Fiqh Trends Among Hadith Scholars in the Third Century AH
الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري
Yayıncı
مكتبة الخانجي
Yayın Yeri
مصر.
Türler
الاِتِّجَاهَاتُ الفِقْهِيَّةُ عِنْدَ أَصْحَابِ الحَدِيثِ فِي القَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْرِيِّ
تأليف
الدكتور عبد المجيد محمود عبد المجيد
أستاذ الشريعة المساعد بكلية دار العلوم
١٣٩٩ هـ - ١٩٧٩ م
- عدد الأجزاء: ١.
- عدد الصفحات: ٦٧٠.
أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، غفر الله له ولوالديه.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
Bilinmeyen sayfa
الاِتِّجَاهَاتُ الفِقْهِيَّةُ عِنْدَ أَصْحَابِ الحَدِيثِ فِي القَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْرِيِّ
تأليف
الدكتور عبد المجيد محمود عبد المجيد
أستاذ الشريعة المساعد بكلية دار العلوم
١٣٩٩ هـ - ١٩٧٩ م
1 / 1
مُقَدِّمَةٌ:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله إمام المُتَّقِينَ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وبعد.
فقد كان لحديث رسول الله ﷺ أثر بعيد في الحياة الفكرية الإسلامية، منذ أن حمله الصحابة في صدورهم، وصاغوا منه ومن القرآن أعمالهم وسلوكهم، ثم كان لزامًا عليهم أن يسلموا حصيلتهم من هذا الحديث إلى الأجيال التالية لهم، امتثالًا لما افترضه الله على المسلمين في قرآنه من طاعة رسوله الذِي يُبَيِّنُ للناس مَا نُزِّلَ إليهم، وامتثالًا لما أرشد إليه رسول الله في قوله: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرَ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ».
وقد تولى المُحَدِّثُونَ بعد الصحابة هذه المهمة الهامة، وأخذوا على عاتقهم تقديم السنة إلى الناس، وأهدوا إلى الفقهاء الأصل الثاني من أصول التشريع، ولم تكن هذه المهمة يسيرة هينة، بل خاض المُحَدِّثُونَ في أثنائها غمار حرب فكرية ونفسية، ألقى أعداء الإسلام فيها بكل مَا يُشَوِّشُ على الإسلام ويدلس على أهله، فقدموا أفكارًا غريبة خبيثة متنكرة في هيئة أحاديث يختلقونها، وأسانيد يُلَفِّقُونَهَا، ثم حاولوا ترويجها في الأوساط العلمية، حيث خدع بها بعض السطحيين من الرواة. أما علماء الحديث ونقاده فقد وقفوا لها بالمرصاد، وصمدوا أمام سيلها الجارف مبينين زيفها. وأسفر صمودهم عن أدق منهج وأحكمه في نقد الروايات وتمحيصها، والتمييز بين غثها وسمينها، فأبلوا في ذلك أحسن البلاء.
ولقد برز المُحَدِّثُونَ في هذا الجانب، واستحدثوا فيه العلوم وضبطوها
1 / 3
وَأَصَّلُوهَا، حتى شاع في الأذهان أنهم لا يعرفون غير الحديث، وحصرهم الرأي العام في حدود الرواية وعلومها، واستبعد كثيرون أن يكون لِلْمُحَدِّثِينَ نشاط فقهي، بل شاع الفصل بين المحدث والفقيه: فعلى المحدث أن يجمع المادة، وعلى الفقيه أن يستعملها ويضعها موضعها. وهذا ما أشار إليه الأعمش حين قال لأحد الفقهاء: «أَنْتُمُ الأَطِبَّاءُ وَنَحْنُ الصَّيَادِلَةُ».
وقد ساعد على ترويج هذه الفكرة نماذج من الرواة لم تكن تنظر فيما تحمل، ولم يكن لها القدرة على الاجتهاد والاستنباط، مثل مطر الورَّاق - من مُحَدِّثِي القرن الثاني - الذي سأله رجل عن حديث، فحدثه به، فلما سأله الرجل عن معناه، أجابه مطر بقوله: «لَا أَدْرِي، إِنَّمَا أَنَا زَامِلَةٌ».
كما ساعد على ترويج هذه الفكرة كذلك كثرة طلبة الحديث وتزاحمهم على سماعه، وقد أساء كثير من هؤلاء الطلبة إلى المُحَدِّثِينَ بسلوكهم وسطحيتهم ولكن هذا لا يعني أن المُحَدِّثِينَ جميعًا كذلك، إذ ليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوب. وقد أجهد أئمة الحديث أنفسهم في تثقيف طلبتهم، وَأَلَّفُوا المؤلفات العديدة في توجيههم وتأديبهم.
والواقع أن المُحَدِّثِينَ لم يقتصر نشاطهم على علوم الحديث، بل كان لهم نشاط فقهي ملحوظ، لا يخطئه من يقرأ كُتُبَ السُنَّةِ قراءة عابرة، أما من يقرأها قراءة متأنية فاحصة، فسيلمس هذا النشاط، وتتكشف له أصالتهم ورسوخ أقدامهم في الفقه، وتتجلى له أصولهم ومناهجهم.
