأن طبيعتها تأبى عليها السكينة والقرار، وهنالك من الشعراء من يشطحون بخيالهم إلى تلك الضروب الشموس الشرود، فلا يرون من الحياة إلا جوانبها الغوامض الدقاق دون ألوانها المحددة الواضحة، وهم من يطلق عليهم في الآداب الأوروبية اسم الشعراء «الابتداعيين» تمييزا لهم من فريق «الاتباعيين» الذين يذعنون بخيالهم وتفكيرهم للقيود والحدود، فهؤلاء الشعراء الابتداعيون يريدون أن يعبروا عن تجارب مرت بهم، وخواطر طافت بأذهانهم، مما يستعصي على التعبير؛ لأنهم إن ساقوها في أدوات التعبير المألوفة باتت كالتجارب والخواطر المألوفة، وهي ليست كذلك، وبديهي أنك لو جسمت الظل لم يعد ظلا؛ لهذا ترى هؤلاء الشعر ينتقون للتعبير عما في نفوسهم ألفاظا توحي بالمعاني ولا تحددها، وذلك باستخدام كلمات لم يكثر دورانها على الألسنة ولم تألفها الأسماع، فتكون غرابتها وندرتها سببا في إبهامها وعدم تحديدها؛ لأنها عندئذ تكون كالوعاء المليء بمادة مجهولة، فلا ندري - على وجه التحديد والدقة - على أي شيء يحتوي. في مثل هذه الحالات يكون للإبهام قوة أكثر مما يكون للوضوح.
وتحضرنا في هذا الصدد أمثلة من القرآن الكريم؛ ففي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة «ضيزى» من قوله تعالى:
ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى
فغرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لهذه القسمة التي أنكرها الله تعالى على العرب. وكقوله تعالى:
طلعها كأنه رءوس الشياطين
فههنا ليس حتما عليك أن تعلم المعنى الدقيق للكلمة، حتى يكون لها الوقع المنشود، بل إن قوة وقعها في النفس صادرة عن غرابتها وندرتها في الأسماع. أو انظر إلى هذه الآية الكريمة التي يوصيك الله فيها بوالديك:
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة
تلمس قوة عجيبة في التعبير قبل أن تمعن النظر في حقيقة المعنى على نحو دقيق؛ فقد لا تستطيع أن تصور لنفسك جناحا للذل تخفضه لوالديك، ومع ذلك فهذا الإبهام القليل في العبارة هو سر إعجازها.
وهكذا أيضا يلجأ الشعراء أحيانا إلى اللفظ الغريب للزيادة من قوة التأثير، ولا سيما إن كانت الصورة المرسومة مما لا يألفه الناس في الحياة الجارية؛ فإذا رأيتهم يطلقون على الأشياء غير أسمائها فاعلم أنهم لا يصنعون ذلك عبثا، ولو أرادوا الأسماء المعروفة للأشياء لأطلقوها. على أننا يجب أن نكون في هذا على حذر؛ ففي العهود التي يضعف فيها الشعر ويقل النوابغ الفحول ترى الشعراء يقصدون إلى أشياء معروفة مألوفة ، لكنهم يلفونها في لفظ غريب فيبهموا الصورة ويطمسوها، وعندئذ تكون غرابة اللفظ ضعفا لا قوة. يجب أن يكون الشاعر صادقا في التعبير عن شعوره، فإن أراد شيئا مألوفا فليطلق عليه اسمه المألوف. أما إن أراد صورة فيها شيء من الغرابة لأنه أحسها في نفسه غريبة، فيجوز له أن يلجأ إلى اللفظ الغريب المبهم.
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
Bilinmeyen sayfa
على المجالس إن كيسا وإن حمقا
فإن أشعر بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته: صدقا
انظر مثلا إلى هذا الذي يصف السحاب بقوله:
تسربل وشيا من حرير تطرزت
مطارفها لمعا من البرق كالتبر
فوشي بلا رقم ونقش بلا يد
ودمع بلا عين وضحك بلا ثغر
تدرك من فورك أن هذا الشاعر كاذب في شعوره، يبحث عن اللفظ أولا ثم يترك المعنى تابعا. والأصل أن يضطرب المعنى في ذهنه فيخرجه في ألفاظ، فلم يتسربل السحاب وشيا من حرير مطرز، وليس البرق تطريزا، ولا الرعد ضحكا. وكيف يكون وهو الذي ما سمعته يدوي مرة إلا ورأيت قلوب الناس تنخلع لدويه المخيف؟ لو كان الشاعر يصف أصيلا جميلا هادئا، لجاز له أن يرى السحاب الخفيف المنتثر على صفحة السماء وشيا من الحرير المطرز، ولكنه يصف السماء وقد زعزعتها العاصفة القاصفة برعدها وبرقها؛ فمن كذب الشعور أن توحي إليه تلك الطبيعة الخشنة الغليظة بنعومة الحرير وزركشة التطريز، أو أن يوحي له الرعد بالضحك مع أنه أدنى إلى الزمجرة الغاضبة.
وسنسوق لك من الشعر الإنجليزي أمثلة لثلاثة من الشعراء، وصفوا الكارثة التي تحل بالأسرة حين تعاجل المنية عائلها في شرخ شبابه، لترى كيف يضعف الشعر إن كذب الشعور وكيف يقوى إن صدق. يقول «تومسن» في قصيدته «الشتاء» في وصف راع أتت عليه العاصفة، وهو يرعى ماشيته على سفوح التلال:
Bilinmeyen sayfa
عبثا راحت زوجته الكدود له تعد
مصطلى النار ذا وهج والدثار دفيئا.
عبثا صغار بنيه إلى الطريق تطلعوا
ينشدون مولاهم في لجة العاصفة.
فهنا يزل الشاعر حين يقول عن الصغار إنهم «ينشدون مولاهم»، ولو قال «ينادون أباهم » لكان أقرب إلى الأطفال في شعورهم؛ لأن الوالد عند الطفل «أب» وليس بمولى. وإنك لتستدر عطف القارئ على الطفل الذي حرم أباه إذا تكلمت بلغة الطفل وشعرت بشعوره، أكثر مما تستدره إذا فخمت اللفظ وجئت بكلام لا يعرفه الأطفال. وكذلك يخطئ الشاعر مرة ثانية حين يطلق على الثياب التي تعدها الزوجة الوفية لزوجها لفظ «الدثار»؛ لأن الزوج هنا راع، والراعي يلبس الثياب المجردة، ولا تعد له الدثر الدفيئة التي تعد للأغنياء المترفين. وعلى الجملة فإن أبيات «تومسن» لا تشعرك بالجو الصحيح في منزل الراعي؛ ولهذا أعوزتها الجودة حين أعوزها الصدق.
ويقول «جراي» في قصيدته المشهورة «مرثية في فناء كنيسة ريفية» التي نظمها بين عامي 1742-1750م، في معنى كهذا ما يلي، والضمير في الأبيات عائد على الراقدين في أجداثهم في فناء الكنيسة التي وقف فيها الشاعر راثيا:
لن تشتعل لهم بعد مدفأة وهاجة ليصطلوا،
ولن تنكب لهم زوجة في شغل تتم عناء المساء،
ولن يسرع نحوهم صغار بعودة مولاهم يلثغون،
أو يصعدوا ركبتيه ليقتسموا قبلة منه مرجوة.
Bilinmeyen sayfa
وفي هذه الأبيات ترى صورة الزوجة منكبة تتم أعمالها قبل عودة زوجها، أصدق وأكثر تحديدا من صورة الزوجة عند «تومسن» تعد «الدثار دفيئا»، وكذلك صورة الأطفال يسرعون نحو أبيهم وهم يلثغون في الترحيب به، أقرب إلى الوضوح من الأطفال عند «تومسن»، ولكن «جراي» يضخم اللفظ في غير موضع للتضخيم حين يسمي الأب مولى، فيخطئ هنا كما أخطأ تومسن.
ويصور «كولنز» صورة شبيهة بهذه أيضا في قصيدة له عنوانها «نشيد في الخرافات الشائعة»، إذ يرسم لنا حالة الأسرة وقد أغرق في اليم عائلها:
عبثا سترقبه في قلق زوجته،
وتجوب الطريق لعلها تلاقيه في عودته.
عبثا إذا ما أطبق المساء على ضوء النهار
يطيل الصغار وقوفهم عند الباب لأب يفتحه.
فهنا تحس كأنما امتزج الشاعر بهذه الأسرة الحزينة وأشرب شعورها؛ فهو لا يصور مأساتها وهو واقف على مبعدة منها يرقب ويصف، بل يحيا في هذه المأساة نفسها مع أفراد الأسرة المنكوبة. انظر كيف أقلقه قلق الزوجة، وراح يصور من المنظر ما يعين على أداء غرضه الذي يهدف إليه، ولا ينحرف إلى سواه، فكل سطر يضيف إلى صورة المأساة خطوة حتى تتكامل، ويضيع الرجاء حين يقبل المساء، ويجتمع الأطفال خلف باب الدار ينتظرون أبا لن يعود؛ فالباب الذي لن ينفتح لأبيهم الغائب أبعث على الحزن من القبلة التي يرجونها من أبيهم في وصف «جراي». كل سطر في هذه القصة دال على خيبة الرجاء، وباعث على مشاركة الزوجة وبنيها وجدانهم وأحزانهم.
أفحش الخطأ أن يظن الشاعر أن هذه لفظة تصلح للنثر ولا تصلح للشعر، لأنها درجت على ألسنة الناس في الحديث؛ إذ العبرة بما تحتويه اللفظة من مكنون شعوري، وبما توحيه في موضعها الذي يختاره لها الشاعر من خواطر ومشاعر. نعم إن لبعض الألفاظ في المسامع نغما أشجى من بعضها الآخر، وبعض الألفاظ أسلس في يد الشاعر من بعضها، وأكثر اتساقا وانسياقا في الكلام الموزون، لكن هذه العوامل كلها متصلة بجمال الألفاظ الظاهري الخارجي، وهو جمال تافه ضئيل إذا قيس بالجمال الباطني الحقيقي، جمال المعنى والشعور الذي توحي به اللفظة عند كاتبها وسامعها. جمال اللفظ أن يؤدي ما أريد له أن يؤديه أداء كاملا مليئا بالقوة والحياة، ولا عبرة
شعرا كان أو نثرا - هو قوة التعبير؛ كلما فاضت العبارة بمعانيها ومشاعرها وعواطفها التي قصد الكاتب أن يسوقها فيها، كانت أدنى إلى الأدب الحي الصحيح، على شريطة ألا يقصد من العبارة أن تؤدي معنى عقليا خالصا يمكن للرموز الجافة أن تؤديه، بل لا بد أن تحمل الألفاظ إلى جانب معانيها العقلية محصولا من العواطف الإنسانية والصور الذهنية والمشاعر الحية، التي تجمعت حول تلك المعاني العقلية على مر الدهور، بفعل ما مرت به الإنسانية من تجارب؛ «فاثنان واثنان تساوي أربعة» عبارة تؤدي معناها على أتم وأوفى ما يراد لها، لكنك لا تسلكها في الأدب الرفيع بسبب أدائها المعنى أداء تاما وافيا؛ لأن معناها عقلي خالص، يخلو من العواطف والمشاعر الإنسانية، ومن الممكن أن نستغني في أداء هذا المعنى عن الألفاظ جملة ونستبدل بها رموزا دون أن ينقص من المعنى شيء، كأن نسوقه في أرقام كهذه 2 + 2 = 4، وهذا ما أردناه منذ قليل حين اشترطنا للعبارة الأدبية الجيدة أن تعبر عن معناها أوفى ما يكون التعبير، على شرط ألا يكون معناها عقليا خالصا، بل يضاف إليه شعور إنساني بثته في الألفاظ تجارب الإنسان على مر العصور. ولست أحب لك أن تتعجل الأحكام، فلا يسبقن إلى وهمك أن «اثنين واثنين أربعة» كتب عليها ألا تجري في سياق الشعر لأنها تخلو من الصور الذهنية والمشاعر الإنسانية، وتقول الحق العقلي مجردا عاريا؛ فقد تجد في الشعر موضعا يكون فيه نقصها الشعوري نفسه سببا في جمال المقطوعة الشعرية في مجموعها، فانظر مثلا إلى الشاعر الإنجليزي «هاوسمان»
Housman
Bilinmeyen sayfa
في قصيدته التي يستهلها بقوله:
لما سلكت طريقي إلى السوق أول مرة.
كيف استفاد في أداء معناه من هذه الحقيقة الرياضية التي توفي المعنى كاملا، ولا تعتمد على عواطف الإنسان ومشاعره في قليل ولا كثير؛ إذ يتخيل الشاعر نفسه غلاما صغيرا وقف في السوق يتطلع في شوق شديد إلى أشياء لا يستطيع شراءها، فلما أن شب رجلا وامتلأ كيسه بالنقود والأشياء ما زالت في السوق معروضة كما كانت أيام طفولته، فقد الشهية التي كانت له وهو غلام. ويختم القصيدة بهذه الرباعية التي يقابل فيها نقص الإنسان وانعدام الرضا في نفسه بما يشاهد في الطبيعة الخارجية من ثبات في الحقائق لا يتغير:
رأى الناس اثنتين واثنتين أربعا،
لا هي في عدهم ثلاث ولا خمس.
فآلم هذا الحق القلوب وأوجعا،
وسوف يؤلم حتى يضمهم رمس.
