فليس صحيحا إذن أن حال هؤلاء العمال كانت مستورة، وليس صحيحا كذلك أن عثمان عزلهم حين استبان له اعوجاج سيرتهم.
وظاهر بعد هذا كله أن خصوم عثمان يسرفون حين يقولون إن عماله لم يكونوا أصحاب كفاية وقدرة على النهوض بأمور الحكم؛ فقد كان هؤلاء العمال أولي كفاية وغناء ما في ذلك شك، يشهد بذلك أنهم جميعا أبلوا في الفتح أحسن البلاء، ولكنهم كانوا أولي كفاية بالقياس إلى حكومة يقوم أمرها على القوة والبأس، وعلى الجبرية والكبرياء، لا على ما فرض الإسلام من العدل والإنصاف والمساواة والاستمساك بالعهد الذي أعطاه عثمان على نفسه، ليلتزمن كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين لا يحيد عن شيء من ذلك.
فسياسة عثمان في العزل والتولية لم تكن ملائمة للعهد الذي أعطاه. وليس من شك في أن الذين ضاقوا بهؤلاء العمال وثاروا عليهم ونقموا من عثمان توليتهم، لم يكونوا مخطئين.
الفصل الخامس والعشرون
والسياسة المالية التي اصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلها موضوع للنقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ومن أكثر الرواة والمؤرخين، وإن أصبحت فيما بعد موضوعا للجدل بين المتكلمين، يدافع عنها أهل السنة والمعتزلة، وينكرها الشيعة والخوارج جميعا. ويمكن أن نختصر سياسة عثمان المالية في أنه كان يرى أن للإمام الحق في أن يتصرف في الأموال العامة حسب ما يرى أنه المصلحة، وأنه ما دام قد انقطع بحكم الخلافة لتدبير أمور المسلمين، فله أن يأخذ من أموالهم ما يسعه ويسع أهله وذوي رحمه لا يرى بذلك بأسا ولا جناحا. والشيء الذي لم يوضحه المؤرخون توضيحا كافيا، هو أن عثمان قد كان قبل أن يلي الخلافة سخيا سمحا معطاء، وكان كثير المال ضخم التجارة كثير الاكتساب، فكان ماله يسعه ويسع أهله وذوي رحمه. فلما تولى الخلافة شغلته عن التجارة والاكتساب، ولم يكن له بد من أن ينفق على نفسه وأهله وذوي قرابته بعد الخلافة كما كان ينفق قبلها، فكان يرى فيما يظهر أن الخلافة يجب ألا تغير من سيرته في المال شيئا، فإذا لم يسعفه ماله الخاص وجب أن تسعفه الأموال العامة؛ لأن ماله الخاص لم يقصر به إلا لأنه صرف عن تدبيره واستثماره بتفرغه لتدبير هذه الأموال العامة.
ولم يكن لأبي بكر وعمر قبل خلافتهما من الثراء ما كان لعثمان. فلسنا نعلم أن أحدا منهما اشترى بئر رومة أو اشترى الأرض التي زيدت في المسجد، أو جهز الجيش لغزوة تبوك؛ لا لأنهما بخلا بالمال، بل لأنهما لم يكونا من ذوي المال الكثير. وهما كذلك لم يكونا يتوسعان في الإنفاق على أنفسهما وأهلهما وذوي رحمهما كما كان عثمان يتوسع؛ لأن ثروتهما لم تكن تتيح لهما ذلك. فهما إذن لم يغيرا بعد الخلافة من سيرتهما قبل الخلافة، إلا أن يكونا قد تشددا على أنفسهما تحرجا وتأثما. فأما عثمان فقد مضى بعد الخلافة على سيرته الأولى، فلم يلبث ماله في أكبر الظن أن قصر به فاستباح أن يأخذ من أموال المسلمين ما يقارب الربح الذي كان ماله خليقا أن يدر عليه لو أنفق وقته وجهده في تدبيره وتثميره. كذلك كانت حاله أول الأمر، ثم لم يلبث أن اتسع في ذلك، وأزلقه السلطان إلى مزيد من الجود وفضل من السخاء.
وأخرى يجب أن نلاحظها في تفسير السياسة المالية لعثمان، وهي أنه لم يكن يرى فيما يظن أن للمسلمين الحق في أن يراقبوه فضلا عن أن يعاقبوه. فهو قد أعطى العهد الذي أعطاه، وهو مسئول عن هذا العهد أمام الله لا أمام الناس. يدل على ذلك اقتناعه بأن الذين طلبوا إليه أن يخلع نفسه قد طلبوا إليه شيئا عظيما، وقوله لهؤلاء ولغيرهم: «ما كنت لأخلع قميصا قمصنيه الله عز وجل»، وقوله لهؤلاء ولغيرهم: «لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أنزع سربالا سربلنيه الله عز وجل.»
فلم تكن الخلافة عنده إذن تكليفا تلقاه من المسلمين، ويستطيع أن يرده عليهم إن شاء هو أو شاءوا هم، وإنما كانت الخلافة عنده ثوبا أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس لأحد غيره أن ينزعه عنه، وإنما الله وحده هو الذي يملك تجريده من هذا الثوب يوم يجرده من ثوب الحياة. وعذر عثمان في ذلك أنه رأى صاحبيه من قبله قد نهضا بالخلافة، فلم تنزع عن أحدهما ما أقام على الحياة. فهو إذن مثلهما قد نهض بالخلافة، ويجب أن يستمسك بها ما امتدت له أسباب الحياة. وإذا كان هذا رأيه في الخلافة وفيما تتيح له من سلطان، فليس غريبا أن يضيق بالذين يجادلونه في سلطانه، ويحاولون أن يكفوه عن بعض تصرفه في الإدارة أو السياسة أو المال، فهو ليس مسئولا أمام الناس، وإنما هو مسئول أمام الله كما قدمنا. ولم يكن عثمان يتكلف هذا الرأي تكلفا ولا يصطنعه دريئة يتقي بها لوم اللائمين ونقمة الناقمين، وإنما كان يراه عن نية صادقة وعن بصيرة خالصة. ولعل كثيرا من المسلمين الذين عاصروه كانوا يرون في الخلافة مثل رأيه، ويذهبون في السلطان مثل مذهبه. وهذا هو الذي يفسر لنا أن بعض الصحابة كانوا لا يستبيحون لأنفسهم الخلاف عن أمره حتى حين ينحرف عن القصد أو يجور عن الطريق. كانوا يأخذون الآية على ظاهر نصها، ويكرهون أن يتأولوا في قول الله عز وجل:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . وكانوا يؤثرون إن أصابهم من الإمام ظلم أن يحتملوا هذا الظلم في الدنيا ليثابوا عليه في الآخرة، يفضلون ذلك على أن يقاوموا فيتعرضوا لما قد يكون فيه بعض الإثم، ولا عليهم أن يصيبهم الظلم في الدنيا، وينالهم الثواب في الآخرة، وأن يحتمل الإمام تبعة أعماله ويؤدي حسابه عنها إلى الله.
هذا المذهب هو الذي ذهب إليه أبو ذر حين سمع وأطاع على إنكاره لظلم عثمان إياه. وهو الذي ذهب إليه عبد الله بن مسعود في أمر نفسه، وما أصابه من بطش عثمان، وفي أمر الدين حين أتم الصلاة لأن عثمان أتمها مع أنه لم يوافق عثمان على إتمامه للصلاة.
Bilinmeyen sayfa