وإنما آثرنا القرن الثالث بالبحث، لأنه كان أزهى العصور بالنسبة لأهل الحديث، وأغناها برجاله وأئمته، وأحفلها بعلومه، وأنشطها في التأليف فيه. جمع علماؤه في هذا القرن، وَهَذَّبُوا، وَصَنَّفُوا وأتوا بما فاقوا فيه من قبلهم ولم يلحقهم فيه من بعدهم.
وقد ذكر ابن الأثير أن نهضة الحديث قد بلغت ذروتها في عصر
1 / 4
البخاري ومسلم، وأصحاب الكتب الستة. ثم قال: «فكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا العلم، وإليه المنتهى، ثم من بعده نقص ذلك الطلب بعد، وقل ذلك الحرص، وفترت تلك الهمم. وكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرهم، فإنه يبتدئ ضئيلًا، وينمو قليلًا قليلًا. ولا يزال ينمو ويزيد ويعظم إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه، ويبلغ إلى أمد هو أقصاه، ثم يعود يكبر، ولا يلبث أن يعود كما بدأ. فكأن غاية هذا العلم انتهت إلى البخاري ومسلم ومن كان في عصرهما من علماء الحديث، ثم نزل وتقاصر إلى زماننا هذا، وسيزداد تقاصر الهمم سنة الله في خلقه ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (١)» (٢).
وقد بحثت في فصل خاص أثر القرن الثالث في ظهور فقه المُحَدِّثِينَ وكيف توفَّرت في هذا القرن العوامل التي أدت إلى إعلان هذا الفقه، واستقلاله وتميزه عن المذاهب الفقهية التي عاصرته، والعلاقة بينه وبين هذه المذاهب.
لكن هذا الفقه أخذ في التناقص التدريجي بعد القرن الثالث، سنة الله في خلقه، كما ذكر ابن الأثير، حتى انزوى هذا الفقه، وطغت عليه المذاهب الأخرى، فاندرج تحت ما يقاربه منها، وبخاصة المذهب الحنبلي، والمذهب الظاهري، وهما المذهبان اللذان ينطويان على كثير من خصائص فقه المُحَدِّثِينَ.
وَقَدْ صَوَّرَ الخطيب البغدادي حالة أهل الحديث في عصره بما يبين سوء مستواهم العلمي، فيقول: «وَأَكْثَرُ كَتَبَةِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَعِيدٌ مِنْ حِفْظِهِ، خَالٍ مِنْ مَعْرِفَةِ فِقْهِهِ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مُعَلِّلٍ وَصَحِيحٍ ... كُلُّ ذَلِكَ لِقِلَّةِ بَصِيرَةِ أَهْلِ زَمَانِنَا بِمَا جَمَعُوهُ، وَعَدَمِ فِقْهِهِمْ بِمَا كَتَبُوهُ وَسَمَعُوهُ، وَمَنْعِهِمْ
_________
(١) [الأحزاب: ٦٢]، [الفتح: ٢٣].
(٢) " جامع الأصول "، لابن الأثير: ١/ ١٦.
1 / 5
نُفُوسَهُمْ عَنْ مُحَاضَرَةِ الفُقَهَاءِ، وَذَمِّهِمْ مُسْتَعْمِلِي القِيَاسِ مِنَ العُلَمَاءِ، لِسَمَاعِهِمْ الْأَحَادِيثَ التِي تَعَلَّقَ بِهَا أَهْلُ الظَّاهِرِ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ مَحْمُودِ الرَّأْيِ وَمَذْمُومِهِ، بَلْ سَبَقَ إِلَى نُفُوسِهِمْ أَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَى عُمُومِهِ، ثُمَّ قَلَّدُوا مُسْتَعْمِلِي الرَّأْيِ فِي نَوَازِلِهِمْ، وَعَوَّلُوا فِيهَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ» (١) (*).
لهذا كان القرن الثالث عصر المُحَدِّثِينَ والمجتهدين، وسجلًا حافلًا بأعمالهم وفقههم، ولذا آثرناه بالبحث، ونسأل الله التوفيق والعون.
وقد اخترت للدراسة من بين مُحَدِّثِي هذا القرن العناصر الرئيسية والنماذج الممتازة من بينهم، واكتفيت بها في تمثيل الاتجاهات العامة التي تنطبق على سائر المُحَدِّثِينَ، ولم تكن الإحاطة بكل المُحَدِّثِينَ في القرن الثالث من بين أهداف هذا البحث ولا مما يفيده، وكان هذا هو سر اقتصاري على أصحاب الكتب الستة، مراعيًا الخلاف في سادس هذه الكتب، حيث تناولت بالدراسة كُلًا من البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبي داود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه. ثم أضفت إليهم ثلاثة من شيوخهم ومن أعلام عصرهم المؤثِّرين فيه، وهم أحمد بن حنبل، وابن راهويه إسحاق بن إبراهيم، وابن أبي شيبة عبد الله بن محمد.