فما رأيك في هذه الحقيقة العارية الباردة وقد وضعت هذا الموضع؟ أليست تحرك فيك الإشفاق على هذا الإنسان الذي يتقلب ويتغير وسط عالم ثابت؟
القصيدة الجيدة من الشعر - إذن - هي ما يستخدم فيها الشاعر الألفاظ بحيث تؤدي معانيها كاملة، والشاعر الحق هو من تميز عن سائر الناس بإدراكه لما للألفاظ من قوة؛ أي بإدراكه لما في ثناياها من معان تجمعت فيها خلال العصور؛ فالكلمة عند الشاعر لا تفسر بالعقل وحده، لكنها تفسر كذلك بالقلب والخيال؛ فإذا ما ترددت لفظة في ذهنه كان لها أصداء مدوية في دخيلة نفسه؛ لأنها تسكب مكنونها كله فيسري في كيانه، ويكشف لخياله في سريانه هذا مناظر الماضي وذكرياته، فيستعيد المشاعر التي كانت هذه الألفاظ قد أثارتها في أنفس الناس في شتى تجارب الحياة؛ فاللفظة الواحدة على هذا النحو قد تسكب في نفس الشاعر من الصور المتلاحقة ما يملأ قصيدة كاملة. خذ هذه القصيدة التي أنشأها أمير الشعراء في إنجلترا اليوم (مستر ميسفيلد) وعنوانها «حمولة السفن»، وما أظن هاتين اللفظتين تثيران في نفسك أو في نفسي إلا أتفه الصور وأبرد المعاني؛ فهما قد تستدعيان إلى ذهنك وذهني صورة السفينة وقد حملت الأثقال فوق ظهرها، وقد نمعن في التقصي فنشم خلال الكلمتين رائحة البحر، ونتعقب البضائع المحملة إلى قواعدها عبر البحار، لكن انظر كم سكبت اللفظة في نفس الشاعر من صور ومعان! لقد أخرج من «الحمولة» قصيدة بأسرها من أجود الشعر، لا يعتمد أن يسوق فيها فكرة أو يضمنها رأيا، بل يكتفي بالنظر إلى السفينة المحملة ثم يترك لشعوره العنان. هو في هذه القصيدة لا يفعل شيئا سوى أن يترك لفظ «الحمولة» يفرغ شحنته في رأسه، وما عليه بعد ذلك إلا أن يخرج الصور التي كانت كامنة في اللفظ وانسكبت في نفسه، وتستطيع وأنت تقرأ القصيدة أن ترى الصور تتداعى واحدة في إثر واحدة، كأن اللفظة شريط ملفوف ينحل وينبسط أمام عينيك شيئا فشيئا؛ حمولة، سفينة، أنواع السفن واحدة بعد أخرى، السفينة الثقيلة القديمة ذات المجاديف الخمسة، السفينة الخفيفة التي استعملت في معارك البحر، السفينة التي تحمل اليوم تجارة العالم وصناعته وهكذا. وفي كل مرحلة من هذه الحلقات المتتابعة تنشأ في ذهن الشاعر صور فيعمل فيها فنه؛ هذه يثبتها وتلك يمحوها. فلما وردت على ذهنه السفينة القديمة ذات المجاديف الخمسة، تلاحقت الصور كما يلي: نينوى، أوفير، ميناء، فلسطين، عاج ... إلخ. حتى إذا ما أتم القصيدة كانت «الحمولة» قد أفرغت ثلاثة عصور متباينة من عصور التاريخ، فأعادت له عصر سليمان بكل مجده وجلاله، وعصر اليصابات بما فيه من مغامرات وحروب في البحر، والعصر الحديث بسفنه التي تجوب البحار بتجارتها وصناعتها، كل هذه الصور وغيرها كانت مندسة في لفائف اللفظة الواحدة «حمولة»، وما إن أدارها الشاعر في ذهنه حتى تفجرت مكنوناتها وازدحمت صورها في نفسه، فأحس ما أحسه العالم في عهوده الماضية. وإذن فهو مؤرخ بمعنى الكلمة الصحيح؛ لأنه يستثير كوامن الماضي في نفسه، أو إن شئت فقل إن الماضي يبعث إلى الحياة من جديد في نفس الشاعر، بعثا على سبيل الحقيقة لا المجاز؛ لأنه سيعود حيا في وعيه وقلبه وشعوره، ولا يظل معروضا - كما يعرض في كتب التاريخ - في جمود القواقع الجافة التي تشير إلى ما كان فيها من حياة، دون أن تكون هي الحياة نفسها. على هذا النحو تفرغ الألفاظ ما أودعه الماضي في جوفها، كأنها تفعل ذلك بفعل السحر. ولعلك قد رأيت في المثال السابق كيف أتم الشاعر قصيدته على غير وعي منه؛ فهو وإن يكن متيقظا يوجه عملية «التفريغ» - تفريغ الصور من اللفظة - إلى حيث يريد، فيقرر أي الأضابير يحل ويفرغ، وأيها ينحى ولا يؤذن له بموضع في السياق، إلا أنه يقف من اللفظة موقفا قابلا لا فاعلا، فيدعها تتمخض عما شاءت من المعاني والذكريات حتى تكمل القصيدة كلها. وهو إذ يستعرض في القصيدة أنواع السفن الثلاثة، ويدع كل نوع منها يستدعي إلى ذهنه سلسلة من الخواطر والذكريات، وينتهي به الأمر إلى تصوير ثلاثة عصور من التاريخ؛ لا يوازن بين الحياة في هذه العصور المختلفة، ولا يزن كلا منها بما يراه له من قيمة وقدر، بل يكتفي بأن يبسط تجربة حية من كل عصر، وللقارئ أن يتخذ من هذه التجربة التي يبسطها له الشاعر تجربة كسائر ما تمده به الحياة من تجارب، ثم له أن يجعلها موضعا لتفكيره وتأمله، فتكون له مادة يكون منها في النهاية فلسفته الخاصة به . أما الشاعر فلا يقدم له رأيا ولا فلسفة، ويكتفي باسترجاع العناصر الحيوية التي طبعت «حمولة السفن» في الأعصر السوالف بطابعها. فأول ما يطلب من الشاعر أن يحيا في تجارب الماضي حياة جديدة، باستخراج ما تكنه الألفاظ من تلك التجارب.
لكن القصيدة ليست كلمة واحدة تفرغ ما فيها وكفى، إنما هي كلمات متجاورة متعاقبة، تقذف كل منها بما هي مفعمة به من تراث الماضي في نفس الشاعر ووعيه، وما تزال به تؤثر فيه حتى تدفعه دفعا أمام تيارها، فيجاوز الحاضر وينحدر إلى المستقبل يتسلفه ويسبق وقوعه. ومن ثم سمي الشعراء بالأنبياء؛ فهم يستجيبون لما ورثه الحاضر من الماضي خلال الألفاظ وما بث فيها، بحيث يتبين لهم أكثر مما يتبين لسواهم مجرى الحوادث في المستقبل كما تدل عليه تجارب الماضي. هم يتنبئون بالمستقبل؛ لأنهم يرون طريق التطور والرقي الذي تسير فيه الحياة، وتعينهم على ذلك قدرتهم العظيمة على استكناه ما تبطنه الألفاظ في جوفها من تراث فكري وشعوري خلفه فيها الأقدمون. خذ مثلا لذلك قصيدة «وردزورث» «الحاصدة المنفردة»،
Bilinmeyen sayfa
1
فترى الشاعر فيها يسير على تل في اسكتلندا، وإذا ببصره يقع على فتاة تحصد حقلا عبر الوادي، وينصت فإذا بالحاصدة تغني فيتأثر أبلغ الأثر بمنظرها وغنائها.
انظر إليها في الحقل وحيدة،
تلك الفتاة الريفية في عزلتها
تحصد وتغني بنفسها.
قف ها هنا أو امض هادئا.
يقدم الشاعر بهذه الأبيات الأربعة لما يريد أن يسوقه في قصيدته، وهي غاية في بساطة المعنى، لا تعقيد فيها ولا التواء، ولا يريد بها الشاعر غير أن يثبت حادثة رآها، ولكنك رغم بساطتها تلاحظ أن الشاعر مسحور بشيء رآه، وهو يخشى بهذه الفتنة البادية أن يفسدها عليه سائر ينهب الأرض بسرعته، فيهمس في إشفاق: «قف ها هنا، أو امض هادئا»؛ ليدوم له هذا السحر الذي أخذ يستغرق فيه. فما مبعث الفتنة في نفس الشاعر المأخوذ؟ أهو منظر الفتاة تجمع الحصاد أم صوتها تغني؟ قد تكون الفتنة منهما معا، لكنها فتنة الصوت قبل كل شيء، ذلك ما يبينه البيت التالي ؛ فهي تغني «نغما حزينا»، هي تغني «نغما» لا «أغنية»؛ فألفاظ غنائها قد انبهمت مع البعد فلم يبلغ أذن السامع إلا طلاوة الموسيقى وحلاوة «النغم»، ولكن هذا النغم قد مثل الأعاجيب المعجزة.
صه! أنصت، فالوادي العميق
فياض بصوت النغم.
وفي هذا القول أول إشارة تدل على الفتنة الغامضة الملغزة التي احتوت الشاعر في موقفه، ولم يصف «وردزورث» واديه - الذي يفصل بينه وبين الفتاة في حقلها - بالعمق لهوا وعبثا، لكنه يريدك على أن تتصور هذا العمق وقد امتلأت جنباته بسحر الغناء. إن الوادي وقد ملأه المصوت الشجي، قد تبدى في عين الشاعر واديا جديدا غير الوادي المعهود، فصوت النغم قد سما بطبيعة المنصت حتى أرهف حسه وشعوره، وهو ينظر بهذا الحس الذي أرهفه الصوت وبدل من طبيعته، فإذا هو بالمنظر الطبيعي أمامه قد أصابه التحول، فبات في عينه واديا غير الوادي.
Bilinmeyen sayfa
لكن «وردزورث» يشعر أنه لم يوف تأثره تعبيرا وإفصاحا، فلا يزال في نفسه أكثر مما أعرب عنه. إنه لم يعط السامع صورة كاملة للرهبة المفاجئة التي فعلت في نفسه فعلها، فسمت بها عن طبيعتها. إنه لم يفعل بعد سوى أن أشار إلى ما أحسه تلميحا، وهو الآن في سبيله إلى التعبير الوافي عما أحس إذ أنصت إلى صوت هذه الحاصدة، ولكن أثر النغم في نفسه - كما كان في حقيقته - من الإلغاز والغموض بحيث يستحيل عليه أن يصفه وصفا مباشرا، وكل ما يستطيعه إزاءه أن يذكر لك أشباها له قد توحي إليك بطبيعته؛ ولهذا تراه يستحضر في ذهنه أصواتا أخرى في ظروف أخرى يجوز لها أن تحدث في نفس السامع أثرا كالذي أحدثه صوت الحاصدة وهي تغني؛ فيذكر لك صوت البلبل وهو يهدهد آذان المسافرين في القفر الفسيح وقد هدهم النصب، فناموا بفعل النغم، وعمق بهم النعاس، حتى فقدت مسامعهم إحساسها. هذا صوت قد يكون له من الأثر مثل ما أحسه «وردزورث» حين طرقت مسمعيه نغمة الحاصدة، ومع ذلك فالصوتان لا يتشابهان إلا في تسللهما إلى حبات القلوب، ثم يبقى بعد ذلك لنغمة الفتاة هزتها؛ لذلك تراه بعد أن يقول:
إن بلبلا قط لم يغرد
بهذه الطلاوة للحشد النائم
من المسافرين عند بعض الفيء الظليل
في جوف الرمال من بلاد العرب.
يعقب بهذه الأبيات:
إن صوتا كهذا يهز النفس لم تسمعه آذان
من الوقواق المغرد إبان الربيع
يشق سكون البحار
عند جزائر الهبريد النائية.
Bilinmeyen sayfa
ففي الصورة الثانية توسعة للصورة الأولى؛ إذ تضيف إليها اهتزاز النفس حين يدوي صوت الوقواق بغتة، فيشق سكونا رهيبا يملأ الفضاء، والصورتان معا تتعاونان على بيان ما أحسه الشاعر من فتنة لصوت الحاصدة المغنية في عزلتها وهي تجمع الحصاد، لكن هاتين الصورتين لم تقفا عند حد التعبير عن إحساس الشاعر، بل أحدثتا أثرا وراء الغاية التي من أجلها سيقتا في القصيدة؛ فالشاعر إذ رأى هذه المناظر أمام عينيه قوية ناصعة ناضبة بالحياة، وترجم إحساسه بها في كلمات؛ دفعته قوة الكلمات دفعا حتى جاوزت به الغاية التي قصد إليها من قصيدته؛ فاقرأ الأبيات السالفة مرة أخرى، والحظ فيها، فضلا عن مواضع التشابه بين هذه المناظر التي ساقها الشاعر وبين ما أحاط بالفتاة الحاصدة من ظروف، مواضع شبه أخرى أدق وألطف، تسللت في سياق القصيدة فأكسبتها جوا جديدا مشبعا بالعزلة وروح الكآبة الحزينة؛ فهو إذ يذكر - عامدا أو غير عامد - صحراء العرب الموحشة وبحار الهبريد القصية المنعزلة، قد أطلقنا معه نسبح في طول البلاد وعرضها، ونجمع في تحوامنا لمحات دقيقة عما تحمله الأرض فوق سطحها من ألوان العناء والهم، وكأن الهم والعناء من لوازم الحياة الدنيا، وبغيرهما لا تكون حياة؛ فها أنت ذا مع الشاعر وسط الفيافي القفر التي تمتد ما امتد البصر، حيث المسافرون قد هدهم الإعياء فرقدوا عند الفيء يهدهدهم تغريد البلبل، حتى أطبق عليهم نعاس عميق لا يزول عنهم إلا مع الصبح، فينهضوا من نومهم وقد ازدادوا إحساسا بعزلتهم في تلك الفلاة، ثم ينتقل بك الشاعر من ذلك اليباب البلقع إلى حيث بطاح البحر قد امتدت آفاقها، وهنالك يغشاك إحساس رهيب بسكون الأغوار العميقة الدكناء، وإن المنظر ليزداد في نفسك رهبة حين يدوي في جنباته بغتة صوت توحي نغمته بالطرب وإشراق الربيع وبهجة الحياة، لكن أصداء الصوت تمحي فوق سطح الماء، ويظل كل شيء كما كان، بل إن صرخة الوقواق نفسها تصبح في الأذن صوتا يؤذن بعبث الحياة، ونبرة حزينة تنم عما تنطوي عليه الدنيا من هموم مضنية، ويثقل في عينك منظر الطبيعة بما تستشفه في صميم الكون من بؤس وشقاء، ثم يعود العقل بعد سبحاته الطويلة مع الشاعر في أنحاء الأرض، يعود إلى صوت الحاصدة وهي تغني في عزلتها، فيستمع إليها وقد تملكه هذا الإحساس الحزين الكئيب من رحلته فوق الصحراء وأمواه المحيط، هو يستمع الآن إلى نغمتها الحزينة وكأنها احتوت في نبراتها كل ما في الكون من وحشة وانفراد، وتجيء المقطوعة التالية في القصيدة، فتتمم المعنى الذي أحسه الشاعر:
هلا وجدت من يحدثني بماذا تغني؟
فربما فاضت هذه النغمات الحزينة
من أجل ماض سحيق شقي قديم
ومعارك انقضى عهدها منذ زمن بعيد.
ها هنا يعود الشاعر فيثير فيك الرهبة برحلة طويلة أخرى، لكنه هذه المرة لا يرتحل معك في أنحاء المكان، بل يذهب بك قافلا على مدى الزمان؛ فالماضي السحيق الشقي القديم قد ترك نغمته المرة الحزينة، وإذا ما عدت تنصت إلى نغمة الحاصدة وهي تغني، فلا يسعك إلا أن تثقلها بهذا الحزن الجديد الذي اجتلبته معك بعد رحلتك مع الشاعر في الزمان. إن أغنية الحاصدة المنعزلة في حقلها لم تعد أغنية فتاة ريفية تجمع حصادها، بل باتت لحنا يعبر عما في الكون من هم وأسى. إنه يعبر عما تنطوي عليه الحياة البشرية من آلام وأحزان؛ وبهذا كله لم يصنع «وردزورث» أكثر مما يصنعه كل شاعر عظيم، لكنه يعود بهذه المقطوعة الآتية، فيتفرد دون سائر الشعراء:
أم تراني أسمع نغما متواضعا،
نغما لا ينبو بمعناه عن شئون العصر،
فيه ما في الحياة الجارية من ألم وفقد وأسى
مما شهدته الحياة، وما قد تعود فتشهده.
