ومنذ ذلك اليوم سار الثائرون مع عثمان سيرة منكرة حقا، منعوه من الصلاة في مسجد النبي، وأقاموا منهم رجلا يصلي بالناس هو الغافقي زعيم المصريين. وكان طلحة بن عبيد الله ربما صلى بالناس، وكان علي ربما صلى بهم أيضا. ثم حال الثائرون بين عثمان وبين الماء، حتى اشتد الظمأ عليه وعلى أهله وعياله، وحتى أشرف عليهم ذات يوم فذكرهم بأنه اشترى بئر رومة بأمر النبي وجعلها سقاية للمسلمين، ووعده النبي بها الجنة، وهو الآن يحرم ماءها ويفطر على ماء آجن. وذكرهم بأنه اشترى بأمر النبي أرضا ضمها إلى المسجد حين ضاق بالناس ووعده النبي بها الجنة، وهو أول مسلم منع من الصلاة فيه. ثم أرسل إلى جماعة من أصحاب النبي وأمهات المؤمنين يطلب إليهم أن يرسلوا إليه شيئا من الماء العذب إن استطاعوا، فاحتال علي حتى أدخل إليه شيئا من ماء، وأقبل على الثائرين فزجرهم وقال: إن الذي تصنعون ليس صنيع المؤمنين ولا صنيع الكافرين، وإن الفرس والروم ليأسرون فيطعمون ويسقون. وأقبلت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي تحمل شيئا من ماء، فضرب الثائرون وجه بغلتها وقطعوا حقبها، حتى كادت أم المؤمنين تسقط لولا أن تلقاها الرجال فأسندوها وردوها إلى دارها، مع أنها أنبأتهم بأنها إنما أقبلت تكلم عثمان في أيتام بني أمية، وكانت وصايا بني أمية عنده، فلم يصدقوها ولم يسمعوا منها. ولزم أكثر أصحاب النبي دورهم منذ اشتد الحصار، وأقام الناس في بيوتهم لا يخرج منهم أحد إلا ومعه سيفه. واشتد الكرب وشاع القتل وعظم البلاء، وجعل عثمان يشرف على الثائرين بين حين وحين فيعظهم ويحذرهم ويخوفهم الفتنة ويذكرهم بآيات الله وحديث النبي، فلا يسمعون له ولا يحفلون به، وربما ردوه ردا عنيفا.
وقد اجتمع القادرون على القتال من بني أمية، وانضم إليهم شباب من أبناء المهاجرين، فدخلوا الدار وقاموا يحمونها ويحمون عثمان من الثائرين، وكان فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ابنا علي ومحمد بن طلحة، وأمر عثمان عليهم عبد الله بن الزبير، وتقدم إليهم في ألا يقاتلوا، وعزم عليهم في ذلك أشد العزيمة. وتحرجت الأمور حتى منع الناس من الدخول على عثمان، ومنع أهل الدار من الخروج منها، وأقام الناس على ذلك أياما. ثم جاءت الأنباء بأن أمداد العراق قد دنت من المدينة، وبأن أمداد الشام قد انتهت إلى وادي القرى. فيختلف الرواة هنا أشد الاختلاف: فأما الذين هواهم مع عثمان فيقولون: أشفق الثائرون أن تصل الأمداد إلى المدينة فتحول بينهم وبين ما يريدون، فاحتالوا حتى أنفذوا نفرا منهم، عليهم محمد بن أبي بكر، فتسوروا الدار من خوخة بينها وبين دار عمرو بن حزم وانتهوا إلى عثمان فقتلوه. وأما الذين هواهم مع غير عثمان فيقولون: إن أهل الدار هم الذين بدءوا فناوشوا الثائرين. كان عثمان مشرفا عليهم، وقد دعاه رجل منهم يقال له نيار بن عياض الأسلمي، وكان شيخا كبيرا من أصحاب النبي، دعا عثمان وجعل يعظه وينصح له بأن يخلع نفسه، وإنه لفي ذلك إذ رمي بسهم من الدار أو ألقي عليه منها حجر فقتل. قال الثائرون لعثمان: ادفع إلينا قاتل صاحبنا فنقيد منه. فقال عثمان: ما أعرف له قاتلا فأدفعه إليكم، أو قال عثمان: ما أدفع إليكم رجلا ذب عني وأنتم تريدون قتلي، ثم حجزت بينهم ليلة منكرة. فلما أصبحوا هجم الثائرون على الدار يحرقون أبوابها، وخرج لهم أصحاب الدار يقاتلونهم، فاشتد القتال وجرح عبد الله بن الزبير جراحات كثيرة، وصرع مروان بن الحكم حتى ظن به الموت ، وقتل آخرون، واقتحمت الدار على أهلها. وفي أثناء ذلك فتح عمرو بن حزم بابه وأنفذ من الخوخة أولئك النفر الذين انتهوا إلى عثمان فقتلوه.