وقد قصدت في أثناء دراستي لهؤلاء المُحَدِّثِينَ ألا أستعين بالشُرَّاحِ إلا في نطاق محدود، ولم يكن ذلك رغبة عن الشروح أو غضًا من شأنها، وإنما كان رغبة في أن أتصل بكتب المُحَدِّثِينَ اتصالًا مباشرًا، أستشف منه اتجاهاتهم الفقهية في ضوء ما يُؤدِّي إليه البحث، دون أن أقع تحت تأثير الآراء الذاتية لِلْشُرَّاحِ، الذين كانوا بدورهم متأثِّرين بمذهبهم الفقهي،
_________
(١) " صفعات البرهان " للكوثري: ص ١٠، وقد توفي الخطيب سنة ٤٦٣ هـ.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) انظر " الفقيه والمتفقه "، للخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ هـ)، تحقيق أبي عبد الرحمن عادل بن يوسف الغرازي، ٢/ ١٤٠، الطبعة الثانية: ١٤٢١ هـ، نشر دار ابن الجوزي - المملكة العربية السعودية.
انظر: ص ١٢١ من هذا الكتاب.
1 / 6
يحكمون من خلاله على رأي المُحدِّث، محاولين أن يصوروا رأيه بصورة تتلاءم مع مذهبهم وَتُعضِّدُهُ.
فالبخاري مثلًا عندما يتناول موضوع الكَفَّارَةِ لِمَنْ تَعَمَّدَ الجِمَاعَ في نهار رمضان، في ترجمة: (بَابُ إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلاَ مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ» ...)
- يستنتج بَعْضُ الشُرَّاح من هذه الترجمة أن البخاري يوجب الكفارة على الآكل والشارب عمدًا قياسًا على المجامع الذي ورد فيه الحديث، على حين يُرَجِّحُ آخرون منهم أنه لم يرد ذلك (١).
هذا على الرغم من أن البخاري هو الوحيد من بين أصحاب الصحاح والسُنن، الذي حظي فقهه باهتمام العلماء مِنْ قُدَمَاءٍ ومُحْدَثِينَ، ولكنه اهتمام غير مستوعب، وَلَا مُبَيِّنٍ للأصول والاتجاهات العامة التي صدر عنها.
أما بقية أصحاب السُنن، فلم يهتم أحد بفقههم ولو بإشارة موجزة. وقد كان هذا من المصاعب التي اعترضت هذا البحث، حيث كان بهذا الاعتبار بحثًا لا سلف له.
وقد كانت كتب هؤلاء المُحَدِّثِينَ، من صحاح وسنن ومصنفات - هي المصدر الأساسي الذي يستمد منه هذا البحث، قرأتها أكثر من مرة، أجمع منها شتات المسائل ومنثور الجزئيات، لأنظِّمها في خيط يجمعها، وكلي يشملها، ثم كان عَلَيَّ أن أوازن بين فقههم وفقه المذاهب الأخرى، وبخاصة المذهب الحنفي، حتى تتضح الميزات، وتتميز الفروق، وقد استعنت على ذلك بكثير من الكتب الفقهية وكتب اختلاف الفقهاء، وبكثير من كتب الأصول، وكتب تاريخ التشريع والتراجم.
_________
(١) انظر " فتح الباري ": ٤/ ١٧٩.
1 / 7
أما منهج هذا الكتاب فيقوم على تمهيد وخمسة أبواب وخاتمة:
شرحت في التمهيد المصطلحات التي تضمنها عنوان الكتاب.
أما الباب الأول فهو عن المدرسة الفقهية لِلْمُحَدِّثِينَ، شرحت فيه الصراع بين أهل الحديث وغيرهم، مُبيِّنًا دوافع هذا الصراع ونتائجه، مُثْبِتًا أنهم أصحاب مذهب فقهي مستقل كشف عن ذاته، وأعلن عن نفسه في القرن الثالث الهجري، مُزاحمًا غيره من المذاهب المعروفة آنذاك.
وفي الفصل الأخير من هذا الباب وصف للاتجاهات الفقهية عند رُواة الحديث من الصحابة، توضيحًا للجذور العميقة لمذهب المُحَدِّثِينَ.
أما الباب الثاني فهو عن اتجاه المُحَدِّثِينَ إلى الآثار، ويقع في ثلاثة فصول:
تناول الفصل الأول علاقة السنة بالقرآن، من حيث مكانتها بالنسبة له، وعرضها عليه، وَوُرُودِهَا بِحُكْمٍ زَائِدٍ، ونسخه بها وتخصيصًا له.
وتناول الفصل الثاني المناهج في الأخذ بأخبار الآحاد، والآراء في المرسل وأقوال التابعين.
وتناول الفصل الثالث نتائج هذا الاتجاه.
أما الباب الثالث فهو عن الاتجاه إلى الظاهر.
وقد عني هذ الباب بذكر أمثلة لهذا الاتجاه، وبحث عن علاقة أهل الحديث بأهل الظاهر في فصله الأول وعن أصول الظاهرية في فصله الثاني، وعن طبيعة العلاقة بين الظاهرية وغيرهم في الفصل الثالث.
وعني الباب الرابع بشرح الاتجاه الخلقي النفسي عند أهل الحديث.
أما الباب الخامس فهو عن موضوعات الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي ويقع في فصلين:
1 / 8
عني الفصل الأول بموضوعات الخلاف بين ابن أبي شيبة وأبي حنيفة.
وعني الفصل الثاني بموضوعات الخلاف بين البخاري وأهل الرأي.
ثم كانت الخاتمة تلخيصًا لأهم نقاط البحث ونتائجه.
وبعد، فأرجو أن يكون هذا البحث قد أوضح جانبًا من تراثنا الفكري، ومهد السبيل لاستكشاف آفاق جديدة في فقه الحديث.