Bilinmeyen sayfa
فبعد أن صنع «وردزورث» ما يصنعه كبار الشعراء، بأن سما بأغنية الفتاة حتى جعله لحنا كونيا يعبر عن صوت العالم بأسره، ويجري بأعمق ما هد قلوب البشر من أحزان، يعود بطريقة نعهدها فيه وحده دون سائر الشعراء، فيرد الأغنية من جديد إلى قلب الفتاة النكرة التي لا نعرف منها حتى اسمها، والتي لم تكن منذ عهد قريب سوى حاصدة منفردة في حقلها، منهمكة في عملها اليومي المألوف، لكن الفتاة يستحيل أن تعود إلى ما كانت عليه بساطة وقلة شأن، فقد تجسدت فيها أخطر جوانب الحياة؛ وإذن فهذه القصيدة في صميمها تقويم جديد لقيم الإنسان، وأسلوب جديد في النظر إلى الإنسان والطبيعة، وإحساس جديد بقيمة الحياة البشرية. إنها كشف لعالم جديد تسوده القيم الروحية، فيصبح فيه الحقير التافه وقد اكتسب قيمة عالمية كبرى. إنها نبوءة بروح الديمقراطية، وسبق للحوادث التي ستتمخض عنها الأيام. فوردزورث في قصيدته هذه يكشف عن تجربة جديدة؛ فلم ير أحد قبله ما رآه، ولم يسمع أحد قبله ما سمعه، ولم يحس أحد قبله ما أحسه، حين طرقت مسمعيه أغنية «الحاصدة المنفردة».
كل قصيدة كبرى هي كشف جديد وتنبؤ وتسلف لحوادث المستقبل وروحه. القصيدة الجيدة تكشف عن آفاق من التجربة الروحية لم يسبق إليها الشاعر، فالشاعر كشاف رائد في دولة الروح. وإذا ما قرأت القصيدة العصماء كنت بمثابة من يمارس تجارب جديدة في عالم الروح، تهتز لها نفسك اهتزازا لا يقل في قوته عن اهتزازها إذا ما أقبل رحالة على إقليم جديد، ووقع بصره فيه على عالم لا عهد له به. تقرأ للشاعر العظيم فكأنك تتابعه في ذلك العالم الروحي الذي كشف عنه الغطاء، وتحيا في التجارب التي أحسها في رحلته التي كشف فيها عن ذلك العالم. والعجيب أن الشاعر لا يكشف لنا الغطاء عن عوالم الروح وكفى، بل يزيد على ذلك أنه يجهزنا بملكات نستطيع بها أن نفهم ونتشرب تلك العوالم، بحيث يصبح جزءا منا يجري في دمائنا. فما جهل الإنسان قط وجود زهرة الأقحوان، يراها في الحقول في غدوه ورواحه، ولكن عينه لم تر فيها قط ما أصبحت تراه فيها بعد أن هداها وردزورث بشعره في الأقحوان. فلئن عجز الإنسان أن يضيف إلى عالم المادة ذرة واحدة، فقد عوضه الله عن هذا العجز خير العوض، إذ أتاح له أن يوسع لنفسه من عالم الروح كيف شاء.
وتلك هي المهمة الكبرى التي على الشعر أن يؤديها؛ فكل واجبه أن يوسع من قدرة الإنسان على أن يمارس في عالم الروح ما لم يمارسه في عالم المادة، فكل قصيدة تجسد تجربة معينة صادفت شاعرا معينا، فلما تبلورت التجربة في وعي الشاعر واستقرت في ألفاظ، كان في مقدور القارئ أن يعيد في نفسه تلك التجربة بذاتها التي صادفت الشاعر في حياته، ومعنى ذلك أن القارئ يستطيع أن يمر خلال الحالة النفسية والشعورية التي مر بها الشاعر، فيحياها من جديد بفضل ما تمتاز به الألفاظ من خصائص، وما الألفاظ هنا إلا بلورات صغيرة تجسدت فيها تلك الحالة النفسية الشعورية، وخصائصها العجيبة التي امتازت بها قدرتها على أن تتحلل من تلقاء نفسها في عقل القارئ، فتخرج ما دس فيها من عناصر الفكر والشعور. وفن قراءة الشعر هو الفن الذي يعين الألفاظ على أداء هذه العملية في ذهن قارئها، عملية التحلل إلى عناصرها المكونة لها. فن قراءة الشعر هو فن تنفذ به إلى معاني الألفاظ كاملة، فلا تكتفي بمعانيها السطحية العامة، بل تستخرج من أجوافها كل الصور والمشاعر التي ترتبط بمعانيها. لو أخرجت من ألفاظ القصيدة محصولها المكنون، ونقشتها في ذهنك نقشا يفرز عناصرها ومقوماتها، ويحلل كيانها؛ فقد قرأت القصيدة قراءة صحيحة. وطبيعي أن يختلف الناس اختلافا بينا في القدرة على استخراج مكنون الألفاظ من معان ومشاعر وصور؛ فكلما ازددت معرفة بالحياة والعالم ازددت قدرة على تعمق الألفاظ واستخراج ما في أحشائها من معنى مدخر. تقرأ - مثلا - هذه الأبيات لأبي نواس يصف الخمر وهي تدار في كئوس من الذهب عليها تصاوير:
تدار علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى، وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
فلا تفهم كل ما في الأبيات من معنى إذا لم تكن قد علمت من تجارب حياتك ومن دراساتك ما الراح، وكيف تكون في كأس عسجدية، وما التصاوير الفارسية، ومن كسرى الذي رسمت صورته في قرارة الكأس، وكيف يدرئ الفوارس المها بأقواسهم لتتخيل الصورة التي رسمت في جنبات الكأس، ثم لا بد لك أن تعلم من صور فارسية رأيتها أو وصفت لك في شكل الثياب الفارسية والقلانس؛ لتتكون في ذهنك صورة حية عن مزيج الخمر بالماء في الكأس، إذ يقول الشاعر إن الخمر في الكأس بلغت جيوب الثياب التي في التصاوير، وكمية الماء تبدأ من الجيوب وتنتهي عند القلانس؛ فكلما ازددت بهذه الأشياء علما ازددت قدرة على استكناه الألفاظ واستخراج الصور المرادة حية ناصعة. وكذلك وردت في الشعر ألفاظ ترددت على ألسنة الشعراء، فاكتسبت طعما خاصا لا يتذوقه إلا من أدمن قراءة الشعر، كلفظة «المها» التي وردت في الأبيات السالفة - مثلا - فليس يكفيك لفهمها أن تفتح المعجم لتعلم أنها الظباء، بل لا بد أن تحاط في ذهنك بكل ما أحاطها به الشعراء من هالة تفيض غزلا واستحسانا، لكن هذه وأمثالها صعاب قليلة لا تحول دون قراءتك للشعر واستمتاعك به؛ فمعظم الفحول من شعراء العالم أجمع يبثون في ألفاظهم وقصائدهم من المعاني ما يكفي رجلا مارس الحياة وحدها وعرف حلوها ومرها، ولو لم يكن له من الثقافة المستمدة من الدراسة وقراءة الكتب إلا قليل؛ فقصيدة «الحاصدة المنفردة» التي أسلفنا لك تحليلها لا تحتاج في فهمها وتذوقها إلى علم وقراءة واسعة، فحسب قارئها إلمام ضئيل بحقائق الجغرافيا، فيعرف صحراء العرب وجزائر الهبريد ومحيطها، ليتابع الشاعر في قصيدته، وكل ما تحتاج من عدة لتستمرئ شعرا كهذا هو القدرة على الشعور؛ لأن القوة الشعرية في ألفاظ هذه القصيدة مستمدة في الأعم الأغلب من عناصرها الشعورية والعاطفية، لا من معانيها المكسوبة بالتعلم وقراءة الكتب، والكلمات الشائعة البسيطة أملأ - في كثير من الأحيان - بهذه العناصر الشعورية والعاطفية، من الكلمات الغريبة التي تحتاج في تحصيلها إلى دراسة ومطالعة. وقد رأيت فيما أسلفناه من مقطوعات شعرية تناولناها بالتحليل والمقارنة أن كلمة «أب» فيها من الشعور والعاطفة أضعاف ما في كلمة «مولى» على ألسنة الصغار.
Bilinmeyen sayfa
ونحب للقارئ الذي يريد أن يستسيغ الشعر ألا يمر على الكلمات السهلة مر الكرام، ظنا منه أنها مألوفة لا تستحق الوقوف الطويل؛ فالألفاظ السهلة المألوفة في الشعر أشد خطرا من الصعبة الغريبة؛ لأن هذه ستضمن لنفسها بصعوبتها وغرابتها وقفة طويلة متروية متمعنة تفيد القارئ في استخراج مضمونها، أما الكلمات السهلة فالأرجح أن يستصغر القارئ شأنها ولا يختصها إلا بأقل عنايته. ونعيد القول بأننا نحب للقارئ الذي يريد أن يستسيغ الشعر ألا يمر على الكلمات السهلة مرا سريعا، فلا بد له أن يطيل الوقوف عند أسهل الألفاظ كما يطيله عند أصعبها وأغربها؛ لأن زلة صغيرة في فهم لفظة واحدة قد تفسد القصيدة كلها. إن ألفاظ القصيدة الجيدة لها حصانة عجيبة تقيها شر القلق الثائر المتعجل، ولها قداسة عجيبة تحتم أن يدنو منها الداني برفق وعلى مهل. وهاك مثالا أبياتا من الشعر في قصيدة للشاعر الإنجليزي «براوننج» عنوانها «ببا ماضية»،
2 «ببا» هذه فتاة إيطالية صغيرة تشتغل عاملة في مصانع الحرير، ولا تستريح من العام إلا يوما واحدا، وجاء يوم عطلتها، فخرجت إلى مجالي الطبيعة تنتقم لنفسها من حبسة الجدران التي تحرج صدرها، وتطبق على أنفاسها طيلة العام، فتجد كل شيء كما تمنته ازدهارا وإشراقا:
العام من الربيع في ريعانه،
واليوم من الإشراق في إصباحه،
والصبح في ساعته السابعة،
وسفح التل مرصع بلآلئ الندى،
والقبرة في طيرانها سابحة،
والدودة البزاقة على الأرض زاحفة.
الله في سمائه،
وكل ما في الدنيا بخير.
Bilinmeyen sayfa
اقرأ هذه المقطوعة مسرعا، يتبادر إلى ذهنك أن بيتيها الأخيرين ضرب من القياس المنطقي، وكأن الشاعر يريد بهما أن يقول إنه ما دام الله في سمائه فالنتيجة أن كل ما في الدنيا بخير، والدليل هو هذه الأمثلة المطروحة: ريعان الربيع وإشراق الصبح ولآلئ الندى ... إلخ، ولو كان الأمر كذلك لكان الشاعر فيلسوفا يدبر عقله في الأمور، ويضع المقدمات وينتزع النتائج، وهنا يتعرض الشاعر لنقدك إن كنت من أصحاب الجدل المنطقي، فستقول إن في هذا القياس مغالطة لأن النتيجة لا تلزم عن مقدماتها؛ فقد يكون الله في سمائه ولا يكون كل ما في الدنيا بخير. لكن «براوننج» في قوله هذا شاعر وليس بالفيلسوف الذي يقرع بالحجة والدليل، ولو أجرى فلسفة على لسان هذه الفتاة الصغيرة العاملة المنهوكة المتعبة لما استحق أن يكون شاعرا؛ فهي في يوم عطلتها أسرعت إلى التل عند شروق الشمس، وراحت في مرحها وجذلها تنقل عينها هنا وهناك؛ لتنهب بهما مجالي الجمال نهبا، فما وسعها إلا أن تغني من فرط السرور: «العام من الربيع في ريعانه، واليوم من الإشراق في إصباحه، والصبح في ساعته السابعة، وسفح التلال مرصع بلآلئ الندى، والقبرة في طيرانها سابحة، والدودة البزاقة على الأرض زاحفة. الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير.» وكل هذه أشياء أدركتها بعينيها إدراكا مباشرا، ولم تستدل على وجودها بقياس العقل والمنطق. هي لا تقول: «إنه الربيع»، لكنها تقول: «العام من الربيع في ريعانه»، كأنما هي في اللحظة الواحدة التي يتم فيها ازدهار الربيع ويكمل، وكل ما في الأرض والسماء والماء والهواء ناطق بأن الربيع في ريعانه. وما البيتان الأخيران «الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير» إلا من قبيل هذه المشاهدات المباشرة التي تراها بعينيها فيما حولها. إنها ترى الله في سمائه كما ترى لآلئ الندى على سفح التل، والقبرة في طيرانها سابحة؛ فإن أردت أن تقرأ أغنية هذه الفتاة، كان لزاما عليك أن تشعر بشعورها، وتنظر إلى الأشياء بعينيها لا بعينيك، فتتأثر بكل القوة التي تأثرت بها حين استجابت لازدهار الربيع وطيران القبرة. وإن لم تحس ما أحسته «ببا» في نشوتها وهي تجيل بصرها في جوانب الطبيعة حولها، فليس لقراءة الشعر عندك من غناء، وليس من الخطر في شيء أن تعود - وقد فرغت من قراءة القصيدة - إلى أفكارك العالية التي لا تدركها فتاة ريفية مثل «ببا»، فلك أن تستعيد كل آرائك ونظراتك السابقة بعد فراغك من القصيدة، فلتلك الآراء والنظرات كل الحق في أن تقف في ذهنك إلى جانب هذه النظرة الجديدة الساذجة التي أحسستها حين شاركت «ببا» وجدانها، لك أن تستعرض تلك النظرات السابقة وهذه النظرة الجديدة قبل أن تكون عن الحياة فلسفتك الخاصة بك، وقد تصل في تلك الفلسفة إلى نتيجة تختلف عما شعرت به ببا، ورغم ذلك كله فأغنية الفتاة لا تقل في صدقها قيد أنملة. هي صادقة بالنسبة إلى الفتاة وبالنسبة إلى اللحظة الزمنية التي قيلت فيها. هي تعبير صادق أمين عما دار في نفسها، ويستحيل على قارئ الأغنية أن يوقن بصدقها إلا إذا قرأها باذلا كل ما يستطيع من جهد وعناية في الوقوف عند ألفاظها لفظة لفظة، يستخرج كل ما فيها من مخزون الشعور، ولا تغرينه سهولتها، وإلا أفلت منه لبها وجوهرها.
