ونزيد هذه الحقيقة توضيحا، فنقول: إن الرسالات الفكرية أو الروحية تسبقها رسالات من قبيلها تتناول أطرافها ومبادئها، وتهيئ الأذهان لانتشارها والتوسع فيها، فكل رسالة كبيرة فهي بمثابة كتاب من أجزاء متعددة تترقى من البداية إلى النهاية جزءا بعد جزء ودرجة بعد درجة، ولم يحدث قط أن رسالة فكرية أو روحية تعم الإنسانية ولدت فجأة، أو خلقت خلقا بغير سابقة تمهد لها الطريق وتهيئ لها الأذهان.
ورسالة باكون ليست بدعا بين جميع هذه الرسالات الفكرية.
فالذين يطلبون منه أن يقول شيئا لم يقله أحد من قبله، أو يقتحم طريقا لم يسبقه الرواد إلى سلوكه، إنما يطلبون منه أن يكون فردا بغير مثيل في عالم الفكر والروح، أو يطلبون بدعة ليس لها في العالم نظير؛ لأنها بدعة الطفرة التي قيل بحق: إنها محال.
وتتلخص رسالة باكون في غرضين هما تحويل العلم إلى منفعة بني الإنسان، وإقامة العلم على أساس الاستقراء بعد قيامه زمنا على أساس التقدير والقياس؛ لتفسير الطبيعة وتسخيرها بمطاوعة قوانينها، لا بفرض الأحكام السابقة عليها وجهلها تلك القوانين.
وكلا هذين الغرضين لم يبدعه باكون في زمانه كل الإبداع، بل جاء عمله في كل منهما بعد تمهيد وارتياد واستطراد.
فالانتفاع بالعلم في الحياة هو الخطوة الكبرى التي خطاها عصر النهضة كله يوم فرق بين اللاهوت والفلسفة، وبين علوم الآخرة وعلوم الدنيا، ويوم عرف الناس أن العلم كله لا يدور على ما بعد الموت، وأن علم السماء نفسه يعود بنا إلى الأرض؛ لنعرف منها ما لم نكن نعرفه ونحن على متنها وبين فجاجها ... وذاك علم الفلك وأثره في هداية الناس إلى حقيقة الأرض، قد سبق عصر باكون رائدا في طريق المعرفة الدنيوية، ورجح في منافعه بجهود رواد كثيرين.
فكان من آثار حقائق الفلك والجغرافية أن علم الناس بكرية الأرض، وخرج الرواد غربا يطلبون الشرق السحيق، فكشفوا القارة الأمريكية، وكشفوا الطرق التي تقاربها وانتفعوا بالعلم السماوي أكبر المنافع الأرضية أو المنافع الدنيوية، وأصبحت علاقة المعرفة بالمعيشة، وعلاقة الفكر بمصلحة الجسد شيئا محسوسا يجري في الضمائر مجرى البداهة المحفوظة، وينتظر اللسان الذي يفهم عنه والداعية الذي يقرره في صيغة المذاهب والدراسات.
مما نرجحه نحن أن رسالة باكون بغرضيها معا موصولة بهذه الواقعة العظمى في تاريخ الأرض والسماء.
فقد أسلفنا أن رسالته تشتمل على غرضين هما انتفاع الإنسان بالعلم، وإقامة العلم على أساس الاستقراء، بعد قيامه زمنا على أساس القياس.
وقد كان مذهب أرسطو يخالف مذهب كوبر نيكوس في دوران الأرض، ومركزها من أفلاك السماء، فإذا كان دوران الأرض وشكلها «الكري» قد ثبت للعيان بالخبرة والاستقراء، فالخاطر الأول الذي يرد على الذهن أن القياس عرضة للخطأ، وأن اختبار الواقع هو أوجز طريق إلى العلم الصحيح.
Bilinmeyen sayfa