والله ولي التوفيق.
عبد المجيد محمود عبد المجيد
1 / 9
تَمْهِيدٌ:
لعل من الأفضل قبل أن نمضي في البحث، وتتشعب بنا مسائله أن نحدد معاني بعض الألفاظ التي عليها مدار الموضوع، وأن نوضح العلاقة بين معانيها ومعاني ألفاظ قريبة منها في الاستعمال.
وسأتناول في هذا التمهيد النقاط الآتية بإيجاز:
• بين الاتجاهات والمنهج.
• بين الحديث والسنة.
• الفقه: معناه، لمحة عن تطوره، علاقته بالحديث، فضله.
[أ] بَيْنَ الاِتِّجَاهَاتِ وَالمَنْهَجِ:
نعني (بالاتجاهات) الطرق التي سار فيها المُحَدِّثُونَ ليصلوا إلى استنباط الأحكام، مع التجاوز عن المنحنيات اليسيرة التي سار فيها فريق منهم دون إغفال لمفارق الطرق التي تباعد بينهم وبين غيرهم.
أو هي الخصائص والسمات العامة المُمَيِّزَةِ لفقه أهل الحديث.
أو هي القضايا الكلية التي كانت تحكم المُحَدِّثِينَ عند نظرهم في الفقه.
أما المنهج فهو أخص من ذلك، إذ هو الطريق الواضح الذي يبين كيفية التطبيق لهذه القضايا والسمات.
ويمكن أن أقول إن كاتبًا ما له اتجاه اجتماعي، لكن منهجه هو سلوكه إزاء قضايا المجتمع، وكيفية علاجه لها، وتنبيهه لمشكلات عصره، واقتراحاته لحلها.
1 / 11
فالاتجاه عام وصفي، أما المنهج فهو خاص تطبيقي.
وقد يعين على هذه التفرقة قول الله ﷿ ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (١).
فالشرعة - أي الشريعة - هي الفرائض والحدود والحلال والحرام. والمنهاج هو كيفية تقنين هذه الأحكام، وطريقة تنفيذها، وبيان السبل التطبيقية لها، وغير ذلك مما يختلف باختلاف الأديان.
وبهذا تبرز العلاقة الوثيقة بين الاتجاه والمنهج، فللحصول على الاتجاه، يلزم التعرف على الجزئيات، وإعمال النظر في المنهج، وتلك طريقة تجمع بين التحليل والتركيب.
[ب] بَيْنَ الحَدِيثِ وَالسُنَّةِ:
الحديث في اللغة، يطلق على الجديد، ضد القديم، كما يطلق على الخبر والقصص. في " القاموس المحيط ": «والحديث: الجديد، والخبر، كالحديثي» وفي " لسان العرب ": «والحديث: الجديد من الأشياء، والحديث: الخبر، يأتي على القليل والكثير والجمع أحاديث، كقطيع وأقاطيع، وهو شاذ على غير قياس ...» ثم قال صاحب " اللسان ": «ورجل حدِث، وحدوث، وحدْث، وحديث، ومحدث، بمعنى واحد: كثير الحديث، حسن السياق له، والأحاديث في الفقه وغيره معروفة».
وعند إطلاق لفظ الحديث الآن ينصرف إلى حديث رسول الله ﷺ، وهو ما نقل عنه من قول أو فعل أو تقرير.
_________
(١) [المائدة: ٤٨]. و«الشرعة»: إما من شرع بمعنى وَضَّحَ وَبَيَّنَ وإما من الشروع في الشيء، وهو الدخول فيه، الشريعة بمعنى المشروعة: وهي الأشياء التي أوجب الله على المكلفين أن يشرعوا فيها و«المنهاج»: هو الطريق الواضح. انظر " مفاتيح الغيب " للرازي؛ و" تفسير المنار ": ٦/ ٤١٣، ٤١٤.
1 / 12
وتخصيص الحديث بما قاله الرسول ﷺ وُجِدَ في وقت مبكر أي في حياته - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -.
يَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَأَجَابَهُ الرَّسُولُ ﷺ: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ. لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ» (١) ثم اتسع استعمال الحديث بعد وفاة الرَّسُولِ ﷺ فأصبح يشمل مع القول فعله وتقريره ﷺ.
وللحديث أقسام كثيرة باعتبارات مختلفة ليس هنا موضع بحثها.
أما السُنَّةُ فلها استعمالات كثير في اللغة، فتستعمل بمعنى الطريقة، والطبيعة والسيرة: حسنة كانت أو قبيحة.
«فَسُنَّةُ كُلِّ أَحَدٍ مَا [عُهِدَتْ] مِنْهُ المُحَافَظَةُ عَلَيْهِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الحَمِيدَةِ أَوْ غَيْرِهَا» (٢). وإذا أضيفت إلى لفظ الجلالة، فقيل: (سُنَّةُ اللَّهِ) فمعناها أحكامه وأمره ونهيه أو قوانينه الطبيعية والإنسانية.