سر الفن في قراءة الأدب واستساغته متوقف على شيء واحد، هو فن استخراج المعاني من ألفاظها، بحيث تخرج منها كل مخزونها. وقراءة القصيدة من الشعر ليست عملية نقدية عقلية، فلك أن تعمل فيها عقلك ونقدك على أن يكون لذلك المحل الثاني. ولئن جاز لك أن تقرأ القصيدة لتنقدها بعقلك بعد أن تقرأها لتحس ما فيها من مشاعر، فلا يجوز لك قطعا أن تقرأ قصيدة لتحكم على آراء الشاعر بالصواب أو بالخطأ. إن أردت القصيدة لفنها فليس الشاعر فيلسوفا يبسط رأيا يحتمل الصدق والكذب، لكنه شاعر يحس، وله كل الحق في أن يحس كما يشاء. قراءة الشعر عمل فيه شيء من الخلق والإبداع، فيه هضم لما تقرأ، فلم تقرأ شعرا إذا لم تتثمل ما فيه من مشاعر وتجارب؛ إذ القصيدة من الشعر تعبير عن تجربة مارسها الشاعر، هي سلسلة من المشاعر والمناظر والأفكار، تتولد في ذهن الشاعر عن موقف بعينه، ثم تودع في قوارير الألفاظ لتبقى أبد الدهر متعة لمن شاء أن يفتح هذه القوارير، ويستخرج منها ما استودعته؛ فلكي تقرأ القصيدة من الشعر لا بد لك أن تتناول هذه القوارير اللفظية واحدة بعد واحدة ، فتفرغها في شعورك وتتثمل ما أفرغته في دمائك، وليس من اليسير أن تبعث إلى الحياة تجربة الشاعر التي مارسها ومر خلالها وعاشها وهو ينشئ قصيدته، بأن تعيد في نفسك كل ما تولاه من حالات نفسية ومشاعر، وكل ما طاف بذهنه من مناظر وخواطر، هو لا شك مجهود عظيم أن تفعل ذلك، لكنه مجهود لا يقوم به العقل، وإنما يؤديه الخيال. قراءة القصيدة صورة من صور العيش، ولون من ألوان الحياة. أليست حياتنا الحقيقية سلسلة من ردود الأفعال نستجيب بها لطائفة من مؤثرات نصادفها في ظروفنا المحيطة وبيئتنا التي نعيش فيها؟ ثم أليست هذه البيئة مقيدة بما يضبط الكون من قوانين المادة؟ فإذا جاء الشاعر وخلق لنا بخياله بيئة تحللت من قيود المادة وقوانينها، أفلا يوسع من نطاق بيئتنا التي نعيش فيها، ويهيئ لنا بذلك الفرصة أن نستجيب لمؤثرات جديدة؟ إنه يمدنا في شعره بتجربة لا تقف عند حد، أو بعبارة أخرى يمد لنا من مجال الحياة ونطاق العيش أضعافا مضاعفة، لكنك لن تظفر منه بذلك إلا إذا تناولت القصيدة على أنها حياة ستحياها حينا من زمانك، لا فكرة ستناقشها بعقلك لتميز فيها بين الخطأ والصواب، والجيد والرديء. اقرأها بخيالك لتتمرس بتجربتها أولا، ثم اقرأها بعد ذلك - إن شئت - قراءة النقد والتمحيص. وقراءة النقد نوعان؛ نقد أدبي يسأل: إلى أي حد أجاد الشاعر في قصيدته؟ ومعنى السؤال: هل عبرت ألفاظ القصيدة عن تجربة الشاعر تعبيرا حيا ناصعا مكننا أن نعيد الصور إلى أذهاننا حية ناصعة كما مرت به؟ وفي هذا النقد الأدبي لا يجوز أن تبحث أصدق الشاعر في حكم العقل أم كذب، ولا يجوز كذلك أن تسأل أحافظ الشاعر على قوانين الأخلاق وأوضاع العرف أم خرج عليها؛ فالبحث في صدق التجربة أو كذبها، وفي المحافظة على قواعد الأخلاق أو الخروج عليها، ليس من النقد الأدبي في شيء. وإن شئت بحثا كهذا فذلك هو الضرب الثاني من ضروب النقد؛ فليس ما يمنع أن تعود فتقرأ القصيدة للمرة الثالثة لتحكم على ما ورد فيها - كما تحكم على ما يصادفنا من تجارب الحياة - بالخطأ أو بالصواب، بالفضيلة أو بالرذيلة، بل لك أن تحكم عليها من أية ناحية شئت؛ اجتماعية أو سياسية أو خلقية أو دينية، غير أن ذلك شيء والنقد الأدبي شيء آخر، ولا ينبغي أن تخلط بينهما كما يخلط لسوء الحظ معظم النقاد. فللقصيدة إذن ثلاث قراءات؛ قراءة أولى تعمل فيها الخيال لتحيا في التجربة التي مرت بالشاعر، وقراءة ثانية لتنقدها نقدا أدبيا، والنقد الأدبي مقصور على قدرة الألفاظ التي استخدمها الشاعر على التعبير عما أراد، وقراءة ثالثة لتنقدها في معانيها وآرائها ومذاهبها إن خطأ أو صوابا. على أننا نشترط لهذا النوع الثاني من النقد ألا يكون إلا بعد قراءة القصيدة قراءة من النوع الأول، ليس لك أن تحكم على تجربة الشاعر بالصواب أو بالخطأ إلا إذا عشتها كما عاشها، وتمرست أحاسيسها كما تمرسها؛ ففي قصيدة «ببا ماضية» التي أسلفناها وحللناها لا تستطيع أن تقدر القيمة العقلية لقولها: «الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير» إلا إن تقمصت شعورها بخيالك أولا؛ لترى بعينيها في موقفها هل ثمة ما يبرر لها أن تحكم بذلك أو ليس هناك ما يبرره. ونحب أن نلاحظ لك في هذا الموضع أن القصائد التي أضافت إلى الفكر الإنساني قسطا أوفر إنما أضافت قسطها ذاك لا بما فيها من فكر خالص، بل بما لها من قوة الشعر. قد يقول الشاعر قصيدة دينية، فيزيد بها من ذخيرة العقيدة الدينية، مع أنها لا تسوق في تأييد تلك العقيدة حجة عقلية واحدة، وكل ما يصنعه هو أن يصور شعوره الديني - كما يحسه - تصويرا يتيح للقارئ أن يستعيد في نفسه ذلك الشعور بعينه إذا ما قرأ القصيدة؛ وإذن فالحكم على القصيدة من الناحية العقلية متوقف على قيمتها الشعرية الخالصة. وهكذا ترى أن ألزم ما يلزمك في الشعر هو فن قراءته باعتباره شعرا لا كلاما يساق لبسط رأي أو عقيدة. ونعود فنكرر أن ذلك الفن مرهون بقدرتك على فهم الألفاظ فهما يستخلص لك كل ما تحتويه في جوفها من تجارب ومشاعر وخواطر ومعان، كأنما هي - كما ذكرنا - قوارير مفعمة مترعة، عليك أن تفرغها وتتمثل ما بها. تلك هي السبيل الوحيدة إن أردت أن تتذوق الشعر بكل ضروبه؛ قصيدة كان أو قصة أو مسرحية. ولنتناول الآن بعض الشعر بالتحليل؛ لنرى كيف يفهم إن فتحت مغاليق ألفاظه وانسكب ما فيها.
قال شاعر عربي في هجاء قوم هذا البيت، الذي قيل عنه إنه أهجى بيت قالته العرب:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم
قالوا لأمهم بولي على النار
فتكاد كل لفظة في هذا البيت تدل على الذم والهجاء؛ فكلمة «إذا» تفيد الشرط المؤقت المعين، وتدل على أن الأضياف لا يعتادونهم إلا في الأوقات القليلة. وسين الاستفعال في «استنبح» تؤذن أن كلبهم ليس من عادته النباح، وإنما يقع منه ذلك نادرا لقلة الضيف. و«الأضياف» جمع قلة يفيد عددا أقل من العشرة؛ إذ لا يقصد هؤلاء القوم إلا نفر قليل. وتعريف الشاعر «للأضياف» بأداة التعريف إشارة إلى أنهم أضياف معهودون؛ إذ لا يقصد أولئك القوم كل ضيف لبخلهم. واستنباح الأضياف للكلب فيه دلالة على أن الكلب لا ينبح إلا بالاستنباح؛ لهزاله وقلة قوته من الجوع والضعف. وقد أفرد الشاعر الكلب ولم يجعل لهم كلابا كثيرة؛ احتقارا لهم وتقليلا من شأنهم. وإضافة الكلب إليهم يزيدهم احتقارا وزراية. وفي كلمة «قالوا» دليل على أنهم قوم بغير خادم يقوم على شئونهم، وأنهم يباشرون حوائجهم بأنفسهم. وجعل الشاعر القول يتجه منهم مباشرة لأمهم؛ ليدل على أنه لم يكن هناك من يخلفها من خادمة في إطفاء النار، فأقام الأم مقام الأمة والخادمة في قضاء الحوائج لهم، وهم من الذلة والضعة بحيث رضوا لأمهم هذا المقام. وأنطقهم الشاعر بلفظ البول وهو ممجوج يدل على أنهم جفاة لا يألفون شيئا من مكارم الأخلاق، خصوصا وأن ذلك اللفظ موجه إلى أمهم. وقوله «على النار» دليل على ضعف نارهم لقلة زادهم، فحسبك أن بولة واحدة من امرأة عجوز تطفئها. واستخدم الشاعر حرف الجر «على» النار ، وفي ذلك إشارة إلى أن حرف الاستعلاء مقصود؛ ليتخيل القارئ صورة بشعة منفرة، صورة الأم وقد استعلت النار، تصب عليها بولها لا تبالي تسترا. وقد لخص الأصمعي مواضع الذم في هذا البيت بعبارة أوجز، فقال: هذا البيت أهجى بيت قالته العرب؛ لأنه جمع ضروبا من الهجاء؛ نسبهم إلى البخل لكونهم يطفئون نارهم مخافة الضيفان، وكونهم يبخلون بالماء فيعوضون عنه البول، وكونهم يبخلون بالحطب فنارهم ضعيفة تطفئها بولة، وكون البولة بولة عجوز وهي أقل من بولة الشابة، ووصفهم بامتهان أمهم وذلك للؤمهم.
هذا بيت واحد يريك في جلاء كم تفيد إذا أطلت الوقوف عند الألفاظ تحللها وتستخرج مضمونها ومكنونها، وبغير ذلك لا تظفر من الشعر بغير الوزن الأجوف والنغمة الخاوية. ولننتقل إلى مثال آخر، فنسير مع الدكتور طه حسين بك في سيره «مع المتنبي» وهو يقرأ له لاميته:
ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
فعنده أن الشاعر قد أجرى في القصيدة روحا عذبا غريبا ليس من اليسير وصفه ولا تصويره، ولكنك تحسه إحساسا قويا، بل أنت تقرأ القصيدة فإذا هذا الروح يسبق ألفاظها ومعانيها إلى قلبك، ويشيع في نفسك خفة وطربا، لا تجدهما حين تقرأ أي قصيدة أخرى من قصائد المتنبي. «والغريب أن هذا الروح العذب الخفيف يحتفظ بعذوبته وخفته في القصيدة كلها، ولكنه مع ذلك يتخذ أشكالا، وإن شئت فقل يتخذ ألوانا، وإن شئت فقل يتخذ ألوانا مختلفة، تتباين بتباين المعاني والموضوعات التي يطرقها الشاعر في هذه القصيدة، فهو على عذوبته وخفته حزين شاحب كئيب، يثير في نفسك الحنان والرحمة والألم الهادئ، حين يتغنى الشاعر في هذا الغزل الذي بدأ به القصيدة، فإذا انتهى الشاعر إلى المدح ووصف الموقعة خلع عن هذا الروح العذب الخفيف دائما حزنه وشحوبه وكآبته، واتخذ ثوبا زاهي الألوان إلى أبعد حد، يمسه ضوء الشمس فتضطرب ألوانه، وتتموج تموجا ساحرا، وإذا هو يغلبك على نفسك، وإذا نفسك تتموج معه كما يتموج. والشاعر يصف الحرب وصفا دقيقا، وكانت الحركة النشيطة السريعة أخص ما تمتاز به هذه الحرب ، وهي الجرأة التي لا تسمح بمهل ولا أناة ولا تبيح روية ولا تفكيرا، وإنما هي اندفاع متصل إلى أمام، يزداد عنفه من وقت إلى وقت، ولا يحفل بالمصاعب ولا يقف عند العقاب، وإنما يقتحم كل ما يعترضه ويكتسح كل ما يلقاه، يصعد حين تعترضه الجبال، وينحدر حين ينتهي من القمة إلى السفح، ويعدو حين ينتهي إلى السهل، حركة وجرأة هما أشبه شيء بنشوة النشوان الذي يأتي ما يأتيه عن فرح ونشاط، لا سعة فيهما لتعقل أو تدبر.» «وكذلك فعل سيف الدولة في هذه الحرب، وقد خطرت له فجأة فاندفع إليها من «حران»، لا يلوي على شيء حتى أمعن في بلاد الروم واقتحم ملطية، فلما أراد العودة من درب أرمينية وجد الدرب قد أخذ عليه، وكان خليقا أن يتدبر وأن يقدر أنه قد أخذ من ورائه أيضا، وأن يحتال في اقتحام الدرب، ولكنه أبى أن يضيع الوقت، فكر راجعا في سرعة الطير، واقتحم ملطية مرة أخرى، غير مبال بما كان العدو قد أعد له من أمامه، وبما كان خليقا أن يلحقه من ورائه، ثم انتهى بهذه السرعة الجريئة الغريبة إلى مخرج من بلاد الروم فسلكه، وظن الروم أنه قد انصرف عنهم، ولكنه لم يلبث أن عاد إليهم مرة أخرى، فدمر وخرب وسلب الغنائم والنفوس، ومضى حتى أدرك الفرات واقتحمه اقتحاما على ظهور الخيل، ولم يكد ينتهي إلى آمد ويعلم بعبث الروم حول أنطاكية، حتى خف وأغذ وأخذ الروم عند مرعش وهم قافلون فمزقهم تمزيقا، وأضاف إلى ما كان عنده من الغنائم والأسرى، وأخذ ابن القائد نفسه وعاد مظفرا.» «كان سيف الدولة نشوان قد أسكرته الحرب، فمضى فيها لا يقف ولا يتدبر، وأتيح له النصر، فإذا هذا النصر نفسه يسكر شاعره المتنبي، وإذا هو ينشئ هذه القصيدة صورة دقيقة مطابقة كل المطابقة للأصل الذي أراد وصفه وتصويره؛ فأنت ستحس حين تقرأ هذا الوصف نفس الحركة والنشاط اللذين أحسهما المتنبي حين تبع سيف الدولة في غارته الجريئة السريعة تلك، لا يكاد يطمئن ولا يستقر ولا يستريح.» «وستمضي أنت في قراءة القصيدة كما مضى المتنبي في اتباع سيف الدولة مندفعا من بيت إلى بيت، متنقلا من مقام إلى مقام، صاعدا مع الجيش حين يصعد، ومنحدرا مع الجيش حين ينحدر، ودائرا مع الجيش حين يدور حول العدو، ثم هاجما على الجيش حين يهجم على العدو. ثم إن هذا الروح العذب الخفيف - على احتفاظه بعذوبته وخفته - يخلع هذا الثوب ذا الألوان المشرقة المتألقة إذا فرغ من هذا الوصف، ليتخذ ثوبا آخر ليس شديد التأنق والإشراق، ولكنه حالك بعض الشيء، أو قل قاتم يكاد يمعن في القتوم، لولا أن شيئا من البهجة يترقرق فيه بين حين وحين، وذلك حين يلتفت الشاعر إلى ما وراء سيف الدولة من بلاد المسلمين، وإلى ما حول سيف الدولة من ملوك المسلمين، فلا يرى إلا ذلا وضعة، وإلا خمولا وخمودا، وإلا إقبالا على اللهو وعكوفا على اللذات، وضجيجا وعجيجا لا غناء فيهما ولا طائل منهما في هذا الوقت الذي يجد فيه الجد بين سيف الدولة وعدوه من الروم، فإذا الظفر الذي ينتهي إلى البطولة حينا، وإذا الهزيمة التي تنتهي إلى البطولة حينا آخر، وإذا الثقة بالنفس، والنهوض بالواجب، والاطمئنان إلى الله على كل حال. وإذا فرغ الشاعر من هذا التعريض الحزين الفرح، خلع عن روحه العذب الخفيف ثوبه هذا، فأفاض عليه ثوبا آخر، هو ثوب الفخر بالنفس والاعتزاز بالكفاية الشخصية والبراعة الفنية، وكأنه رضي عن قصيدته وعن فنه بعد أن سمع قصائد الشعراء الآخرين، ورأى فنونهم، وهو ساخط على هؤلاء الشعراء الذين يعجزون عن مجاراته، ويقصرون عن بلوغ غايته، فلا يسعهم إلا أن يسعوا به، ويكيدوا له، ويتألبوا عليه، وهو قد أشرف عليهم وأخذ يرمقهم مزدريا لهم محتقرا لما يقولون ويفعلون. فالمتنبي يبدأ القصيدة بنفسه حزينا مفتخرا، ويختم القصيدة بنفسه مبتهجا منتصرا، ويمنح أكثر القصيدة وخير ما فيها لا لسيف الدولة وحده، بل له ولجماعة المجاهدين معه في سبيل الله، الذائدين عن حوزة الإسلام، وحسب العرب، ولجماعات أخرى من المسلمين ، لاهية عن الجد، ساهية عن المجد، منصرفة إلى المخازي والآثام؛ فالشاعر مغن، والشاعر مادح، والشاعر قاص، والشاعر هاج، والشاعر مفاخر متحمس، والشاعر يجمع أكثر فنون الشعر في هذه القصيدة التي لم تسرف في الطول.»
