وقد كانت هذه السفينة الباسلة لا تقل أكثر من مائتي جندي وبحار، بينهم ثمانون مرضى في الفراش، ومع هذا غرق حولها سفينتان بعد قتال دام خمس عشرة ساعة، وعطبت سفن أخرى وقتل فيها خلق كثير، ولم تستسلم قط بل أخذت بالوفاق والمصالحة بين الإعجاب العظيم من العدو بقائدها وسيرتها الفاجعة في جملتها. (3) الطرائف والأجوبة
جمع باكون في هذا الكتيب اللطيف نتفا من مطالعاته الواسعة في الأدب والتاريخ، ونوادر من محفوظاته ومسموعاته التي وردت عليه في بيئته وبيئة ذويه وخاصة صحبه، وسماه بالإنجليزية “A collection of Apothegms” ، وهي كلمة تقابل عندنا معاني كثيرة نطلقها على الطرائف وجوامع الكلم، وما شاكلها من الأمثال السائرة والأجوبة المسكتة، والمأثورات النادرة، واخترنا لها عنوان الطرائف والأجوبة؛ لأنه أنسب العناوين لموضوعها كما سيرى القارئ من هذه المختارات المتفرقة، وهي في رأينا أدل ما كتب باكون على أهوائه وأحاديثه في مباذله، وأدلها من ثم على الناحية الإنسانية فيه، فإذا كان «القانون الجديد» وطوبى الجديدة وترقية التعليم أو المعرفة ترجمان باكون العالم، وكانت مقالاته وفصوله ترجمان باكون الأديب، فهذه الطرائف والأجوبة ولا ريب ترجمان باكون الإنسان، حيث يعيش لنفسه وبين جلسائه ومسامريه، وهي من هذه الوجهة تضم إلى قيمتها الأدبية قيمة أخرى في باب الترجمة له والتعريف بنفسه وهواه.
وقد جمعها من ذاكرته في أواخر أيامه، وأشار في التمهيد لها إلى عناية يوليوس قيصر بجمع الطرائف والأجوبة من قبيلها، كأنه يعتذر من اشتعاله بمثلها، وهي في الواقع من خير ما ترك وأمتعه للقارئ الذي ينشد التسلية أو يستفيد.
وهذه نماذج منها تلم بجميع موضوعاتها وأغراضها، وتنبئ القارئ عما توخاه فيها.
دعت الملكة آن بولين “Ann bulin”
إليها رجلا من حاشية الملك، وهي تساق في البرج إلى الموت، وقالت له: «اذكرني عند الملك وقل له بلساني: إنه كان مثابرا على سنته في الارتفاع بي من منزلة إلى ما فوقها، فقد نهض بي من امرأة بين السيدات عامة إلى رتبة المركيزة، ثم نهض بي من رتبة المركيزة إلى عرش الملكات، وها هو ذا اليوم - إذ لم تبق أمامه منزلة على الأرض يرفعني إليها - قد ثابر على سنته، فتوج براءتي بمجد الشهيدات.» «كان قائد عظيم من قواد فرنسا على خطر من ضياع منصبه الكبير، فلم تزل قرينته بشتى الحيل والوسائل ساعية في خلاصه حتى حفظت له ذلك المنصب المهدد بالضياع، فقال بعض الظرفاء: لقد سحق ولكنه احتمى من السحق تحت قرنين!»
توجه أعضاء المجلس الخاص إلى الملكة اليصابات بكثير من النصائح؛ لتنبيهها إلى مكائد المتربصين بحياتها، وقيل لهم: إنهم قد اعتقلوا أخيرا بعض المجرمين وهو متأهب في شر حال للفتك بها، وأروها السلاح الذي أعده لاغتيالها، ثم أشاروا عليها باجتناب الخروج في ذلك الحرس القليل، الذي تعودت أن تخرج به لرياضتها، فأصغت إليهم ثم أجابتهم قائلة: «إنها تفضل أن تموت ميتة القتلى على أن تعيش عيشة السجناء.»
كانت ملكة هنري الرابع - عاهل فرنسا - حاملا في أوائل حملها، وكان الكونت سواسون يتطلع إلى العرش من بعد هنري الرابع، فكان يقول كلما علا بطن الملكة: إنما هي وسادة! فنمى كلامه إلى الملك فأسره في نفسه حتى أوشكت الملكة أن تضع حملها، ثم استدعى الكونت سواسون وقال له وهو يضع يده على بطنها: ألا تزال تحسبها وسادة يا ابن العم؟ فلم يتلعثم الكونت، بل قال على الفور: «نعم يا مولاي! إنها وسادة تركن إليها فرنسا بأسرها!»
كانت الملكة اليصابات تقول عن أوامرها لكبار موظفيها: إنها كالحلة التي تلبس مستقيمة في جدتها، ثم تتثنى وتسترخي يوما بعد يوم.
زارت الملكة اليصابات منزل السير نيكولاس باكون حامل خاتم المملكة وهي عابرة في طريقها، فقالت له: أيها اللورد! ما أصغر منزلك هذا؟
Bilinmeyen sayfa