والسنة في الشرع لها عدة إطلاقات (٣)، يجمعها أنها الطريقة المرضية المسلوكة في الدين. ومن أشهر هذه الإطلاقات:
١ - أنها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد الكتاب العزيز، وعرفها بعض العلماء حينئذٍ بأنها «مَا صَدَرَ عَنِ الرَّسُولِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا لَيْسَ بِمَتْلُوٍّ، وَلَا هُوَ مُعْجِزٌ وَلَا دَاخِلٌ فِي الْمُعْجِزِ ... وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَقْوَالُ النَّبِيِّ
_________
(١) " البخاري بحاشية السندي ": ٤/ ١٢٦.
(٢) " الإحكام " للآمدي: ١/ ٢٤١.
(٣) انظر هذه الإطلاقات في " كشاف اصطلاحات الفنون ": ١/ ٧٠٣ وما بعدها؛ و" الموافقات ": ٣/ ٢، ٣.
1 / 13
﵇، وَأَفْعَالُهُ وَتَقَارِيرُهُ» (١) وقد قرر ابن بدران «أَنَّ هَذَا مَعْنَاهَا بِاعْتِبَارِ العُرْفِ الخَاصِّ (٢) وَهِيَ بِهَذَا تُشَارِكُ الحَدِيثَ فِي مَعْنَاهَا المُتَقَدِّمِ» وإن كان الحديث يشمل ما ينقل في الأحكام وغيرها، أما السنة فهي خاصة بما يقرر حكمًا أو يستدل بها عليه.
٣ - كما تطلق السُنَّةُ على ما كان من العبادات نافلة منقولة عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فإن تعلقت بتركها كراهة وإساءة فهي سُنَّةُ الهُدَى، وَتُسَمَّى سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، كالأذان والجماعة وسنة الفجر وغيرها، وإنْ لم تتعلق بتركها كراهة وإساءة تسمى سنن الزوائد «أَوْ سُننًا غَيْرَ مُؤكَّدَةٍ» (٣).
وقد تطلق السنة على العادة الدينية أو القانونية التي أقرها الرسول ﷺ وكانت سائدة في عصره، ونُقلت عن السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة المُقتدى بهم. وهذا معناها باعتبار العرف العام (٤).
وهذا الإطلاق الثالث للسنة كان هو الأسبق، وهو الذي كان شائعًا في العصر. قال السرخسي: «وَالسَّلَفُ كَانُوا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُنَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ﵄، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ البَيْعَةَ عَلَى سُنَّةِ العُمَرَيْنِ» (٥) كما كان شائعًا على ألسنة العلماء في القرن الثاني للهجرة. يَقُولُ ابْنُ مَهْدِي (٦)
عَنْ
_________
(١) " الإحكام " للآمدي: ١/ ٢٤١.
(٢) " المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ": ص ٨٩.
(٣) " كشاف اصطلاحات الفنون ": ١/ ٧٠٤.
(٤) " المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ": ص ٨٩؛ " نظرة عامة في [تاريخ] الفقه الإسلامي " للدكتور علي حسن عبد القادر: ١/ ١١٥.
(٥) " أصول السرخسي ": ١/ ١١٤.
(٦) " تهذيب التهذيب ": ٣/ ١٠؛ و" تقدمة الجرح والتعديل ": ص ١٧٧.
1 / 14
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: «لَمْ أرَ أَحَدًا قَطُّ أَعْلَمَ بِالسُنَّةِ وَلاَ بِالحَدِيثِ الذِي يَدْخُلُ فِي السُّنَّةِ مِنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ». والمتبادر من هذا اللفظ أنّ السنة تغاير الحديث، وأنها أعم منه، وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضًا: «النَّاسُ عَلَى وُجُوهٍ. فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ إِمَامٌ فِي السُنَّةِ إِمَامٌ فِي الحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ إِمَامٌ فِي السُنَّةِ وَلَيْسَ بِإِمَامٍ فِي الحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ إِمَامٌ فِي الحَدِيثِ لَيْسَ بِإِمَامٍ فِي السُنَّةِ، فَأَمَّا مَنْ هُوَ إِمَامٌ فِي السُنَّةِ وَإِمَامٍ فِي الحَدِيثِ فَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ» (١).
ولأن السنة كانت شائعة بهذا المعنى - وهو الحض على اتباع التقاليد الإسلامية، والتمسك بما كان عليه المسلمون في خير أوقاتهم - سُمِّيَتْ المَدِينَةُ (مَهْدَ السُنَّةِ) وَ(دَارَ السُنَّةِ). وهو ما حمل مالك بن أنس ﵁ على أن يُخَصِّصَ لعمل أهل المدينة وإجماعهم مكانًا بين أدلة الشرع.
ولهذا الاستعمال الشائع للسنة أيضًا كانت مثار اختلاف العلماء عند إطلاقها كما إذا قيل: «مِنَ السُنَّةِ كَذَا»، فهل المراد حينئذٍ سنة الرسول خاصة، أو سنة غيره من السلف الصالح؟ فالذين لا يأخذون أقوال الصحابة كدليل شرعي يقصرونها على الرسول ﷺ، والذين يأخذون بأقوال الصحابة يوسعون في مدلولها. وفي هذا يقول البزدوي: «لَا خِلَافَ فِي أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الطَّرِيقَةُ المَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا الخِلَافُ فِي أَنَّ لَفْظَ السُّنَّةُ [إذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ] إلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ أَوْ إلَيْهَا، [وَإِلَى سُنَّةِ الصَّحَابِيِّ]».