Bilinmeyen sayfa
قلت لك إن هذه القصيدة عندي أروع ما قال المتنبي لسيف الدولة من الشعر، واقرأ معي بعض أبياتها، فسترى أني لست مسرفا فيما أقول:
ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده
ويخفين بدرا ما إليه سبيل
وما عشت من بعد الأحبة سلوة
ولكنني للنائبات حمول «لماذا بدأ المتنبي قصيدته بهذا الغناء الحزين، وقد عرفناه إذا امتلأت نفسه إعجابا ورضا، يعرض عن النسيب وينصرف عن الغناء ويهجم على موضوعه هجوما لا يبتغي إليه الوسائل، ولا يبسط بين يديه المقدمات؟ ستقول لأنه شاعر يريد أن يتأنق في فنه، وأن يبهر سامعيه، وأن يهيئهم لاستماع ما يقص عليهم من أنباء الحرب، وما سيعرض عليهم من أوصافها، وقد يكون هذا حقا وما أكثر ما يفعل الشعراء هذا! وما أكثر ما يكون أحدهم ممتلئا بموضوعه، شاعرا بأن الناس من حوله ممتلئون بهذا الموضوع، ولكنه مع ذلك لا يسرع إليه ولا يبلغه حتى يدور إليه في أنحاء من الغناء. نعم، ولكني أرى في نفس المتنبي شيئا آخر غير هذا التأنق الفني والترفق الذي يعمد إليه الشعراء، فيها حزن دفين يصدر أحيانا عن نفس الشاعر التي لم تدرك من آمالها شيئا، أو لم تكد تدرك منها شيئا، ويصدر أحيانا أخرى عن حال هذه الأمة الإسلامية التي تبلي فتحسن البلاء، وتجاهد فتحسن الجهاد، ولكنها حيث هي لا تتقدم خطوة، ولعلها تتأخر خطوات. هذه الحرب التي أبلى فيها سيف الدولة كأحسن ما يبلي الأمراء المجاهدون، ماذا أفاد منها المسلمون؟ وماذا أفاد منها سيف الدولة؟ وماذا أفاد منها المتنبي إذا تعمقت الأمر ونفذت إلى حقائق الأشياء؟ المسلمون حيث هم، لم يمدوا حدودهم ولم يؤمنوها من غارة الروم، والمسلمون حيث هم لم تصلح أحوالهم الخاصة، ولم تبرأ سياستهم الداخلية من الإغراق في الفساد، وسيف الدولة حيث هو يظفر اليوم ليستأنف الحرب غدا، وقد ينتصر غدا، وقد تدور عليه الدائرة، لم يأمن بأس الروم ولم يأمن مكر المنافسين، والمتنبي نفسه حيث هو يمدح الأمير اليوم مهنئا كما مدحه أمس معزيا، وقد يهنئه غدا، وقد يعزيه، ولكنه سيظل شاعرا مادحا على كل حال، وهو مع ذلك محسد يكاد له ويؤتمر به، ويدبر له السوء، حياته متشابهة كحياة المسلمين، وكحياة الأمير؛ وإذن فهذه الليالي المتشابهة في الطول، المتشابهة في أنها تبدي له البدر الذي لا يريده، وتخفي عليه البدر الآخر الذي يهواه كل الهوى، ويطمح إليه كل الطموح، ولا يجد إليه مع ذلك سبيلا؛ هذه الليالي المتشابهة التي أمضته، وتثاقلت عليه لتشابهها، لم لا تكون رمزا لهذه الحياة المتشابهة، التي تمض وتثقل بتشابهها؟ لماذا ننظر إلى الشعراء دائما كما ننظر إلى الأطفال وهم يلعبون؟ لماذا نبخل عليهم بأن نظن بهم الرجولة والبطولة أحيانا؟ وأي صفات الناس أدنى إلى الرجولة والبطولة، وأقرب إلى حالة الفن الرفيع من هذا السأم وهذا الضيق بالتشابه حين يتصل ويطول؟ أحق أن هذا البدر الذي تخفيه الليالي على المتنبي هو صاحبته هذه التي يزعم أنها ظعنت عنه، وأن الأسباب قد تقطعت به من دونها؟» «لم لا يكون هذا البدر شيئا آخر غير هذه الفتاة الأعرابية التي تحميها الأسنة والرماح؟ لم لا يكون هذا البدر رمزا لهذه الآمال النائية وهذه الهموم البعيدة التي تاقت إليها نفس الشاعر منذ أحس الحياة، وقدر على النشاط، والتي أنفق من حياته دون أن يبلغها أو يدنو منها؟» «لو أنك سالت المتنبي نفسه عن هذه الليالي المتشابهة في الطول والعقم، وعن هذا البدر الخفي العزيز، لما أجابك بغير ما يقول الناس؛ فهو شاعر يتغنى، وهو إنما يجيد الغناء ويبرع فيه؛ لأنه يتغنى بما لا يحققه، ولا يحيط به علما.» «فجائز بل مرجح أن يكون المتنبي بعيدا كل البعد عن أن يفكر في هذه المعاني التي أشرت إليها وأفضت فيها، ولكنه مع ذلك يتغنى هذه المعاني نفسها؛ لأنه شاعر، وأبرع الشعراء من عرض لما يفوته من مطالب الفن، فتعلق بأذياله وطار في أثره، دون أن يبلغه أو ينتهي إليه.» «كل هذا أفهمه من هذه الأبيات الثلاثة الحزينة التي بدأ المتنبي بها قصيدته، وما يعنيني أن يكون المتنبي قد أراد هذا أو لم يرده؛ فأنا لا أطلب من الشاعر أن يفهمني ما أراد حقا، وإنما أريد من الشاعر البارع - كما أريد من الموسيقي الماهر - أن يفتح لي أبوابا من الحس والشعور، ومن التفكير والخيال، وما أشك في أن المتنبي قد وفق إلى هذا التوفيق كله من هذه الأبيات ...» إلخ.
3
هكذا يجب أن تقرأ الشعر في تدبر وأناة، فتتابع الشاعر في كل ما دار بنفسه أو جال في خاطره بحيث تمارس تجربة نفسية مارسها الشاعر، وتحيا حياة عاشها الشاعر، أيا كانت تلك التجربة وأيا كانت تلك الحياة. فليس شرطا لازما أن يصور لك الشاعر في قصيدته تجربة فيها المشاعر سامية، والخواطر عالية، والحياة فاضلة، والآمال كبار، بل ربما صور لك الشاعر في تجربته خواطر سفاك للدماء، ومشاعر شرير خبيث، يكيد للناس ويتربص بهم الدوائر. فسواء لدينا نحن قراء الشعر أصورت القصيدة ملكا رحيما أو شيطانا رجيما، ما دامت الصورة ناصعة معبرة تتيح للقارئ أن يتقمص مشاعرها كأنه انقلب ساعة القراءة ذلك الملك الرحيم بعينه أو هذا الشيطان الرجيم. نعم يصح لنا أن نؤثر القصيدة التي تعلو بالنفس على زميلتها التي تصور الشر إن تساوت القصيدتان في جودة التصوير، ولكننا لا نبيح هذا التفضيل بحال من الأحوال لو أجادت الثانية أكثر مما أجادت الأولى؛ إذ القصيدة الجيدة من الوجهة الفنية - حتى وإن عالجت موضوعا تأباه الأخلاق - خير ألف مرة من القصيدة الرديئة من الوجهة الفنية وإن عالجت الفضيلة والأخلاق الكريمة. وإنك لتجد من قادة النقد الأوروبي من يزعم - وربما صدقوا فيما يزعمون - أن الجودة الفنية في القصيدة أعظم شأنا وأكثر خطرا - حتى من الناحية الخلقية نفسها - من موضوع القصيدة أفضيلة هو أم رذيلة. فهذا رأي أخذ به «شلي» الشاعر الناقد الإنجليزي الذي توشك ألا تجد في تاريخ العظماء أصفى منه عقلا، أخذ به في مقالة طويلة كتبها دفاعا عن الشعر، هي من أعظم ما جادت به قريحة، وجرت به يراعة، في الدفاع عن الشعر. وهو في هذه المقالة الرائعة يحتج بأن كافة الشرور، وما يصيب المجتمع منها بوجه أخص، إنما نشأت عن سبب رئيسي واحد، وليس ذلك السبب في أخلاقنا، ولا هو في عقولنا، ولا في نظامنا الاقتصادي. إن منازل الفقراء الوبيئة قائمة بيننا، لا لأن الكثرة الغالبة من الناس يجهلون قيامها، ولا لأن تلك الكثرة تود أن تبقي المنازل الوبيئة ساعة واحدة، إنما قامت تلك المنازل بيننا وستظل قائمة؛ لأن من لا يسكنها لا يشارك ساكنيها الشعور مشاركة وجدانية كاملة. من هم خارج بيوت الفقراء القذرة الوبيئة لا «يشعرون» بما يشعر به من هم داخل تلك البيوت من فقراء؛ ولذلك استحال عليهم أن يحسوا مثل آلامهم إحساسا حقيقيا. فلأن تشارك غيرك وجدانه مشاركة كاملة، وتشعر بشعوره شعورا حيا قويا، يقتضيك لا أن تقف مثل موقفه فحسب، بل أن تصب نفسك صبا في إهابه لتجري فيك دماؤه، وتسري فيك مشاعره وآلامه. ولئن استحال ذلك بالصورة المادية، فهو ممكن بقوة الخيال؛ فكلما ازداد الإنسان قدرة على أن يضع نفسه بخياله في جلد غيره ليشعر مثل شعوره، كان أقرب إلى المشاركة الوجدانية الكاملة. وإذن فالمشاركة الوجدانية - التي هي ملاط المجتمع وبغيرها لا يكون إصلاح - تعتمد قبل كل شيء على قوة الخيال، ومهمة الشعر الأولى - بل الوحيدة - هي أن يخاطب في الإنسان خياله. الشعر لا يخاطب القوة العاقلة، بل يتجه فينا إلى الملكة التي تتقبل الفكر والشعور في آن معا، ملكة الخيال. الشعر يقوي فينا تلك الملكة التي تمكننا أن نصير - ولو مدى لحظة قصيرة - أشخاصا غير أنفسنا. وسواء أصرنا بفعل الشعر وقوة الخيال ملائكة أو شياطين، فحسبنا أن تكون لنا بفضل الشعر هذه القدرة التي ننقلب بها هذا الشخص أو ذاك، ساعة من زمان لنشعر بشعوره، فنألم لألمه أو نسر لسروره . لو أكسبك الشعر هذه القدرة العجيبة فقد أدى مهمته الكبرى، ولا عبرة بعد ذلك أكانت وسيلته إلى هذه الغاية أن يلبسك ثوب «إياجو» القاتل أو «دزدمونا» الملائكية الرقيقة. فليضعك الشعر في إهاب من شاء من صنوف البشر، إن كانت النهاية أن تظفر بالقدرة على مشاركة غيرك في وجدانه. إن ما يهمنا من الشعر أن يكون شعرا، ولا نزن بجناح بعوضة موضوع الشعر الذي يعالجه، وإنما يهمنا الشعر لذاته؛ لأننا لا نرى وسيلة للإصلاح الخلقي والاجتماعي سوى أن يشعر الفرد بشعور غيره، ولا تتحقق تلك الوسيلة إلا بقراءة الشعر قراءة صحيحة.
الفصل الثاني
Bilinmeyen sayfa
النقد الأدبي
عالجنا في الفصل الأول كيف نقرأ الشعر لا كيف ننقده، ونعود فنذكرك أننا نقصد بالشعر في هذا الكتاب كل ضروب الأدب؛ قصائد الغناء والملاحم والقصص والمسرحيات، ولعلك تذكر أننا فرقنا بين قراءات ثلاث؛ قراءة الشعر قراءة فيها خلق وإبداع، نعيش فيها بخيالنا مع الشاعر في تجاربه وخوالج نفسه، وقراءة نقدية نتبين فيها مدى نجاح الشاعر وتوفيقه في رسم الصور، لنرى هل ساقها ناصعة حية ترتسم في ذهن القارئ، بمثل ما ارتسمت في ذهنه وهو ينشئ، أو كان دون هذه الغاية مقصرا عاجزا، ثم قراءة ثالثة ليست بذات خطر، نناقش فيها آراء الشاعر من حيث هي خطأ أم صواب. فأنت إذا ما فرغت من قراءة مجموعة من القصائد قراءة فنية أجرتها في دمائك وأشاعتها في نفسك، أحسست رغبة في مقارنة تلك القصائد إحداها بالأخرى لتعلم أيها أقوم، وهذه ما نسميها بالقراءة «النقدية»، وهي ما تزال - كالقراءة الفنية الأولى - تنظر إلى الشعر شعرا خالصا، وليست تعنى في كثير أو قليل بالبحث في قيمة القصيدة الخلقية والفلسفية. فسواء لديها أجاءت القصيدة حافزة على الفضيلة أو داعية إلى الرذيلة، وسواء أكانت مصيبة الرأي أم كانت في رأيها على ضلال؛ فالنقد الأدبي معني بصورة الشعر دون موضوعه. النقد الأدبي كما نفهمه - وكما نريد لقرائنا أن يفهموه - من شأنه أن يحلل وقع القصيدة في نفس قارئها، ثم يتعقب عناصر القصيدة ومقوماتها ليرى بأي هذه المقومات والعناصر أحدثت القصيدة ما أحدثته من أثر. ولهذا النقد الأدبي - أو إن شئت فقل لهذه القراءة النقدية للشعر - قيمة كبرى؛ لأنها - وقد كشفت لنا عن عوامل التأثير في القصيدة - تزيد من تقديرنا للقصيدة بنقل خصائصها من اللاشعور إلى الشعور؛ فقد تأثرنا بها في القراءة الأولى بغير عقولنا، وأعجبنا بها ونحن في ذهول عن وعينا، وها نحن أولاء نسلط عليها العقل والقوة الواعية حين نقرؤها للمرة الثانية قراءة النقد والتحليل، في هذه القراءة النقدية نستكشف عن وعي وشعور قوة هذا اللفظ وأثر تلك الصورة، وسنجد بعد الكشف ظلالا لطيفة دقيقة في الصور والألفاظ كانت قد غابت عنا في القراءة الأولى؛ لأننا كنا بسحر الوقع في شغل عن الأجزاء، ولكن لا يغيبن عن ذهنك أن القراءة «النقدية»، لا بد أن تسبقها قراءة «إبداعية» تتم بقوة الخيال وحده، تتابع فيها الشاعر بخيالك أنى سار؛ فيخفق قلبك إذا خفق، وتحزن إن حزن وتنتشي إذا انتشى، ولا تتلكأ من دونه لحظة لتنظر إلى هذه اللفظة أو هذه الصورة ما أثرها وما خبرها؛ فتلك مهمة القراءة الثانية، قراءة النقد، ثم لا يغيبن عن ذهنك أيضا أن القراءة النقدية قيمتها في نسبتها إلى القراءة «الإبداعية»، فليست بذات شأن في ذاتها، إنما كل القيمة وكل الشأن للقراءة التي نعيش فيها مع الشاعر، فهي المبدأ والمنتهى، وما قراءة النقد إلا وسيلة تزيد من تلك القراءة الإبداعية الأولى قوة وأثرا.
