وقد دهش أهل المدينة حين سمعوا هذا الاقتراح من عثمان، فقالوا له: كيف تنقل إلينا ما أفاء الله علينا من الأرض؟ قال عثمان - وهذا هو لب الاقتراح: نبيعها ممن شاء بما كان له بالحجاز. ففرحوا وفتح الله عليهم به أمرا لم يكن في حسابهم، فافترقوا وقد فرجها الله عنهم به.
1
معنى ذلك أن عثمان عرض على أهل الحجاز أولا ثم عمم ذلك في بلاد العرب كلها فيما بعد، أن يستبدلوا بما كان لهم في العراق وفي الأقاليم من الأرض أرضا في الحجاز أو في غيرها من بلاد العرب . فإذا فعلوا ذلك أقاموا في بلادهم لم ينتقلوا عنها، وأقام معهم أهلهم وذوو أسبابهم، فخف الضغط على الأقاليم، وقلت هجرة الأعراب إليها. وسيحتاج هؤلاء، الذين يشترون أرض الحجاز وبلاد العرب مكان أرض الأقاليم، إلى كثير من الأيدي العاملة لاستصلاحها واستثمارها والقيام عليها، فيكثر اجتلاب الرقيق والموالي إلى بلاد العرب، ويخفف الضغط على الأقاليم من هؤلاء الأسارى الذين كانوا يطرءون على الأمصار في غير انقطاع.
وليس من الغريب أن يفرح الناس بذلك ويبتهجوا له؛ فأرض الحجاز أحب إلى أهل الحجاز من أرض العراق، وأرض اليمن أحب إلى أهل اليمن من أرض الشام ومصر، هي منهم قريب، فهم يستطيعون أن يقوموا عليها في غير مشقة ولا كلفة ولا احتياج إلى السفر القصير أو الطويل، ولا إلى الهجرة من أرض الآباء والأجداد.
وقد كتب عثمان بذلك في الآفاق، ففتح على الناس بابا عظيما كان له أبعد الأثر في حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعقلية جميعا.
ولنضرب لذلك بعض الأمثال: ففريق من كبار الصحابة كانوا يملكون كثيرا من المال السائل والجامد في الحجاز، فما أسرع ما أنفقوا مالهم هذا سائله وجامده في شراء الأرض في الأقاليم؛ لأنهم كانوا يعلمون أن أرض الأقاليم أخصب تربة وأكثر ثمرة وأيسر استغلالا من أرض الحجاز؛ فطلحة بن عبيد الله كان قد جد واجتهد ودأب حتى اشترى عامة أسهم خيبر من الذين شهدوا فتحها مع النبي أو من ورثتهم، فلما فتح عثمان هذا الباب باع طلحة كل ما كان يملك من أسهم خيبر لأهل الحجاز ممن شهد فتح العراق بما كانوا يملكون هناك. ثم كان له مال آخر كثير، فاشترى به من بعض أهل الحجاز أرضهم في العراق، وباع هو نفسه أرضا كان يملكها في العراق بأرض كان هو يملكها في الحجاز. وفعل الناس فعله، فكل من كره الهجرة من الحجاز ليقيم بأرضه في الأقاليم باع أرضه تلك واشترى مكانها أرضا فيما يليه. ونشأ عن ذلك أولا أن ظهرت الملكيات الضخمة في العراق وغيره من الأقاليم. فالذين استطاعوا أن ينتفعوا بهذا الاقتراح إنما هم أصحاب الأموال الضخمة الذين كانوا يستطيعون أن يشتروا من أصحاب الملكيات الصغيرة ما يملكون؛ فاشترى طلحة، واشترى الزبير، واشترى مروان بن الحكم. وكثر النشاط المالي في ذلك العام من بيع وشراء واقتراض واستبدال ومضاربة. ثم لم يقتصر ذلك على الحجاز والعراق، وإنما شمل بلاد العرب كلها من جهة، والأقاليم المفتوحة كلها من جهة أخرى. وجدت الإقطاعات الكبيرة الضخمة، والضياع الواسعة العريضة من جهة، وقام فيها العاملون من الرقيق والموالي والأحرار من جهة أخرى، فظهرت في الإسلام طبقة جديدة من الناس: هي طبقة البلوتقراطية التي تمتاز إلى أرستقراطيتها التي تأتيها من المولد بكثرة المال وضخامة الثراء وكثرة الأتباع أيضا.
ونشأ عن ذلك ثانيا أن الذين اشتروا الأرض في بلاد العرب عامة وفي الحجاز خاصة قد أرادوا أن يستغلوا أرضهم، فاجتلبوا الرقيق وأكثروا من اجتلابه. ولم يمض وقت طويل حتى استحال الحجاز إلى جنة من أجمل جنات الأرض وأخصبها وأحسنها ثمرا وأعودها على أهلها بالغنى وما يستتبع الغنى من الترف والفراغ. وما هي إلا أن تنشأ في الحجاز نفسه، في مكة والمدينة والطائف، طبقة من هذه الأرستقراطية الفارغة التي لا تعمل شيئا، وإنما يعمل لها ما جلبت من الرقيق، والتي تنفق وقتها في فنون اللهو والعبث والمجون.