وثمرة هذا الخلاف تظهر إذا قال الراوي: «مِنَ السُنَّةِ كَذَا» فهل يحمل هذا القول على سُنَّة الرسول ﷺ «وَلَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ إِلَّا بِدَلِيلٍ» (٢).
_________
(١) " تقدمة الجرح والتعديل ": ص ١١٨.
(٢) " كشاف اصطلاحات الفنون ": ١/ ٧٠٤.
1 / 15
ونستطيع أن نحدد العلاقة بين الحديث والسنة بهذا الإطلاق الأخير بأن الحديث أمر علمي نظري، وأن السنة أمر عملي، إذ أنها كانت تعتبر المثل الأعلى للسلوك في كل أمور الدين والدنيا وكان هذا سبب الاجتهاد في البحث عنها والاعتناء بحفظها والاقتداء بها (١).
والسنة بهذا الإطلاق العام قد تنتظم الفرض والواجب، مع اشتمالها على المستحب والمباح (٢)، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «السُّنَّةُ سُنَّتَانِ سُنَّةٌ فِي فَرِيضَةٍ وَسُنَّةٌ فِي غَيْرِ فَرِيضَةٍ: السُّنَّةُ التَّي فِي الفَرِيضَةِ أَصْلُهَا في كِتَابِ الله تَعَالَى، أَخْذُها هُدًى وَتَرْكُهَا ضَلاَلَةٌ، وَالسُّنَّة التَّي أَصْلُهَا لَيْسَ في كِتَابِ الله تَعَالَى: الأَخْذُ بِهَا فَضِيلَةٌ وَتَرْكُهَا لَيْسَ بِخَطِيئَةٍ» (٣) ولهذا قال مكحول: «السُّنَّةُ سُنَّتَانِ. سُنَّةٌ الْأَخْذُ بِهَا فَرِيضَةٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ، وَسُنَّةٌ الْأَخْذُ بِهَا فَضِيلَةٌ وَتَرْكُهَا إِلَى غَيْرِ حَرَجٍ» (٤).
ولن يكون ترك السُنَّةِ كُفْرًا إلا إذا كانت عادة إسلامية، وشعيرة من شعائر الإسلام، بحيث إذا خلا منها بلد مسلم كان في ولائه للإسلام شك، ويشرح السرخسي هذه العبارة بقوله: «حُكْمُ السُنَّةِ هُوَ الاتِّبَاعُ ... وَهَذَا الاتِّبَاعُ الثَّابِتُ بِمُطْلَقِ السُنَّةِ خَالٍ عَنْ صِفَةِ الفَرْضِيَّةِ وَالوُجُوبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الوَاجِبِ فِي حُكْمِ العَمَلِ بِهْ، عَلَى مَا قَالَ مَكْحُولٌ ﵀: " السُّنَّةُ سُنَّتَانِ. سُنَّةٌ أَخْذُهَا هُدًى وَتَرْكُهَا ضَلَالَةٌ، وَسُنَّةٌ أَخْذُهَا
_________
(١) انظر " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ": ١/ ١١٦.
(٢) انظر " كليات أبي البقاء ": ص ١٠٣.
(٣) " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ": ١/ ١٢٢ نقلًا عن الطبراني في " الأوسط "، وقال: لم يروه عن أبي أسامة إلاَّ عيسى بن واقد، تَفَرَّدَ به عبد الله بن الرومي ولم أر من ترجمه وفي الهامش نقلًا عن هامش الأصل أنَّ ابن الرومي هذا وثَّقَهُ أبو حاتم وغيره.
(٤) " سنن الدارمي ": ١/ ١٤٥.
1 / 16
حَسَنٌ وَتَرْكُهَا لَا بَأْسَ فِيهِ "، فَالأَوَّلُ نَحْوُ صَلَاةِ العِيدِ وَالأَذَانِ وَالإِقَامَةِ وَالصَّلَاةِ بِالجَمَاعَةِ، وَلِهَذَا لَوْ تَرَكَهَا قَوْمٌ اسْتَوْجَبُوا اللَّوْمَ وَالعِتَابَ وَلَوْ تَرَكَهَا أَهْلُ بَلْدَةٍ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ قُوتِلُوا عَلَيْهَا لِيَأْتُوا بِهَا» (١).
ويُعَرِّفُ ابن حزم السُنَّةَ تعريفًا يقترب من هذا الإطلاق العام للسُنَّة، فيقول: «وَالسُنَّةُ هِيَ الشَّرِيعَةُ نَفْسُهَا، وَهِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: وَجْهُ الشَّيْءِ وَظَاهِرُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءُ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلاَ نَدْبُ
وَأَقْسَامُ السُنَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ: فَرْضٌ أَوْ نَدْبٌ، أَوْ إِبَاحَةٌ أَوْ كَرَاهَةٌ، أَوْ تَحْرِيمٌ، كُلُّ ذَلِكَ قَدْ سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ اللَّهِ ﷿» (٢).
مِنْ تَقْسِيمَاتِ السُنَّةِ:
ومع أنّ العلماء متفقون على وجوب الاقتداء بالرسول ﷺ، ولزوم اتباع سنته قد يختلفون في الأمر من قول الرسول أو فعله: هل هذا القول أو الفعل جرى من الرسول مجرى الجبلة والعادة، أو التجربة الشائعة في قومه، فالاتباع فيه غير لازم، كما لا يلزم إذا كان الفعل من خواص الرسول. أم أن القول والفعل مقصود بهما التشريع فيلزم حينئذٍ الاتباع؟.
