وقد أطلق عليها ألقابا مجازية على طريقته في المزج بين صيغة العلم وصيغة البلاغة، وسماها (1) أوثان القبيلة و(2) أوثان الكهف و(3) أوثان السوق و(4) أوثان المسرح، وهي تطوي في هذه العناوين الأربعة كل ما هنالك من بواعث الخطأ والانحراف. (1)
فأوثان القبيلة هي نزعات العقل الطبعية، التي تصور الأشياء على صورة سابقة لا برهان عليها من التجربة والمشاهدة، كميل الأقدمين إلى القول بدوران الأفلاك في دوائر كاملة كالتي يرسمها المهندس بالبركار، ولا مسوغ من التجربة ولا المشاهدة لهذه الصورة الشائعة في العقول، أو كميل الأقدمين إلى القول بأن نسبة الكثافة في العناصر المزعومة كنسبة عشرة إلى واحد، أو كاستراحة العقل إلى صورة من الصور، وتطبيق كل شيء عليها واجتهاده في لي الحقائق لموافقتها معرضا عما يخالفها، أو ينبهه إلى خطئه في الاستراحة إليها، وهذه الأوثان - أوثان القبيلة - مما يفسر لنا ولع الإنسان بالعيافة والتطير، وتصديق الخرافات والأكاذيب الملفقة من خداع الحس أو الخيال. (2)
وأوثان الكهف هي خلة القصور، التي يمنى بها الفرد على حدة من جراء الوراثة أو النشأة، أو علل الفطرة التي فطر عليها، فما من إنسان إلا وهو محصور في كهف من هذه الكهوف يأوي إليه، ولا يأذن بطروقه إلا لما يوائمه من الخواطر والأحاسيس والمذاهب الفكرية، وتشمل هذه الأوثان خصائص الأمزجة كمزاج العالم، ومزاج الفيلسوف، ومزاج الناشد ومزاج الفنان ومزاج الصانع، وكل منها مطبوع على إدراك الأمور من جانب من الجوانب، والإعراض عنها إذا قابلته من غير ذلك الجانب، وفيهم السريع إلى التصديق، أو السريع إلى الشك والمعتدل أو المفرط في الشعور. (3)
وأوثان السوق هي شر هذه الأوثان؛ لأنها تلحق الأفكار بالكلمات التي جرت على ألسنة العامة، وتداولوها بغير تمحيص ولا اقتدار على الفهم الدقيق. ومتى اجتمع الناس كما يجتمعون في السوق فهم يتبادلون الأفكار بألفاظ لم توضع للدرس والعناية بالحقيقة، وإنما وضعت للمقايضة والمساومة، والتفاهم على سفساف الأمور. فلا مناص في هذه اللغة من التشويه والاختزال. (4)
وأوثان المسرح قد تسربت إلى عقول الناس من قضايا الفلاسفة، وأخطائهم في القياس والاستدلال، فهذه النظم الفلسفية والمذاهب العقلية التي تلقيناها عن الأقدمين إن هي إلا عوالم مسرحية، كعوالم الروايات التي يخلقها الشعراء للتمثيل. ومن الأساليب التي ألحقها باكون بأوثان المسرح أسلوب أرسطو، الذي يصوغ القواعد على حسب الأقيسة، ثم يبحث عن مصداقها في ظواهر الطبيعة، وأسلوب أفلاطون الذي يجعل العالم المحسوس تابعا للعالم المتخيل قبل وجوده، وأسلوب جلبرت الذي بنى على تجاربه في المغناطيس فلسفة واسعة تحيط بالعالم كله، وأسلوب الكيميين والتجريبيين الذين سبقوا باكون إلى مذهب التجربة، ولم يقيموه على أساس، ولم يتخذوا له الحيطة من الخطأ والالتباس.