وأكبر الظن أن أنباء وصلت إلى المدينة بأن الأمداد قد كادت تبلغها، فأراد الثائرون أن يفرغوا من الأمر قبل أن تصل هذه الأمداد. ولم يستطع مروان بن الحكم أن يصبر وقد بلغه من أنباء الأمداد ما بلغ الثائرين، فتعجل الحرب وظن أنه يستطيع أن يزحزح المحاصرين عن الدار، وأن يقاتلهم حتى تأتي الأمداد، وكره أن يعتد عليه معاوية أو ابن عامر بأن جنودهما قد أدركتهم محصورين في الدار ففرجت عنهم الحصار وردت إليهم الحياة. فأراد أن تدركه الأمداد ومعه من في المدينة من بني أمية وهم يقاتلون ويبلون فيحسنون البلاء. وهو من أجل هذا خرج مرتجزا يطلب المبارزة، وخرج معه نفر من بني أمية يرتجزون، وعثمان يأمرهم بالصبر ويكفهم عن القتال فلا يسمعون له ولا يستجيبون لدعائه، حتى اضطر إلى أن يقسم على من رأى عليه له طاعة ليلقين سيفه، فألقى جماعة من أصحابه سيوفهم وأبى بنو أمية أن يفعلوا. وبينما القوم يقتتلون وقد اقتحمت الدار وجعل أهلها يتفرقون، خرج خارج فأذن في الناس: لقد قتلنا ابن عفان، ثم فتحت الأبواب ونهبت الدار ونهب بيت المال، ولم يتفرق الناس إلا وقد وقعت الواقعة وكانت الفتنة وصب على المسلمين بلاء عظيم.
ومع ذلك فقد يظهر أن عثمان مال في آخر أمره إلى شيء من العافية. فقد يتحدث الرواة بأن سعد بن أبي وقاص دخل على عثمان فسمع منه، ثم خرج مسترجعا يطلب عليا حتى لقيه في المسجد، فقال له: هلم أبا الحسن! لقد جئتك بخبر ما جاء به أحد أحدا، إن خليفتك قد أعطى الرضا فأقبل فانصره واسبق إلى الفضل في نصره. وإنهما ليتناجيان حتى جاء النبأ بقتل عثمان.
فأكاد أعتقد أن عثمان كان دعا سعدا وكلفه أن يسفر بينه وبين علي ليكف الناس عن القتل والقتال، على أن يرد الأمر إلى أصحاب الشورى وأهل الحل والعقد من المسلمين ليضعوه حيث يشاءون، ولكن هذه السفارة جاءت متأخرة، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
الفصل التاسع والعشرون
وكان معاوية قد عرض على عثمان قبل أن يفارقه في أواخر سنة أربع وثلاثين خصلتين رفضهما عثمان رفضا حاسما: عرض عليه أن يسير معه إلى الشام فيكون فيها آمنا منصورا، فأبى عثمان أن يترك جوار النبي وأن يستبدل بدار الهجرة دارا أخرى. وأضمر عثمان في نفسه أشياء لم يقلها لمعاوية في أكبر الظن، وهي أنه لو ترك المدينة لنقل عاصمة الخلافة إلى بلد آخر غير البلد الذي ظهر الإسلام فيه على أعدائه، وإلى بلد آخر غير البلد الذي أقام النبي فيه أعلام الإسلام وأقام الشيخان فيه بعد ذلك مجد الإسلام ولم يكن أبغض إلى عثمان من أن يأتي هذه البدعة، ولم يكن أبغض إليه من أن يقول له أصحاب النبي وعامة المسلمين: نقلت أمر الإسلام من حيث أقره النبي وصاحباه إلى بلد أجنبي غريب، ثم لو فعل عثمان لكان أسيرا في يد معاوية. ولأن يكون أسيرا في يد أصحابه الذين هاجروا معه والذين آووا ونصروا والذين غزوا معه ومع النبي واستمعوا معه للنبي، أحب إليه من أن يكون أسيرا عند معاوية بن أبي سفيان، على ما بينه وبين معاوية من قرابة النسب، وعلى ما عند معاوية بن أبي سفيان من الأمن والعزة والغلب.
