والرخاء بركة العهد القديم، أما الشدة فهي بركة العهد الجديد الذي هو طبقة من هداية الله أرفع، ومن وحي الله أوضح وأصفى.
على أنك - حتى في العهد القديم - تسمع من مزامير داود نوح المآتم كما تسمع أناشيد الأعراس، وقد كانت عناية الكتاب بتفصيل محنة أيوب أكبر من عنايته بمتع سليمان.
وما خلا الرخاء قط من محاذر ومشنوءات، ولا خلت الشدة قط من سلوة ورجاء.
وقد نتبين العبرة في مصنوعات الوشي والتطريز، حيث نرى أن الظهارة المفرحة على البطانة القاتمة أسر وآنق من الظهارة القاتمة على البطانة المفرحة، وخليق بهذا أن يطرد في الحكم على مسرة القلوب، كما يطرد في مسرة العيون.
والحق أن الفضيلة كالعطر النفسي أجمل ما يسطع حين يحرق أو يعرك، ومن شأن الرخاء أنه أصلح ما يكون لكشف الخسة والرذيلة، أما الفضيلة والعظمة فلا يكشفهما شيء كالمحنة والبلاء.
الموت
يخاف الناس الموت كما يخاف الأطفال ولوج الظلام، ويزداد خوفهم بالأحاديث والروايات كما يزداد خوف الأطفال.
والتأمل في الموت كأنه «أجرة الخطيئة»، ومجاز العالم الآخر ورع وصلاح، ولكن الخوف منه - كأنه حق على طبيعة الأحياء - جبن وخور.
وقد جاء في كلام رجال الدين عن الموت مزيج من الوهم والغرور، فأنت تقرأ في بعض كتبهم عن صرعات الموت أن الإنسان قمين أن يعرف ما فيها من الألم إذا أصيب في طرف إصبعه، فيقيس عليه ألم الجسم كله حين يعمه الفساد والانحلال، مع أن الموت كثيرا ما يحل بالإنسان وألمه أهون من ألم جارحة من الجوارح، وليست أهم الأعضاء أسرعها حسا، بل حقيقة الأمر أن حواشي الموت أرهب من الموت نفسه، كما يفقه من هو فيلسوف وعالم بطبائع الأشياء، فإن الأنين والاختلاج وبكاء الإخوان ولباس الحداد، ومشهد الجنازة وما شباهها لهي التي تظهر لنا الموت في ذلك المظهر المفزع المرهوب.
وحقيق بالالتفات أنه ما من سورة في نفس الإنسان إلا وهي كفؤ، بل غالبة للخوف من الموت، فلا يكونن الموت إذن ذلك العدو المرهوب حيث يكون الإنسان في هذه الصحبة - صحبة السورات النفسية - التي تتيح له مناجزته والغلبة عليه!
Bilinmeyen sayfa