وبلغ أبا موسى تولية هذا الفتى فلم يحرج صدره لذلك، وإنما قال للناس: «يأتيكم غلام خراج ولاج كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان.»
1
ولم يخطئ الشيخ؛ فقد كان عبد الله بن عامر فتى من فتيان قريش خراجا ولاجا، ذا حزم وعزم وقوة وبأس ونفوذ من المشكلات. شغل نفسه وشغل الناس معه بالفتح، ونافس فيه سعيد بن العاص فسبقه، وسار في الناس سيرة جد وكرم ومضاء، فلم يلق من أهل البصرة ما لقي الوليد وسعيد من أهل الكوفة، وما لقي عبد الله بن سعد بن أبي سرح من أهل مصر. ومصدر ذلك في أكبر الظن سيرته وحزمه وبعد رأيه من جهة، وأن الكثرة الكثيرة من رعيته كانت مضرية يلي أمرها مضري، فلم ينكروا ولم يشكوا. ومع ذلك لم يسلم مصر عبد الله بن عامر من بعض الشر. وآية ذلك أن فريقا من أهل البصرة شاركوا في الخروج على عثمان وكانوا أقل من غيرهم. ولكن هذا يدل على أن المصر لم يكن كله راضيا لا عن عثمان ولا عن واليه. ولم تخل البصرة من بعض ما شكت منه الكوفة؛ فقد سير بعض أهلها إلى الشام كما سير إلى الشام بعض أهل الكوفة. ولكن تسيير من سير من أهل البصرة كان ظلما صارخا أخذ فيه بالظنة ، ولم يلبث معاوية أن تبين ما فيه من جور. فقد سعى ساع إلى عبد الله بن عامر بأن عامر بن عبد القيس يخالف المسلمين في أمور أحلها الله لهم؛ فهو لا يأكل اللحم، ولا يرى الزواج، ولا يشهد الجمعة. وكتب فيه عبد الله بن عامر إلى عثمان، فقد قال بعض الرواة: إن عثمان استقدمه إلى المدينة، فلما تبين أنه مكذوب عليه رده إلى مصره موفورا. وقال آخرون: إن عثمان كتب إلى عامله على البصرة أن يسيره إلى معاوية، فلما أدخل على معاوية وجد عنده طعاما فشارك فيه حين دعي إليه، ورآه معاوية يأكل اللحم فتبين الكذب عليه، وامتحنه فيما اتهم به، فقال: إنه أمسك عن أكل اللحم من ذبائح القصابين منذ رأى قصابا يعنف بشاة في ذبحها، وأنه يشهد الجمعة في مؤخر المسجد ويخرج في أول الناس، وأنه أخرج من البصرة حين كان يخطب عليه لتزويجه، فأراد معاوية أن يرده إلى مصره، ولكنه أبى أن يعود إلى بلد يستحل أهله الوشاية والسعاية والنفي، فأقام بالشام، ومضى في زهده ونسكه. وأحبه معاوية، فكان لا يراه إلا سأله عن حاجته، فيجيب: لا حاجة لي. فلما أكثر عليه معاوية، قال له عامر: اردد علي بعض حر البصرة؛ فإن الصوم يخف علي في بلدكم. وما أرى أن عثمان قد أتيح له وال استطاع أن يكفيه من قبله من الناس إلا عبد الله بن عامر في البصرة ومعاوية في الشام.
فلندع العراق بعد أن رأينا من أمر مصريه ما رأينا، ولننتقل إلى الشام بعد أن نلاحظ أن الناس لم ينقموا من عبد الله بن عامر إلا قرابته من عثمان وحداثة سنه، وأنه جاء بعد أبي موسى، وأنه سار في الناس سيرة قرشية لعلها لم تكن تلائم هدي أصحاب النبي، ولكنها لاءمت عصبية المضريين وطموحهم إلى الفتح وشرههم إلى الغنيمة.
وكأن عبد الله بن عامر قد كان يعرف ما ينقم الناس من أمر توليته، فحرص على أن يبين للناقمين أنه كان للولاية أهلا بها وجديرا. ولعله أسرف بعض الإسراف في أمور الدين، فقد قيل: إنه أمعن في الفتح وبلغ منه ما أراده مرة. فقيل له: لم يبلغ أحد من الفتح ما بلغت. فقال: لا جرم، لأجعلن شكري لله على ذلك أن أحرم بالعمرة من حيث انتهيت. ولامه عثمان على أن أحرم من أعماق فارس على حين أن للإحرام أماكن معلومة لا يحرم قبلها إلا مسرف على نفسه. وهذه القصة نفسها تدل على مقدار ما كان عبد الله بن عامر يبذل من الجهد ليحمد الناس سيرته في الدين والدنيا جميعا.