وإذا ما أخذ رجال النقد في مهمتهم، وطفقوا يقرءون الشعر ليحللوه، ويردوا كل أثر له إلى عناصره، تحتم عليهم أن يتواضعوا على أسماء يطلقونها على فنون الشعر وصوره؛ فهذه «ملحمة» وتلك «قصيدة غنائية» وثالثة «نشيد»، وهذه الخاصة في الشعر نسميها «بحرا»، وتلك الطريقة في التعبير نطلق عليها «استعارة» أو «تشبيها»، ولنسم هذا الاتفاق في أواخر الأبيات «قافية»، وهكذا وهكذا حتى بلغت هذه المصطلحات وأشباهها ألوفا. ولما كانت غايتنا في هذا الفصل أن نشير في اختصار إلى أهم المسائل التي اجتمعت عليها آراء الناقدين، كان لزاما علينا أن نتكلم بلغتهم ، وأن نقدم للقارئ أشيع المصطلحات التي يستخدمها رجال النقد في كلامهم.
الأدب كله فن وتعبير، فلكل كاتب طريقته في إخراج معانيه، وتلك الطريقة الخاصة في إخراج المعاني هي ما نسميه «أسلوبا». وقد يبدو للوهلة الأولى أن الأساليب مهما اختلفت وتباينت؛ فمقياس الحكم لها بالجودة أو عليها بالسوء واحد لا يتغير، وهو قدرة الأسلوب على التعبير الكامل ما دامت مهمته الأولى أن يعبر؛ فالأسلوب الجيد هو ما استطاع أن يعبر عما يريد إخراجه من خلجات الشاعر تعبيرا يكون له أعمق الأثر في نفس السامع أو القارئ. «فاثنان واثنان أربعة» مثال للعبارة وقد بلغت بتعبيرها حد الكمال؛ لأنها لم تبق في نفس القائل شيئا، ولم تترك أمام القارئ أو السامع مجالا للبس والغموض، ذلك ما قد يبدو للوهلة الأولى، والواقع أن تقدير الأسلوب الجيد ليس مسألة هينة تعتمد على أساس علمي واضح، كما يدل عليه هذا المثال. نحن نسلم بالمبدأ ونقر ببساطته؛ فأجود الأساليب هو أبلغها إحاطة بما يراد قوله، لكن الصعوبة تبدأ حين نتساءل: ما الذي يراد قوله لكي نرى هل أداه الأسلوب أداء حسنا أو لم يؤده؟ فبديهي أنك لا تستطيع الحكم على وسيلة إلا إذا عرفت الغاية، فلا حكم على الأسلوب إذا لم تعرف «المعنى» الذي خلق ذلك الأسلوب لأدائه. ولقد رأينا في حديثنا عن الألفاظ أن الكلمة فيها - إلى جانب معناها العقلي - حشد عظيم من دقائق الشعور قد يهتز لها كياننا كله، وفي هذه الدقائق يختلف المعنى من شخص إلى شخص؛ إذ قد تثير فيك اللفظة المعينة من الذكريات ما لا تثيره في سواك، لكن في الحياة جوانب أخرى نستجيب لها بعقولنا وحدها، ولا دخل لشعورنا فيها، هي هذه الجوانب التي يبحثها العلماء والرياضيون، كتركيب الهواء وزوايا المثلث وتشريح الزهرة وتحليل الشعاع وما إلى ذلك من حقائق، الناس كلهم إزاءها سواء؛ فإذا ما تحدث في شأنها متحدث تكلم بعقله ليخاطب سائر العقول، وهو إذ يتكلم لا يكون إلا فردا من الجنس البشري يوجه الكلام إلى العنصر المشترك في سائر الأفراد، هو لا يدخل جانبه الشخصي في كلامه، ذلك الجانب الذي يتميز به الأفراد بعضهم من بعض؛ فالعقول في الناس كلهم تنظر إلى الأمور من وجهة واحدة، أما المشاعر فمختلفات، لكل فيها وجهته وشخصيته؛ ومن ثم كان التعبير العلمي يقوله هذا، هو نفس التعبير يقوله ذاك، ويقوله ألوف الناس من أقصى الأرض إلى أقصاها، لا سبيل إلى خلاف بينهم فيه. ولعل ذلك ما حدا بالعلماء أن يؤثروا الرموز على الألفاظ، فرمز كهذا «ا
2 » معناه واحد، لا يختلف قيد شعرة عند أهل الأرض جميعا، في هذا الزمان وفي سائر الأزمان، لكننا لا نستجيب بعقولنا المشتركة وحدها إلا لرموز علمية كهذه، أما ما خلا ذلك من صنوف الكائنات التي تعد بالألوف وألوف الألوف، فإنما نستجيب لها بكل كياننا؛ ومن هنا كانت استجابتي للشيء هي استجابتي وحدي دون سواي، أختلف فيها عما يستجيب به كل إنسان خلاي، بمقدار ما تختلف طبائعنا ومشاعرنا بعضها عن بعض؛ فقد تجد الرجلين يتحدثان فيما يبدو لك أنه شيء واحد، وإذا الحديثان يختلفان، وإذا وجهتا النظر لا تلتقيان، وإذن فهما يتحدثان في حقيقة الأمر عن شيئين، ما داما ينظران إلى الشيء من وجهين، أو ما دام للشيء الواحد في نفسيهما أثران مختلفان؛ فإذا أراد كاتب من هذين أن يعبر عما في نفسه فماذا هو صانع؟ لا بد له أن يعبر بشيء نفهمه جميعا، ثم يضيف إليه أو يلونه ويصبغه بلون نفسه وصبغة شخصه. وعلى كل حال لا بد لأسلوبه - إذا ما أراد التعبير عما في نفسه إزاء الشيء المعين - أن يخرج مكنون نفسه، ويفصح عن حقيقة حسه، مهما يكن في ذلك من ضروب الخلاف بينه وبين سائر الناس. ولعل هذا ما نريده حين نقول «الأسلوب هو الإنسان»، وفي هذه العبارة وحدها ما يدل على استحالة أن نقيم ميزانا دقيقا نفرق به بين الأساليب، فنقول هذا أسلوب من الطراز الأول، وذاك أسلوب من الطراز الثاني وهكذا؛ إذ يستحيل علينا أن نتبين ما يريد الكاتب أن يفصح عنه إلا خلال لمحات شخصية دقيقة ينثرها في أسلوبه هنا وهناك، والتفرقة بين العناصر الشخصية عسيرة صعبة، أو هي ضرب من المحال. ولكن ما لنا ولهذه المشكلة التي ربما انحدرت بنا إلى مسألة عويصة معقدة، وقد أخذنا أنفسنا منذ البداية أن نقف في أمورنا مع أوساط الناس، وسنجد في ذلك ما ينفع ويفيد؛ فلئن كانت أساليب الناس تختلف باختلاف طبائعهم وأشخاصهم، فلا شك أننا نستطيع رغم ذلك أن نلتمس مميزات عامة وخصائص مشتركة تقسم لنا أنواع الأساليب أنماطا وطبقات، ثم نستطيع أن نتبين عناصر تلك الخصائص والمميزات لكي نرى على أي نحو تعمل على جودة الأسلوب؛ أي أنه في مقدورنا - رغم الصعاب كلها - أن نحدد الصفات التي تجعل الأسلوب أداة جيدة للتعبير عما يريد كاتبه أن يعبر عنه.
لو كان غايتك أن توضح فكرة توضيحا محدودا جليا، لكان الأسلوب المثالي في التعبير هو صيغ الجبر وما إليها من رموز الرياضيين والعلماء، وإن أردت بالقول أن تقيم برهانا وتقرع حجة ثم لا شيء بعد ذاك، كانت طريقة إقليدس في التدليل على مسائل الهندسة خير نموذج يحتذى، تريد بكل لفظة غرضا معلوما ومعنى محدودا، ولا تجيز لنفسك أن تضع كلمة تزيد عن حاجتك، وتأخذ نفسك أخذا لا هوادة فيه في بناء الجمل والفقرات بناء منطقيا، تتابع فيه المقدمات والنتائج، لكن ذلك الأسلوب أدخل في باب العلم منه في باب الأدب؛ فلئن طالبنا الأديب - كائنا ما كان فنه الذي يكتب فيه - أن يعنى في تعبيره بمثل هذا الوضوح النافع، فلا بد أن نجيز له إلى جانب ذلك أن يخاطب بأسلوبه شيئا غير العقل، وأن يصطنع في سبيل ذلك شيئا غير الترتيب المنطقي الصارم للجمل والفقرات.
نعم قد تجد من أمراء البيان من يستخدم الأسلوب المحدد الواضح الذي يخاطب العقل قبل أن يخاطب ناحية أخرى من قارئه؛ فهذا هو «سوفت» صاحب «رحلات جلفر»، يصطنع هذا الأسلوب الذي قوامه مادة وعظام، تلتمس فيه شيئا من طراوة اللحم أو نبضات الدم فلا تجد، وإنما اختار لنفسه هذا الأسلوب ؛ لأنه خير وسيلة تعينه على أداء غرضه المقصود، لكن ما كل كاتب هو هذا، وليست أغراض الإنشاء كلها شبيهة بما كان يرمي إليه هذا الكاتب، فالكثرة العظمى من أرباب الأقلام تنشد التأثير في قرائها عن غير طريق المنطق، أو قل إنها تستخدم المنطق في نطاق ضيق محدود. وهذا هو «أدسن» الذي عاصر «سوفت» في أوائل القرن الثامن عشر، والذي برع في المقالة الأدبية براعة طارت بذكره في الخافقين، تراه يكتب في سبيل غاية نفعية، يكتب ليصلح، فيناشد في قرائه عقولهم ليسوق إليها الحجة المقنعة والدليل الناهض، وذلك بأسلوب تستطيع أن تسلكه في عداد الأساليب المستقيمة البسيطة العلمية، لكنه إلى جانب ذلك يريد أيضا أن يأخذ على قرائه مشاعرهم، وأن يثير فيهم العواطف الإنسانية التي يعهدها كل إنسان في نفسه. فهذا - إذن - ضرب آخر من الأسلوب يخاطب العقل والشعور جميعا؛ من أجل هذا تراه يتأنق في أسلوبه ليخرجه خفيفا رشيقا سلسا مستساغا، فاستطاع بذلك كله أن ينفخ الحياة في نثر يستخدم في التعبير عن ضرورات الحياة على نحو ما تلاقينا يوما بعد يوم وساعة في إثر ساعة. ودع هذين الكاتبين بأسلوبيهما المختلفين، وانظر إلى خطيب يبث الحماسة في الجماهير، أو واعظ اعتلى منبره ليهدي من في قلوبهم زيغ أو ضلال، أو محام وقف أمام القضاة يدفع تهمة ويستدر عطف القضاة على صاحبه المتهم. انظر إلى هؤلاء جميعا تجدهم - في الأعم الأغلب - لا يقصدون إلى إقناع بالحجة والبرهان، بل يريدون التأثير بالاستمالة، والاستهواء واللعب على أوتار العواطف، هم يخاطبون الشعور ولا يخاطبون العقل، يتجهون إلى القلب ولا يتجهون إلى الرأس؛ ولذلك كان من خصائص الأسلوب الخطابي الجيد أن يستخدم الصور ليفتن بها نواظرنا، والألفاظ الفخمة الرنانة التي تزلزل الأرض تحت أقدامنا. ومن خصائص الأسلوب الخطابي الجيد أن يكثر من المحسنات لعله يتحكم في الأفئدة، ولو جاء ذلك على حساب العقول. انظر إلى «ملتن» في خطابه المشهور الذي وجهه إلى نواب الأمة دفاعا عن حرية الكتابة وقد خنقوها حين كموا أفواه الكاتبين بقوة القانون، تر الخطاب قد كسب المعركة واستولى القلوب، مع أنه واهي الحجة ضعيف البرهان، وإنما نجح الحطاب بالعاطفة الملتهبة التي سرت في ألفاظه فأشعلت شعور السامعين أو القارئين، لا بما فيه من قوة الإقناع، أو بما أعوزه من قوة الإقناع بتعبير أصح. إنه خطاب تتمثل فيه فصاحة القول بأجلى معانيها، و«الفصاحة»
1
في عرف النقاد هي أن تدور بالحديث حول الموضوع ولا تمس قلبه وصميمه.
وهكذا تستطيع أن تمضي في التفرقة بين الأساليب، وبيان ما يجود كلا منهما؛ فللصحافة أسلوب، وللتاريخ أسلوب، وللرسائل أسلوب وهكذا، وفي كل نوع من هذه الأساليب فروع وضروب تميز بينها فواصل وفروق. خذ أعلام القصة تجد لكل أسلوبه الذي يلائم غايته. وهل يسع قصصيا مثل «مردث» يصور طائفة من الرجال والنساء امتازوا بالثقافة العالية والحياة المتحضرة، إلا أن يستخدم الصنعة في أسلوبه، فيكون تناسب بين صنعة الأسلوب وتلك الحياة التي أخرجتها الحضارة والثقافة عن طبيعتها؟ أم يسع قصصيا مثل «هاردي» اختار من الحياة لونا جادا مستقرا ثابتا، إلا أن يقيم أسلوبه من لبنات راسخة راكزة، كأنما هي عمد يبني بها بناء أشم يطاول في ثبوته رواسخ الجبال؟ فجاءت عباراته رصينة دسمة واضحة محددة، تقع من موضعها في أنسب مكان يلائم البناء. وكما يختلف القصصيون يختلف كتاب المقالة وسائر فنون الأدب.