ونشأ عن هذا بعد ذلك أن جلبت الحضارة جلبا إلى الحجاز وغيره من بلاد العرب؛ فكان الترف والتبطل، وكانت الفنون التي تنشأ عن الترف والتبطل، فكان الغناء والإيقاع والرقص والشعر الذي لا يصور جدا ولا نشاطا، وإنما يصور بطالة وفراغا وتهالكا من أجل ذلك على اللذة أو عكوفا من أجل ذلك على النفس وتعمقا لما ينتابها من الهمم. وإلى جانب هذه الطبقة الأرستقراطية الفارغة عاش الرقيق الذين كانوا يملكون سادتهم ويدبرون حياتهم. وما يكون في هذه الحياة من النشاط الباطل وما يكون فيها من العواطف والأهواء. ثم إلى جانب السادة الأرقاء، والأرقاء السادة، عاشت طبقة أخرى من العرب البادين المحرومين لم تملك قط أرضا في الحجاز لتبيعها بأرض في العراق، ولم تملك قط أرضا في العراق لتشتري بها أرضا في الحجاز.
ولم يخطر لعثمان رحمه الله حين فكر في هذا الاقتراح أو فكر له فيه خاصته ومشيروه، شيء من هذه النتائج البعيدة، وإنما رأى شرا فأراد حسمه، أراد أن يخفف الهجرة على الأمصار، ويمسك الأعراب في بلادهم، ويجلب الأسرى والرقيق إلى بلاد العرب، ويستخلص لأهل الحجاز من أصحاب الملكيات الصغيرة في الأقاليم ما لهم ليشتروا به الأرض التي تليهم ويقوموا عليها من قريب. ولكنه لم يبلغ من ذلك ما أراد، وإنما أضاف شرا إلى شر وفسادا إلى فساد. فلست أدري أوفق لصرف الأعراب عن الهجرة إلى الأمصار أو لوقف هذه الهجرة وقتا ما، أم لم يوفق؛ فالتاريخ لا يحدثنا بشيء من ذلك. بل أنا أشك في أن التاريخ قد فطن لما أراد عثمان ومشيروه بهذا الانقلاب الخطير في الحياة الاقتصادية للمسلمين. وما أشك في أنه لم يوفق في تخفيف الضغط على الأمصار من هؤلاء الرقيق والأسارى الذين كان عددهم يزداد من حين إلى حين؛ لأن الفتوح لم تقف أيام عثمان، وإنما مضت في طريقها عازمة حازمة غير مترددة كما سنرى، ولأن أربعة أخماس الغنائم كانت تقسم بين الفاتحين، وهؤلاء الفاتحون مستقرون في أمصارهم لا يخرج أحدهم إلى الثغر الذي يليه إلا مرة كل أربعة أعوام، ولا يقيم في الثغر إلا ستة أشهر أو أقل منها قليلا أو أكثر منها قليلا؛ فهذه الغنائم إذن وفيها الرقيق كانت تثوب مع أصحابها إلى الأمصار، فكان عدد الرقيق في ازدياد متصل. ولم يكن بد من ذلك إلا أن يوقف الفتح وتعيش الدولة في ظل سلم متصل، وهذا ما لم يتح لها أيام عثمان؛ فقد كان التنافس شديدا بين ولاة الأمصار أيهم يكون أبعد من أصحابه أثرا في الفتح.
وكان التنافس شديدا بين قواد الثغور أيهم يسبق صاحبه إلى لقاء العدو في هذا الميدان أو ذاك، وإلى احتلال هذه المدينة أو تلك، وإلى احتياز الغنائم التي تملأ يديه فتسر جنده من جهة، وتسر أميره على المصر من جهة أخرى، وتسر الخليفة ومن حوله من أصحاب النبي في المدينة من جهة ثالثة. لم يستطع عثمان إذن أن يخفف ضغط المستعربين والمغلوبين على الأمصار عامة وعلى المصرين العراقيين خاصة، ولم يتح للذين باعوا أرضهم في الأمصار واشتروا بها أرضا في الحجاز، أن ينظموا أمورهم ويجلبوا ما يحتاجون إليه من الأيدي العاملة، فيقل عدد الرقيق في الأمصار. فقد أحدث عثمان هذا الانقلاب الاقتصادي سنة ثلاثين وقتل سنة خمس وثلاثين، واضطربت الأمور بين هاتين السنتين فلم يؤت الانقلاب ثمرته التي كانت ترجى منه في هذا الوقت القصير، وإنما آتى ثمره البغيض الخطير في أقصر وقت ممكن؛ لأن رءوس الأموال كانت تنتظره في الحجاز متشوفة إليه متهالكة عليه. ولم يكن عمر حين احتبس قريشا في المدينة قد احتبس أشخاصها فحسب، وإنما كان قد احتبس مع هؤلاء الأشخاص رءوس أموالهم أيضا إلى حد بعيد. فهم كانوا يتجرون بين الحجاز والأقاليم تجارات عظيمة واسعة تغل عليهم مالا كثيرا سائلا، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون أن يستغلوا هذا المال السائل الذي لم يكن سيله ينقطع، لم يكن من اليسير عليهم أن يوظفوه في الأعمال الكبرى، كما يقول المحدثون. وإنما كان المال يجتمع إلى المال والنقد يضاف إلى النقد، وكان الفقراء وأوساط الناس يرون ذلك فيعجبون له ويعجبون به، وقد تنطلق فيه الألسنة فيضطر الأغنياء إلى أن يكفروا عن ثرائهم بالصدقات والعطاء، يبتغي الأخيار منهم بهذا رضا الله ورضا الناس، ويتقي غيرهم بهذا ما يكون من الحسد والحقد في بعض النفوس.
Bilinmeyen sayfa