ومرجع ذلك أن الرسول ﷺ بشر، له مطالب البشر، ويحتاج إلى ضرورات الحياة وخبرتها وتجاربها، وَقَدْ نبَّهَ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - أصحابه إلى التفرقة بين أمور التشريع وأمور الحياة العادية في قوله أو فعله، فقال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ،
_________
(١) " أصول السرخسي ": ١/ ١١٤.
(٢) " الإحكام " لابن حزم: ١/ ٤٧.
1 / 17
وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ». وقال في قصة تأبير النخيل: «فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلاَ تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ» (١).
وكما نبه الرسول ﷺ أصحابه إلى مراعاة الفرق بين التشريع وغيره في قوله وفعله - نبه الصحابة بدورهم تلامذتهم من التابعين إلى مراعاة هذا الفرق. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الحَرِيصِينَ عَلَى الحَدِيثِ دَخَلُوا عَلَى زَيدِ بْنِ ثَابِتٍ ﵁ فَقَالُوا: «حَدِّثْنَا أَحَادِيثَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: كُنْتُ جَارَهُ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ بَعَثَ إِليَّ فَكَتَبْتُهُ لَهُ، فَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا، فَكُلُّ هَذَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!» (٢).
وفي ذلك يقول البطليوسي: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَذْكُرُ فِي مَجْلِسِهِ الأَخْبَارَ حِكَايَةً، وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لاَ يُرِيدُ بِهِ أَمْرًا وَلاَ نَهْيًا. وَلاَ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا فِي دِينِهِ. وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ فِعْلِهِ مَشْهُورٌ مِنْ قَوْلِهِ» (٣).
_________
(١) " حُجة الله البالغة "، للدهلوي بتحقيق سيد سابق: ١/ ١٧١ - ١٧٣؛ وجاء في " مجمع الزوائد ": ١/ ١٧٨ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَطُوفُ فِي النَّخْلِ بِالمَدِينَةِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: فِيهَا وَسْقٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " فِيهَا كَذَا وَكَذَا "، فَقَالُوا: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: [" إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا قُلْتُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي] فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وَأُخْطِئُ»). رواه البزار وإسناده حسن، وانظر أيضًا " مجمع الزوائد ": ١/ ٧٩. في قصة تلقيح النخل.
(٢) " حُجة الله البالغة ": ١/ ١٠٢.
(٣) " نظرة عامة في [تاريخ] الفقه الإسلامي ": ١/ ١١٨، ١٢٠.
1 / 18
لهذا أفاض العلماء في الكلام عن سنة رسول الله ﷺ وتقسيمها إلى سنة تشريعية وسنة عادية كما قسموا التشريعية إلى أقسام مختلفة عبروا عنها أحيانًا بشخصيات الرسول (١).
[جـ]- الفِقْهُ، تَعْرِيفُهُ:
كلمة «الفقه» كانت موجودة في كلام العرب قبل الإسلام، لا بالمعنى الاصطلاحي الذي اكتسبته في الإسلام، إذ لم يكن لديهم ما يمكن أن تطلق عليه، ولهذا أيضًا لم يوجد عندهم من يطلق عليهم «الفقهاء» وإنما كانت الكلمة تستعمل بمعنى العلم بالشيء وتفهمه والوصول إلى أعماقه. قال تعالى: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ (٢) أي يعلموا المراد منه ويفهموه.
وقد فرق الآمدي بين العلم والفهم فقال: «الفَهْمُ عِبَارَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهْيِئَتِهِ لِاقْتِنَاصِ كُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ المَطَالِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ المُتَّصِفُ بِهِ عَالِمًا كَالعَامِّيِّ الفَطِنِ» (٣) أما ابن القيم فإنه يجعل الفقه في درجة أعلى من الفهم فيقول: «وَالفِقْهُ أَخَصُّ مِنْ الفَهْمِ، وَهُوَ فَهْمُ مُرَادِ المُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ فَهْمِ وَضْعِ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ، وَبِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ النَّاسِ فِي هَذَا تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُمْ فِي الفِقْهِ وَالعِلْمِ» (٤).
_________
(١) انظر " الفروق " للقرافي: ١/ ٢٠٥، ٢٠٩، ومقال المرحوم الشيخ شلتوت. بمجلة " الرسالة " في ٣٠ مارس ١٩٤٢ وللشيخ الخضر حسين نقد له نشر بمجلة " الهداية الإسلامية " في العددين جمادى الآخرة ١٣٦١ هـ ورجب وشعبان من العام نفسه، وانظر " دروس في فقه الكتاب والسنة - البيوع منهج وتطبيقه " للمرحوم محمد يوسف موسى.
(٢) [طه: ٢٧ - ٢٨].
(٣) " الإحكام " للآمدي: ١/ ٧.
(٤) " إعلام الموقعين ": ١/ ٢٦٤.