Bilinmeyen sayfa
فبين كتاب المقالة فروق شاسعة، حتى ليعجب الإنسان كيف تجتمع كلها تحت صورة واحدة من صور الأدب. فهل تجمع هذه الصنوف المتفاوتة من المقالة الأدبية صفات مشتركة إلى جانب اشتراكها في القصر؟ هذا سؤال تقتضي الإجابة عنه عودة إلى الأساليب الأدبية وخصائصها، فيجمل بنا أن نعرج حديثنا على أدب المقالة؛ ليكون حديثنا عن الأسلوب متصلا، ولو أن ذلك سبق لترتيب الكتاب؛ إذ الكلام في الصورة الأدبية له في الكتاب موضع آخر.
لقد تواضع رجال النقد على أن يطلقوا كلمة «مقالة» على كل ضروب الكتابة النثرية، إن قصر طولها وعالجت موضوعا واحدا (وقد تكون المقالة نظما، ولذلك أمثلة قليلة)؛ ولهذا كان مدى التفاوت بعيدا جدا بين مختلف صنوف الإنشاء التي تقع تحت هذا الاسم؛ فالبحث العلمي القصير مقالة، كالرسالة العلمية التي كتبها «لوك» عن طريقة اكتساب الإنسان للمعرفة، وأطلق عليها «مقالة في العقل البشري». والقطعة الأدبية الفنية مقالة، ومثال ذلك مقالات «لام»، وهذا النوع من المقالة لا يضيف إلى العلم الإنساني علما جديدا، ولا يقدم للقارئ معرفة، إنما يقصد إلى إمتاعه ولذته بما فيه من فن جميل. وبين هذين الطرفين - المقالة العلمية من ناحية، والمقالة الأدبية من ناحية أخرى - تتفاوت المقالات درجات في دنوها من هذا الطرف أو ذاك؛ فمنها ما هو إلى العلم الخالص أقرب، ومنها ما هو إلى الفن الخالص أدنى، ومنها ما يجمع الغايتين في آن معا. فإن كان «لوك» مثالا للفريق الأول، و«لام» مثالا للفريق الثاني، فخير مثال نسوقه للفريق الثالث «ماكولي» الذي يحاول في مقالاته أن يكون مؤرخا علميا يتوخى الحق وصدق الرواية، وأن يكون فنانا في ألفاظه وعباراته في وقت واحد، يحاول ماكولي بأسلوبه ما يحاوله الخطيب، يظهر للناس كأنما هو يدير القول في موضوع عقلي منطقي، لكنه رغم ذلك لا يرجو أن يؤثر عليهم بحجته ودليله بقدر ما ينفذ إلى قلوبهم بقوة العبارة وحسن البيان؛ وبهذا المقياس نفسه نستطيع أن نقدر الكثرة الغالبة من المقالات الأدبية، لولا أننا نجد المقالة عند «لام» لا تخضع لهذا المقياس؛ فبأي معيار نقيس أسلوبا كالذي نراه في مقالات «لام»؟ لن نجد معيارنا إلا إذا استعرضنا تاريخ المقالة الأدبية؛ فقد يعيننا هذا العرض التاريخي على فهم طبيعة هذا الفن الأدبي، فكثيرا ما يكون الكشف عن مراحل التطور وسيلة تلقي ضوءا على طبيعة المتطور وقوامه. فما «المقالة» التي نسلكها في عداد الفنون الجميلة، والتي ليست من قبيل البحوث العلمية؟ «المقالة» التي تكتب لذاتها ولا يقصد بها أداء معنى وراءها؟
يقول مؤرخو الآداب إن الكاتب الفرنسي «مونتيني» هو رب المقالة ومنشئها في القرن السادس عشر، بعد أن لم تكن، وقد كان «مونتيني» وهو يكتب مقالاته عالما بأنه ينشئ شيئا جديدا لم يسبقه إليه أديب آخر ، فقد أحس في نفسه الرغبة أن يكتب شيئا يختلف في جوهره عما ألف السابقون أن يكتبوه، أراد صورة أدبية، أو قل أراد قالبا أدبيا يصب فيه خليطا من الصفات التي وإن تكن سطحية متناقضة في ذاتها إلا أنها مع ذلك تصوره لأنها قوامه وجوهر كيانه، فليس من شك في أن هذا الفرد «ميشيل مونتيني» يختلف في خليط صفاته، من ذوق وشهوة وعادة وأسلوب في التفكير، عن سائر الناس، وأراد أن يخرج من نفسه عناصره التي تكون فرديته هذه التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، لكن عناصر الشخصية الفردية متباينة لا حد لتباينها، فلا بد له - إذن - من قالب أدبي مرن شديد المرونة، بحيث يسع ما ينطبع على النفس من آثار عارضة، لا بد له من قالب تحتمل حدوده أن يطلق فيها مكنون نفسه الجياشة إطلاقا لا ينقطع ولا تضبطه الضوابط، في ظاهره على الأقل. ستقول: ولماذا لم يعبر عن مشاعره وخواطره في قصيدة غنائية أو قصائد؟ أليست القصيدة الغنائية عند الأدباء وسيلة التعبير عن الذات وما يضطرم فيها من عواطف تميزها وتطبعها بطابع خاص؟ وفاتك أمر خطير، هو أن القصيدة الغنائية تعبر عن الذات تعبيرا يعلو بالذات ويسمو بها، القصيدة الغنائية لا تصور الذات بكل ما فيها من أوجه النقص وأوجه الكمال؛ لأن طبيعة الشعر المنظوم تدعو إلى التسامي، لكن «مونتيني» أراد أن يسكب نفسه بكل ما فيها على القرطاس. إذن فقد أراد للقصيدة الغنائية أن تنثر، أراد قصيدة غنائية تتراخى أوتارها، فكانت له بهذا التحوير «المقالة» الأدبية، المقالة الأدبية في صميمها قصيدة غنائية وجدانية سيقت نثرا لتتسع لما لا يتسع له الشعر المنظوم من بعض عناصر الذات. فإن شئت قانونا يضبط لك «المقالة» من حيث الصورة، فاعلم أنه قدرتها على التعبير عن خوالج النفس في سيرها الذي لا يجري على نظام واطراد. قد تكتنف الأديب حالة نفسية خاصة، فتجري في ذهنه سلسلة من الخواطر المتناثرة التي تتصل بتلك الحالة النفسية السائدة، فتؤثر فيها وتتأثر بها، فإن استطاع أن يصب هذا السيل من الخواطر كما يجري في ذهنه، فقد أنشأ «مقالة أدبية». الخواطر في المقالة الأدبية تتصل بصلات من العاطفة أو الخيال؛ أعني أن خاطرا يلحق خاطرا ويتبعه، لا لأن بينهما علاقة منطقية كالتي تأتي بالنتيجة وراء سببها، بل لأن هذين الخاطرين مرتبطان في خيال الأديب أو متصلان بعاطفته. كاتب المقالة الأدبية يكتب وكأنه يتحدث في سمر حديثا مطلقا من كل قيد، فيدع الخواطر يسوق بعضها بعضا بما بينها من روابط تستدعي تتابعها وتداعيها دون أن يعمل في ذلك عقله ومنطقه لينظم الترتيب والسياق. هكذا بدأ مونتيني أدب المقالة على وجه الصحيح، فجاء من بعده وأخطئوا خصائصها على قرب الزمن بينهم وبينه؛ فها هو ذا «بيكن» - وتكاد شهرته في عالم الأدب ترتكز على مقالاته - يتناول الفن الأدبي الوليد، فيحطم أركانه تحطيما، ويكتب لنفسه مقالة من نوع آخر، فمقالته بحث بغير نظام في موضوع منظم، يسوق الآراء في موضوع مقالته متلاحقة، كأنه يرص خرزات لينشئ منها عقدا، فالخرزات منفصلة ولكنها متعاونة على إنشاء العقد في نهاية الأمر. فليس التعبير عن خصائص الذات وعناصرها ومشاعرها هو كل شيء في مقالة «بيكن» كما كان كل شيء في مقالة «مونتيني»، لكن أعلام «المقالة» في الأدب الإنجليزي «كاولي» و«أدسن» و«جولد سمث» أخذوا بعدئذ يتعهدون هذه الصورة الأدبية الناشئة، ويبرزون خصائصها وصفاتها، حتى جاء «لام» فبلغت به المقالة ذروة الكمال، وعندئذ عادت المقالة الأدبية كما بدأت عند منشئها وخالقها، تعالج الجوانب التي تجعل من الفرد فردا متميزا، وتخرج من نفس الأديب ما يجعلها ذاتا قائمة بنفسها، مختلفة عن سواها. ولم تكن مصادفة أن تنشأ المقالة الأدبية على يدي مونتيني في القرن السادس عشر، حين تحكمت النزعة الفردية في عقول الناس وسادت تفكيرهم، فطبيعي لهذه الفردية الطاغية أن تبحث لها في الأدب عن مخرج تتنفس منه، والمقالة الأدبية خير مخرج لها. ولم تكن كذلك مصادفة أن ينشأ إذ ذاك أيضا أدب التراجم في صورة جديدة، فلأول مرة في تاريخ الأدب كتبت سير الرجال بدقائقها الشخصية وتفصيلاتها الذاتية. فإن كانت الغاية من المقالة الأدبية أن تعبر عن خليط يكون في مجموعه ذاتية الفرد تعبيرا يبعد عن جفاف الحقائق الموضوعية العلمية، ولا يسير وفق تسلسل المنطق، فالأسلوب الجيد في المقالة يجب أن يكون ذاتيا لا ينبني على أساس عقلي، ولا يبسط حقائق موضوعية. فعد إلى قراءة طائفة من المقالات الأدبية، وكلما وجدت الكاتب أدنى إلى من يحدثك عن تاريخ نفسه فيما يكتب، إن رأيته يرسل الخوطر إرسالا هينا، فتستشف منها ما وراءها من حالته النفسية، فاعلم أنه قد أجاد. أما إن وجدته يعالج موضوعا لا يتصل بمكنون نفسه، ويعنى بتنظيمه وتبويبه كما ينظم البحث العلمي، فاعلم أنه عن الجودة بعيد.
إن ما ذكرناه عن الأسلوب يصدق على النثر والنظم؛ فالذي يحدد أسلوب الكاتب أو الناظم عناصر ثلاثة؛ استخدامه لألفاظ معينة تميزه عن سواه، ثم اتباعه لطريقة معينة خاصة به في ترتيب هذه الألفاظ، ثم معالجة موضوعاته على نحو يتفرد به. وهذا العنصر الثالث من العناصر المكونة للأسلوب هو في الحقيقة نتيجة تتفرع عن العنصرين الأولين؛ فيستطيع الكاتب - مثلا - أن يعالج موضوعه بطريقة تقنع العقل بمنطقها إذا هو استخدم ألفاظه ورتبها في الجمل على النحو الذي يحدث صداه في العقل لا في القلب، كما يستطيع الكاتب أن يزيد في إنشائه من الألفاظ المشحونة بالعاطفة، ويرتبها ترتيبا من شأنه أن يحرك الشعور، فيتغير أسلوبه جملة واحدة ويصبح أسلوبا عاطفيا. فكل الفرق بين أسلوب وأسلوب هو في الألفاظ المختارة، وفي الطريقة التي تساق بها هذه الألفاظ، وهذا صحيح في النثر والنظم على السواء. والفرق بين الناظم والناثر هو أن الأول يستخدم الصوت وسيلة للتعبير؛ أي أنه يرتب الألفاظ ترتيبا يحدث رنينا خاصا يكون جزءا من أداة التعبير.
ولا شك أن صوت اللفظ جزء من معناه لو أردت المعنى كاملا؛ فلفظة جميلة الوقع في المسامع تخلع على مسماها لونا من الجمال لمجرد حسن وقعها وجمال رنينها. فلو أسمعت رجلا هذه الألفاظ: ورد وسوسن، وقلقاس وبطيخ، لأدرك من فوره أن اللفظتين الأوليين تدلان على شيئين أجمل مما تدل عليهما اللفظتان الأخريان، وهو لا يحتاج في هذا الحكم إلى رؤية هذه الأشياء؛ لأن في رنين الألفاظ ما يهديه. وما نظن أحدا يقرأ هذين البيتين دون أن يلمس أثر رنين الألفاظ في تكوين المعنى:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
إذن فمن أدوات الشاعر في التعبير أن يستخدم جرس اللفظ، فيحاول أن يحاكي صوت الفعل الذي يصوره في صوت الألفاظ التي ينظمها؛ فقد يكثر مثلا من حروف «الضاد» و«الطاء»، كما في البيت الأول؛ ليدل على الضرب والطعن، وقد يكثر من حروف «السين» و«الصاد»؛ ليدل على الحرير وهكذا، ثم هو يحاول أن يحاكي صوت الفعل الذي يصوره أيضا بنوع البحر الذي يختاره؛ فبحر يصلح للحركة السريعة لسرعة تفعيلاته، وآخر يصلح للحركة البطيئة لكثرة حروف المد في تفعيلاته وهكذا. غير أننا يجب أن نشير إلى ما في هذه المحاولة من خطر؛ لأنها كثيرا ما تعرض الشاعر إلى صناعة تخرج به عن جمال الطبع وحسن السليقة، نقول ذلك دون أن نغض من شأن الجرس في قوة التعبير، ولا ينشأ هذا الأثر من كل لفظة على حدة بوجود تناسب بين صوتها ومعناها، بل من تتابع الأصوات في سلسلة من الألفاظ، وذلك ما نسميه بالوزن، والوزن هو أعظم ما يميز النظم من النثر.
Bilinmeyen sayfa
وللنثر وزن كما للنظم، والفرق في درجته واطراده؛ فقد تجيء في النثر عبارة موزونة على بحر معين تليها عبارة من بحر آخر، تليها ثالثة لا وزن لها. أما في القصيدة فالوزن مطرد منتظم في الأبيات كلها، وليس من شك في أن لهذا الوزن أثره في قوة التعبير، وسنتناول ذلك بشيء من التفصيل فيما بعد. وحسبنا الآن أن نشير إلى حسن وقعه في الأذن، مما يحدث في السامع لذة كالتي تحدثها الأنغام المتسقة أيا كان نوعها ومصدرها؛ فالإنسان مفطور بطبعه على إيثار الصوت الموسيقي المنغوم. والوزن في النظم أنواع تسمى «بحورا»، والعلم الذي يضبط قواعدها يسمى «عروضا». وتجيز قواعد العروض في الشعر الإنجليزي أن يختلف الوزن في أبيات القصيدة الواحدة؛ فقد وجد الناظمون بفطرتهم الموسيقية الموهوبة أنه لو تتابعت مجموعة من الأبيات على أوزان معينة، كونت مجموعة موسيقية جميلة النغم جميلة التوقيع؛ ومن ثم تواضع الشعراء على نظام معين في بناء المقطوعات الشعرية، فهنالك المقطوعة الرباعية التي يتألف بيتاها الأول والثالث من أربع تفعيلات، والثاني والرابع من ثلاث، ويجدون أن هذه المقطوعة تلائم الترانيم، وهنالك المقطوعات السباعية التي أغرم بها «تشوسر»، والتساعية التي آثرها «سبنسر» ونسبت إليه، وهكذا.