وعرض معاوية على عثمان أن يرسل إليه جندا من أهل الشام يقيمون معه في المدينة ليردوا عنه العاديات، فأبى عثمان وقال: لا أضيق على أصحاب رسول الله بجوار من يجاورهم من الجند. وأضمر عثمان في نفسه أشياء أخرى في أكبر الظن لم يقلها لمعاوية: لم يرد أن يخرج عن سيرة النبي وسيرة صاحبيه، فيفرض سلطانه بالقوة والغلب، ويخضع دار الهجرة لهذا الاحتلال الذي عرضه عليه معاوية، فيحدث في الإسلام هذا الحدث الأكبر وهو إخضاع المهاجرين والأنصار ومسجد النبي ومدينته لجند يرسلهم معاوية بن أبي سفيان من قوم لم يلقوا النبي، ولم يسمعوا منه ولم يروا سيرته وسيرة صاحبيه رأي العين . لم يرد عثمان أن يكون أول من يحول الخلافة إلى ملك، ويخرجها عما ألفت من هذه السماحة السمحة إلى القهر والقسر والبأس الشديد. ولو قد فعل عثمان لكان طاغية يحكم أصحاب النبي بقوة هذا الجيش الذي يحميه من أصحابه، ويحرس داره إن أقام فيها، ويحرسه هو إن خرج من داره، ويحيط به إذا قام خطيبا على منبر النبي، ويسعى بين يديه إذا مشى في طرقات المدينة. وأين هذا كله من سيرة النبي والشيخين ومن سيرة عثمان نفسه! فقد كان يمشي في المدينة غير محروس، ويقف على أندية القوم فيقول لهم ويسمع منهم، وكان ينام في المسجد وقد لف رداءه واتخذه وسادا. وكان يجلس على منبر النبي يوم الجمعة فيتحدث إلى الناس حديث الأب الرفيق، أو الأخ البار أو الصديق الحميم؛ يسألهم عن مرضاهم وعن شئونهم وعن حاجاتهم وعن أسعار السوق. فإذا أذن المؤذنون قام فخطبهم ما شاء الله أن يخطبهم، ثم جلس فاستأنف الحديث معهم يسألهم عن مرضاهم وعن شئونهم وعن حاجتهم وعن أسعار السوق، فإذا أذن المؤذنون الأذان الثاني قام فصلى بهم. فكيف به لو غير هذا كله فانتقل إلى الشام وترك دار الهجرة، فلم يخطب على منبر النبي، ولم يصل في مسجد النبي حيث صلى النبي وصاحباه؟ وكيف به لو أقام في المدينة يحف به جند من أهل الشام يحمونه من الذين شهدوا معه ومع النبي المشاهد كلها؟ لم يكن عثمان ليستجيب لما دعاه إليه معاوية، ولا ليقبل ما عرض عليه معاوية من إرسال ذلك الجيش. فلما قال له معاوية: إذن لتغزين أو لتغتالن، قال: حسبي الله ونعم الوكيل!
فقد استقبل عثمان خلافته إذن وهو يريد أن يسير سيرة صاحبيه لا يغير منها شيئا. وسار على الجملة سيرة صاحبيه، فلم يحتجب ولم يستعل ولم يتسلط، وإنما أدركه ما قد يدرك الناس من هذا الضعف الذي لا يأتي عن نية سوء ولا عن تعمد للبغي، وإنما يأتي عن خلق كريم وعن حب للخير ورغبة فيه.
وما ينبغي أن ننسى أن عثمان قد استقبل الخلافة وهو شيخ كبير قد بلغ السبعين من عمره، وكان جوادا معطاء، وكان وصولا للرحم، وكان شديد الحياء، وكان سمح الخلق رقيق القلب حسن الرأي في الناس. فإذا اجتمعت كل هذه الخصال في شخصه وأضيفت إليها خصال أخرى في عشيرته الأقربين: هي الطمع والجشع والطموح الذي لا حد له والاستعداد للتسلط والغلبة؛ كان هذا كله خليقا أن يعرض عثمان لما تعرض له من الشر. فإذا أضفت إلى خصاله وخصال عشيرته الأقربين أن جماعة من كبار أصحاب النبي قد نازعتهم نفوسهم إلى الدنيا فاندفعوا إليها ورغبوا فيها، وجمعوا منها حظوظا ضخمة، وألقى هذا في روعهم أنهم ليسوا أقل من عثمان استحقاقا للخلافة، وأنهم قد يكونون أقدر منه على النهوض بأعبائها وضبط أمورها لأنهم لم يبلغوا من الشيخوخة ما بلغ؛ كان هذا كله خليقا أن يجعل الأمر على عثمان عسيرا أشد العسر، وأن يجعل السياسة بالقياس إليه مشكلات معضلات يتبع بعضها بعضا، لا يخرج من بعضها إلا ليدخل فيما هو أشد منها عسرا وأعظم تعقيدا.
Bilinmeyen sayfa