فإذا انطلق الذهن البشري من عقال هذه الأوثان الأربعة، وقارب الظواهر الطبيعية على ذلك النحو الذي انتحاه باكون من المضاهاة والمقابلة، والتخصيص بعد التعميم، فهو على ثقة من إصابة الهدف وتسجيل الحقيقة، فهذه الطريقة على أهون ما يصفها به باكون هي كإبرة المغناطيس للملاحة، ولا تكشف الإبرة الفكرية لهداية العقل والحس في بحار الأفكار ... وهذه العبارة وأشباهها من كلام باكون هي بعض الأدلة على الأثر العظيم، الذي كان للكشف الأمريكي في تفكيره ومعيشته، وصوغ مذهبه وتقرير نظرته إلى العلم ومقاصد المعرفة الإنسانية. فأثر العلم في فتوح الملاحة شاخص بين عينيه في كل ما كتب وما تخيل، وكتابه عن «طوبى الجديدة» إن هو إلا محاكاة لرحلة كولمبس في عالم المجهول للعبور إلى شاطئ المعرفة والحكمة المتمناة. •••
ويعتقد باكون أن اجتناب تلك الأوثان، واتباع تلك الوصايا كفيلان بتمكين كل عقل من نشدان الحقيقة العلمية، والإفضاء إليها على اختلاف حظوظ العقول من الفطنة والثقافة، كأنه قد زود العقل البشري بمقياس واحد كمقاييس الأجسام التي يتساوى القياس بها في كل يد وكل نظر، وقد سوغ هذا الاعتقاد لنقاد كثيرين أن يرموا أسلوب باكون بالآلية، وتجاهل الملكات العقلية، إذ الواقع أن أساليب البحث بالغة ما تبلغ من الدقة لن تمحو الفوارق بين الذكاء والغباء والحس والبلادة والمثابرة والإهمال، ولن يزال نصيب الألمعي اليقظ الدءوب من التوفيق في البحث عن حقائق العلم، والمعرفة أعظم وأوفى من نصيب الذين لا يساوونه في هذه الملكات، ولكنها على ما أسلفنا مبالغة الدعاة في توكيد ما يبدءون بالدعوة إليه، وزيادتهم التي لا مناص لهم من التفرد بها قبل استقرار المذهب، وبطلان الحماسة النفسية في تأييده والإقناع به، ثم تأخذ تلك الزيادة في النقصان حتى ليخشى أن يندفع المخالفون إلى الغض منه وتهوين شأنه، كما حدث بعد باكون بجيل واحد في وطنه، وفي غيره من الأوطان.
وليس ذلك بالغلو الوحيد في تقرير طريقته، والإنحاء على الأقيسة والقضايا المنطقية وما شاكلها، فإن التعويل على التجربة والإحصاء عند باكون قد سول له أن يستخف بكل معرفة لا تصل إلى الذهن من طريق التجربة والإحصاء، ومن ثم أنكر على كبار الفلكيين أن يطبقوا قضايا الرياضة على علم الفلك، وما يرتبط به من المعارف الأرضية، وهذا مع تسليمه ببعض المعارف التي تدرك بالبديهة كمعرفة الناس مثلا أن أجزاء الشيء لا تكون أكبر منه، وأن إضافة المتساوي إلى المتفاوت ينتج عنه كم لا يتساوى، وما يترقى من هذه الحقائق إلى منزلة القواعد الهندسية، ولكنه كان في انصرافه إلى طريقة التجربة يعطيها من الشأن ما يسلبه من كل طريقة أخرى؛ لأن الدعاة كالعشاق لا يحبون معشوقين على قوة واحدة في المحبة.
وعلى هذا الغلو في تعظيم قدرة الطريقة التجريبية على الوصول إلى حقائق العلم لم يصل باكون إلى قانون علمي ينسب إليه؛ ولهذا شك بعض ناقديه في ملكته العلمية ولم يحسبوه من عباقرة العلم الطبيعي أو عباقرة الاختراع، ولا يدعي أحد لباكون أنه اخترع صناعة أو أنه استكنه سرا من أسرار الطبيعة، وإن كان قد تسلف مبادئ القول بالمذهب الذري في تكوين المادة، وحرارة الأجسام الباردة، وخصائص العناصر المتعددة، ولكن تجريده من العبقرية شيء وقلة مخترعاته العلمية أو الصناعية شيء آخر، فإن ذهنه ولا ريب ذهن لماح بضوء العبقرية الذي لا يخفى، وليس هو من معدن الأذهان التي تفهم ما تفهمه بالدأب دون الطبع أو المحاولة، التي يستطيعها جميع الناس دون الملكة التي تولد مع الإنسان.
وقد أصيب باكون بالخصومة لشخصه ولكتبه، سواء في حياته أو بعد مماته، ولكن الحكم بقلة حظه من الابتكار لم ينحصر في خصومه والمنكرين عليه، بل تعداهم إلى المعجبين به والمعنيين بشرح كتبه، فقال سبدنج
Bilinmeyen sayfa