وأبيات المقطوعة الواحدة لا تختلف في أوزانها فحسب، بل كذلك في قوافيها؛ ففي الرباعية مثلا تتحد القافية في البيتين الأول والثالث، وفي الثاني والرابع، وفي سباعية «تشوسر» تسير القوافي هكذا (ا - ب - ا - ب - ب - ج - ج) أي أن الأول والثالث قافية واحدة، والثاني والرابع والخامس قافية واحدة، والسادس والسابع قافية ثالثة. وفي تساعية «سبنسر» تسير هكذا (ا - ب - ا - ب - ب - ج - ب - ج وكلها وزن واحد، ثم يجيء البيت التاسع بقافية «ج» ومن وزن آخر) لكن القافية ليست شرطا لازما في هذه المقطوعات؛ فالشعر القديم كله خال من القافية خلوا تاما، وكذلك تخلص من قيد القافية كثير من الشعراء المحدثين. ومن أشهر المقطوعات الشعرية التي تعرف وتتميز بنظام القوافي في أبياتها، المقطوعة الأربع عشرية، وهي تقوم بذاتها وحدة مستقلة - وليست كسائر المقطوعات السالفة تكون أجزاء من قصيدة كبرى - والمقطوعة الأربع عشرية أنواع تختلف باختلاف قوافيها. ولكل من الشعراء الفحول في الأدب الإنجليزي طريقة في تقفية مقطوعة، نخص منهم بالذكر «سبنسر» و«شيكسبير» و«ملتن».
فالشعر في الأدب الإنجليزي يقع من حيث الوزن والقافية في ثلاثة أنواع: (1) الشعر المرسل الذي يجري بغير قافية. (2) وشعر تزدوج فيه القافية، فيكون لكل بيتين متعاقبين قافية واحدة، وتسمى الوحدة فيه بالدوبيت. (3) وشعر تتألف القصيدة فيه من مقطوعات تسير فيها القافية على وجه من الوحدة التي ذكرناها لك منذ قليل.
ولقد آن أن نحدثك عن مهمة النظم بصفة عامة، موضحين القول بالإشارة إلى أنواعه الشائعة، ونحب أن نذكرك بما أسلفناه وهو أن اطراد الأنغام والأوزان في النظم جزء من وسيلة التعبير كالألفاظ نفسها سواء بسواء؛ وما دامت أبحر الشعر وأوزانه أداة يستخدمها الشاعر في التعبير، فلا بد أن نبحثها من حيث علاقتها بالمعنى الذي يراد التعبير عنه.
نستطيع القول بصفة عامة إن الشعر ضربان؛ فالقصيدة إما أن تحكي عن حوادث وأشخاص وأقطار وبلاد، وإما أن تعرب عن الحالة النفسية الداخلية التي تسود الشاعر وهو ينشئها. أو بعبارة أخرى، إما أن تحكي القصيدة عن العالم الخارجي، وإما أن تعبر عن العالم الداخلي عند الشاعر نفسه؛ فأما النوع الأول فنسميه شعرا قصصيا، أما الآخر فهو الشعر الغنائي أو الوجداني. وطبيعي أن يتداخل النوعان؛ فالقصيدة القصصية التي تأخذ نفسها قبل كل شيء بالرواية عما وقع من أفعال وحوادث، قد تفسح المجال آنا بعد آن لهذا الشخص أو ذاك من أشخاصها أن يفصح عن مشاعره على نحو ما تفعل القصيدة الغنائية. وقد تجد قصيدة قصصية مثقلة بعاطفة راويها وعواطف سامعيها والأشخاص والواردة فيها، حتى لتكاد تخرجها العاطفة السارية فيها من نوع الشعر القصصي إلى النوع الغنائي الوجداني، والأغاني الشعبية التي شاعت في العصور الوسطى معظمها من هذا القبيل؛ فالأغنية الشعبية حكاية منظومة مثقلة بالعاطفة. وهنالك نوع ثالث من الشعر لا هو قصصي بالمعنى الدقيق ولا هو غنائي بالمعنى الدقيق، ولكنه يجمع طرفا من هنا وطرفا من هناك، وأعني به المسرحية الشعرية؛ فالمسرحية تقص قصة على غير ما تقصها القصيدة القصصية، فهي ليست قصة في ذاتها تروى لذاتها، إنما هي قصة ينظر إلى حوادثها من حيث هي مؤثرات تفعل فعلها في عواطف أشخاصها ومشاعرهم وحالاتهم النفسية بصفة عامة.
ولكننا نستطيع لسهولة التقسيم أن نقسم الشعر كله إلى النوعين الأساسيين؛ القصصي والغنائي، وإنما يعرف الشعر القصصي عادة باسم فرع واحد من فروعه وهو «الملحمة»؛ لأن الملاحم أقدم ضروب الشعر القصصي ظهورا، وكان الشعر الغنائي أول أمره ينشد ليغنى على قيثارة ، من اسمها اشتق اسم هذا الشعر في اللغات الأوروبية.
2
ولما كانت قصائد الغناء تفيض عادة عن وجدان الشاعر من سرور وحزن وحب وما إلى ذلك، تطور هذا الشعر بحيث اشتمل على كل قصيدة تعبر عن الوجدان ولو لم يقصد بها إلى الغناء.
وهنا نسأل: أي لون من النظم يلائم هذا وأي لون يلائم ذاك، بحيث يجيء التعبير أتم ما يكون كمالا وقوة؟ إن كانت القصة في الشعر القصصي تروي أعمال البطولة السامقة لجبابرة الرجال، أعمالا كان لها شأنها في تاريخ الأمة أو في تاريخ العالم بأسره، فبديهي أن أنسب الشعر لوصفها ما جرى في بحر فخم رصين؛ ليناسب جلاله جلالها، وقد كانت أمثال هذه الأفعال المجيدة أول ما وقعت عليه أعين الشعراء في أقدم العصور، فاختاروها وأجروها فيما نسميه بالملاحم، بأوزان وبحور فيها هذه الرصانة وهذا الجلال؛ فالإلياذة تنبئ عن بطولة «أخيل» و«هكطور» في الحرب الطروادية التي دامت عشر سنوات، وتحكي عن تلك البطولة في شعر يسوده الوقار والجلال ورصانة النغم، وهو مرسل لا قافية فيه، شأنه في ذلك شأن الشعر اليوناني والروماني كله. ولقد حاول شعراء العصور الحديثة أن يجدوا لهذا الشعر القصصي القديم الذي خلفته لنا آداب اليونان والرومان بديلا في لغاتهم الحديثة، فأوشكوا جميعا أن يبوءوا بالفشل فيما حاولوا؛ إذ لم يجدوا قصة فيها كل هذا الجلال الذي رأوه في ملاحم هومر؛ فهذا هو «سبنسر» أراد أن يتخذ الملكة اليصابات، ملكة إنجلترا في عهده، موضوعا لملحمة، لكنه أخرج الموضوع في قصيدته الكبرى «ملكة الجن» فجاءت خلوا من خصائص الملحمة؛ إذ قطع الحكاية أجزاء منفصلا بعضها عن بعض، في كل جزء يعرض بطولة فارس من فرسانه، وحصر اهتمامه وهو يعرض بطولة الفارس في الحوادث الجزئية الباهرة اللامعة التي صادفها الفارس في سيرته، وهو في نظمه لا يتدفق بحيث يخرج القصة كتلة واحدة منظومة، بل قسم قصيدته مقطوعات تجري القوافي على نظام معين عرف باسمه، وأصبحت المقطوعة الاسبنسرية لونا من ألوان النظم في الأدب الإنجليزي؛ في كل مقطوعة ثمانية أبيات مطردة الوزن تنتهي بتاسع طويل يجيء لها كالخاتمة في القطعة الموسيقية، فلا يسع القارئ إلا أن يقف، وهكذا تفككت أجزاء القصة وانتثرت خرزاتها، ولو أن ذلك لم يقلل من جمال الأجزاء. ولقد شبهت قصيدة «ملكة الجن» بقطعة من الحرير الجميل المطرز؛ فهي رقيقة رائعة ناعمة الملمس، لكنها لا تصلح لتخليد العظماء. وهل نخلد أبطالنا الأمجاد وبطولتهم العالية على لوحة من الحرير الموشى؟ إن هذه القطعة إنما تلائمها التماثيل المرمرية الرزينة الرصينة الجليلة الثابتة. وانقضى قرن بعد سبنسر، فجاء «ملتن» وطاف بخياله موضوع عظيم لملحمة عظيمة، قد يكون للناس عامة أجل شأنا من موضوع الملحمة الهومرية نفسها، وهو عصيان الإنسان الأول وطرده من الجنة، واختار له الشعر المرسل أداة فأحسن الاختيار، إذ لا يصلح للملحمة من أوزان الشعر الإنجليزي إلا هذا؛ لأنه يسكب على الموضوع وقارا وجلالا، ويكسبه عظمة ورهبة. أما الشعر المقفى فيكسو الموضوع نوعا من السحر والفتنة دون العظمة والجلال. الشعر المرسل جليل والشعر المقفى جميل، ذلك رزين وقور وهذا فاتن جذاب. إذن قد وفق «ملتن» في اختيار الموضوع والأسلوب معا، ثم زاد على ذلك أنه أجاد في شعره المرسل إجادة لا زيادة بعدها لمستزيد؛ فهو في يده مطرد البناء ثابته، ولا يجعل الكلمة الأخيرة في البيت توحي للقارئ بالوقوف، فيمضي القارئ من سطر إلى سطر كما يمضي في حديثه الموصول، ولكنه استطاع في الوقت نفسه أن يجعل توقيع الكلام على نحو يباين نغمة الحديث المعتاد، بحيث يشعر القارئ بأنه يستمع إلى نغمات موسيقية فخمة تنبعث عن «أرغن» يملأ الجو بألحانه العريضة، وذلك ليوائم بين جلال النغم وجلال الموضوع؛ فوفق «ملتن» توفيقا عظيما، لكنه جوزي بما وفق ثمنا باهظا. فلئن جاء شعره هذا الفخم الجليل الرصين منقطع النظير في التعبير عن مواقف الفخامة والعظمة والجلال، فقد كان ثقيلا وهو يروي أجزاء القصة التي لا تتطلب كل هذه الرزانة والرصانة؛ فمن أجزاء القصة ما يروى عن أفعال دنيوية لا يلزمها جو التفخيم والتعظيم الذي يكون حول حوادث السماء الجسام، فهو مثلا حين يتحدث عن آدم وحواء وهما ينظمان شئونهما العائلية الخاصة، يستخدم أسلوبه العالي نفسه، فيكون أقرب إلى ممثل المهزلة الذي يقطب الجبين ويفخم العبارة في غير موضع للتقطيب والتفخيم. وليس الذنب في هذه السقطات ذنب الشعر المرسل في ذاته، لكنه ذنب «ملتن» الذي لم يغير في أوتاره شدة وارتخاء بحيث يساير موضوعه ويطابق معانيه. ومهما يكن من أمر فما يزال الشعر المرسل أنسب أداة للشعر القصصي لقابليته العجيبة لمسايرة جوانب الموضوع توترا وارتخاء؛ ذلك أن خلوه من القافية يقرب مسافة الخلف بينه وبين النثر، فيستطيع أن يهبط من سماء الشعر إلى شئون العيش الجارية، ثم يستطيع أن يعود فيعلو إلى ذروة الشعور العالي والتأمل الرفيع؛ ففيه وحده هذه القدرة على الصعود والهبوط وفق ما تقتضيه مراحل الموضوع ومواقفه. وهذه الصفة الرئيسية في الشعر المرسل هي التي جعلته الأداة التي لا أداة سواها بين ألوان الشعر في كتابة المسرحيات؛ فالممثلون في المسرحية لا ينبغي لهم أن يتحدثوا على نحو يختلف عن طريقة الحديث في الحياة اليومية اختلافا بينا، على أن تظل لهم القدرة - في الوقت نفسه - على أن يعبروا عن العواطف السامية والأفكار العالية إذا ما اقتضى الأمر، فها هو ذا «هاملت» في مسرحية شيكسبير، يتحدث آونة عن توافه شئونه، ويتأمل آونة أخرى في الحياة، أفيجوز له أن يتكلم بنفس الأسلوب في الموقفين؟ يجب أن يهبط حين يتحدث عن شئون حياته اليومية، ثم يعلو حين يغرق في تأملاته العميقة. والشعر المرسل وحده هو الذي يستطيع أن يحتمل هذا الصعود والهبوط؛ ومن ثم كان السر في عظمته وملاءمته للأدب المسرحي هو هذه المرونة الشديدة التي يتصف بها دون سائر البحور والأوزان. ولقد برع شيكسبير في هذا الشعر المرسل براعة ممتازة أخذت تزداد معه كلما أمعن في إنتاجه وسيطر على فنه، وحسبك أن تقرأ له - مثلا - «رتشرد الثالث» من نتاج المرحلة الأولى، ثم «يوليوس قيصر» من نتاج المرحلة الوسطى، ثم «الملك لير» من نتاج المراحل الأخيرة؛ لتعلم كيف كان هذا العبقري يسير في فن الشعر المرسل بخطوات الجبابرة حتى بلغ به أوج الكمال.
لكن ليس الشعر القصصي الإنجليزي كله شعرا مرسلا، فهنالك بحر آخر يأتي بعد المرسل في صلاحيته للقصص، وذلك هو بحر «الدوبيت»، والدوبيت بيتان على قافية واحدة، يغلب فيهما أن يتألف الواحد منهما من خمس تفعيلات أيامبية، والتفعيلة الأيامبية هي التي تتألف من جزأين يقع الضغط الصوتي على ثانيهما ولا يقع على الأول. وكان تشوسر أول من استخدم هذا البحر في حكاياته المشهورة في القرن الرابع عشر، وهو خير من المقطوعة التساعية الاسبنسرية في سياق القصة؛ لأن الدوبيت الواحد أقل من أن يكون وحدة معنوية مستقلة، فلا تتفتت القصة أجزاء وتتناثر، كما هي الحال في قصة تروى بالمقطوعات الاسبنسرية، التي فيها يقف الذهن وقفة في ختام كل مقطوعة، فلا يتصل حبل القصة. الدوبيت بحر يصلح للقصة؛ لأن وحداته تبدو كأنها الخطوات السريعة التي تخطو بالقارئ إلى الأمام، وكل خطوة فيها من القصر بحيث يتقدم بها القارئ في القصة ولا يتحدد بها اتجاه معين، فيظل الكاتب ممسكا بزمام السير والسياق يوجهه كيفما شاء؛ وإذن فالزوج يتلو الزوج من هذا البحر، يهيئ الحركة التي هي أهم عناصر القصة، وفضلا عن ذلك فإن الدوبيت يميل بطبيعته إلى أن يكون مطردا في انتظام لا يعرف الشذوذ، كأن وحداته قطع متساوية أخرجتها آلة على صورة واحدة؛ فكل وحدة بيتان مقسومان بالقافية إلى نصفين متساويين، وكل بيت تتوازن فيه التفعيلتان الأوليان مع التفعيلتين الأخريين، يتوسطها تفعيلة وسطى كأنها للطرفين بمثابة المحور.
Bilinmeyen sayfa