الفصل العاشر
وكان معاوية أعظم الولاة حظا من كل شيء أيام عثمان، وكان واليا لعمر على دمشق، فلما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان وكان والي عمر على الأردن، ضم عمر إلى معاوية عمل أخيه، وشكر ذلك له أبو سفيان: ولكن عمر لم يحاب معاوية ولم يرد أن يعزي أبا سفيان عن موت ابنه بضم عمله إلى أخيه، وإنما رضي عن معاوية ورأى فيه كفاية وعزما وحزما، فاستكفاه الأردن فكفاه، وقد مات عمر ومعاوية على هذين الجندين، فأقره عثمان عليهما، كما أقر عمال عمر جميعا عامه الأول. ولكن عبد الرحمن بن علقمة الكناني عامل عمر على فلسطين يموت، فيضم عثمان فلسطين إلى معاوية، ثم يمرض عمير بن سعد الأنصاري عامل عمر على حمص ويستعفي عثمان من عمله، فيعفيه ويضم حمص إلى معاوية، فتخلص له أرض الشام كلها، ويصبح أعظم العمال خطرا وأعلاهم قدرا أيام عثمان، فهو قد اجتمعت له الأجناد الأربعة، وأصبح بحكم مركزه الجغرافي قويا إلى حد غير مألوف. وقد وقعت ولايته بين الحجاز وفيه أمير المؤمنين ومركز الخلافة، ومصر، وهي والولاية التي تكاد تداني ولايته قوة وبأسا وإن زادت عليها خصبا وثراء. وهو على ساحل بحر الروم وعلى حدود الروم أيضا يستطيع إن شاء أن يستمد الخليفة، ويستطيع إن شاء أن يمد الخليفة، ويستطيع كذلك أن يستمد مصر ويمدها. ثم أمامه بابان عظيمان من أبواب الجهاد: البحر من جهة، وثغور الروم في البر من جهة أخرى . فهو يستطيع أن يرفع شأن الدولة ويرفع شأن نفسه، وأن يعلي كلمة الإسلام، ويبني لنفسه مجدا لا يستطيع أحد من العمال أن يطاوله.
وقد طال عهد معاوية بالشام، فعرفه أثناء خلافة عمر كلها وأيام خلافة عثمان كلها، وقد أحب أهل الشام وأحبه أهل الشام ورضي عنه الخليفتان جميعا، وأصبح لطول ولايته وحسن مدخله إلى نفوس رعيته أشبه بالملك منه بالوالي. فليس تاريخ الخلافة يعرف واليا أتيح له من طول الولاية واتصالها واستقرارها وتدرجها في الاتساع مثل ما أتيح لمعاوية. وليس غريبا أن يرضى معاوية عن نفسه وحظه حين يرى العمال من حوله يعزلون بين حين وحين أثناء خلافة عمر وعثمان، ويرى نفسه مستقرا لا يريم، والولايات تضم إليه واحدة في إثر الأخرى. ولو قد كان معاوية مقصرا في عمله أو جائرا على رعيته لما أقره عمر ولا أعفاه من العزل، بل من العقوبة إن اقتضى الأمر أن يعاقب. وأكبر الظن أنه لم يغير سيرته في أهل الشام بعد وفاة عمر واستخلاف عثمان. رضي عن سيرته حين كان الخليفة متشددا متحرجا، فلم ير بالإقامة عليها بأسا حين أصبح الخليفة هينا لينا سمحا. ولهذا لم يشارك أهل الشام فيما شارك فيه أهل الأمصار الأخرى من اتهام عمالهم والتشهير بهم والخلاف على عثمان. فالذين حاصروا عثمان وفدوا من الكوفة والبصرة ومصر ولم يكن بينهم شامي واحد. ولهذا أيضا كان عثمان إذا أراد أن يسير أحدا من المخالفين عليه والمنكرين على عماله نفاه إلى الشام؛ لا يستثني من ذلك أهل المدينة أنفسهم. فسترى أنه حين ضاق بأبي ذر أمره أن يلحق بديوانه في الشام، وكان أبو ذر قد خرج إلى الشام غازيا فكتب اسمه في الديوان هناك، فرده عثمان إلى الشام خوفا على أهل المدينة من لسانه أو من عودته. فقد كان حزم معاوية إذن هو الملجأ الذي كان عثمان يلجأ إليه إذا أراد تأديب الذين يسرفون عليه وعلى عماله في المعارضة. ويجب أن نعترف بأن معاوية كان حازما حتى على عثمان نفسه ، فهو قد كان يتلقى المنفيين الذين يرسلهم إليه ويحاول إصلاحهم، فإذا أعياه ذلك طلب إلى عثمان أن يعفيه من نزولهم عليه، ولم يكن عثمان يرد له طلبا.
ولم يقصر معاوية في انتهاز ما أتيح له من حظ؛ فهو لم يقم في الشام وادعا مطمئنا يدبر أمر ولايته ولا يزيد على ذلك، وإنما كانت نفسه تنازعه إلى الفتوح نزاعا شديدا، وكان في أيام عمر أشبه شيء بالفرس الذي يعض شكيمته تحرقا إلى العدو، ولكن عمر كان يمسكه ويأبى عليه. وكان البحر يدعو معاوية دعاء ملحا، وكان معاوية يتوسل إلى عمر في أن يغزيه البحر، فيشتد عمر في رفض ما كان يطلب إليه، حتى حذره مرة من أن يعود إليه بحديث البحر، فلما استخلف عثمان طلب إليه معاوية ما كان يطلب إلى عمر، فأذن له على ألا يختار هو الغزاة ولا يقرع بين الجند بل يخير الناس، فمن اختار منهم غزو البحر قبله وأعانه، ومن لم يختر أقام من أمره على عافية. وما هي إلا أن يتخذ معاوية أسطولا ويغزو في البحر خمسين غزاة أو أكثر، فيثير ذلك غيرة الوالي على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فيصنع صنيع معاوية؛ حتى يقول المؤرخون: إن معاوية غزا قبرص من الشام وغزاها ابن أبي سرح من مصر، فالتقى الجيشان في الجزيرة.
وكانت إلى معاوية حماية الثغور البرية مما يلي بلاد الروم، فكان يغير على العدو في الشتاء والصيف. وكان هذا كله يتيح له من الغنائم والفيء ما يسر الجيش ويسر بيت المال.
Bilinmeyen sayfa