1 / 19
ثم خصت الكلمة في الاصطلاح «بِالْعِلْمِ الحَاصِلِ بِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ [الفُرُوعِيَّةِ] بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ» (١) وهذا التعريف بجعل الفقه صفة علمية للإنسان، ولكننا عندما نقول: «إِنَّ الفِقْهَ الإِسْلَامِيَّ يَتَّسِمُ بِالمُرُونَةِ وَالشُّمُولِ»، فإننا نعني بالفقه حينئذٍ «مَجْمُوعَةَ الأَحْكَامِ العَمَلِيَّةِ وَالمَشْرَوعَةَ فِي الإِسْلَامِ» (٢).
وهذا التجديد الاصطلاحي لكلمة الفقه، لم يتم فجأة وإنما استغرق وقتًا كافيًا تقلبت فيه الكلمة في مراحل مختلفة قبل أن تنتهي إلى هذا الاصطلاح، فقد وجدنا علماء القرنين الأول والثاني يطلقون كلمة الفقه على ما يشمل موضوعات الزهد وعلم الكلام: فَقَدْ رَوَى " الدَّارِمِيُّ " بِسَنَدِهِ عَنْ عِمْرَانَ المِنْقَرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ يَوْمًا فِي شَيْءٍ قَالَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، لَيْسَ هَكَذَا يَقُولُ الفُقَهَاءُ. فَقَالَ: «وَيْحَكَ وَرَأَيْتَ أَنْتَ فَقِيهًا قَطُّ؟، إِنَّمَا الفَقِيهُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ، البَصِيرُ بِأَمْرِ دِينِهِ، المُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ» (٣).
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (*)، قَالَ: قِيلَ لَهُ: «مَنْ أَفْقَهُ أَهْلِ المَدِينَةِ؟»، قَالَ: «أَتْقَاهُمْ لِرَبِّهِ [﷿]» (٤).
كَمَا رَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ﵁ قَالَ: «إِنَّ الفَقِيهَ حَقَّ الفَقِيهِ، مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَعْ القُرْآنَ رَغْبَةً عنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَلَا عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيهِ، وَلَا قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا» (٥).
وقد استمر عدم التحديد هذا حتى منتصف القرن الثاني، فقد رأينا أن أبا حنيفة ألف في العقائد ما سمي بـ " الفقه الأكبر ".
_________
(١) " الأحكام " للآمدي: ١/ ٧.
(٢) " المدخل الفقهي العام " للزرقا: ص ٢٤، ٢٥.
(٣): (٥) " سنن الدارمي ": ١/ ٨٩.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، انظر " السنن "، الدارمي (ت ٢٥٥ هـ)، تحقيق حسين سليم أسد الداراني، حديث رقم ٣٠٣، ١/ ٣٣٨، (حاشية ١)، الطبعة الأولى: ١٤٢١ هـ - ٢٠٠٠ م، دار المغني للنشر والتوزيع - المملكة العربية السعودية.
1 / 20
وفي تحقيق هذا التطور التاريخي لكلمة «الفِقْهِ» يقول الغزالي: «وَلَقَدْ كَانَ اسْمُ الفِقْهِ فِي العَصْرِ الأَوَّلِ مُطْلَقًا عَلَى عِلْمِ الآخِرَةِ، وَمَعْرِفَةِ دَقَائِقِ وَآفَاتِ النُّفُوسِ وَمُفْسِدَاتِ الأَعْمَالِ، وَقُوَّةِ الإِحَاطَةِ بِحَقَارَةِ الدُّنْيَا، وَشِدَّةِ التَّطَلُّعِ إِلَى نَعِيمِ الآخِرَةِ، وَاسْتِيلَاءِ الخَوْفِ عَلَى القَلْبِ» إلى أن قال: «وَلَسْتُ أَقُولُ إِنَّ اسْمَ الفِقْهِ لَمْ يَكُنْ مَتْنًا وَلَا لِلْفَتَاوَى فِي الأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ العُمُومِ وَالشَّمُولِ لَا بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ كَمَا حَدَثَ فِي العُصُورِ المُتَأَخِّرَةِ» (١).
وقد لاحظ بعض العلماء هذه الإطلاقات المتعددة لكلمة الفقه، فوضع تعريفًا يمكن أن يشملها فقال: «الفِقْهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا» وهذا يشمل الاعتقاديات والوجدانيات، فإذا أضفت إلى التعريف كلمة (عَمَلًا) خرج علم الكلام والتصوف (٢).
مَرَاحِلُ التَّطَوُّرِ لِلْفِقْهِ الإِسْلاَمِيِّ: (٣).
لا شك أن العرب قبل الإسلام كانت لهم طقوس دينية، وعادات اجتماعية، وعلاقات تجارية وحربية، وبعض هذه العلاقات والعادات والطقوس بقايا دين إبراهيم وإسماعيل - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - ورثها العرب عن آبائهم مشوهة أو صحيحة وبعضها أملته عليهم طبيعة البيئة البدوية التي يعيشون فيها، وبعض ثالث كان نتيجة احتكاكهم بالأمم المجاورة لهم وتأثرهم بها في بعض شؤون حياتهم. هذه العادات والأعراف المختلفة المصادر كان لها قوة القانون، بل كانت هي القانون النافذ فيهم فلما جاء الإسلام ألغى
_________
(١) انظر " إحياء علوم الدين " للغزالي: ١/ ٢١ - ٢٨. المطبعة الأزهرية المصرية ١٣١٦ هـ.
(٢) انظر " التوضيح على التنقيح " لصدر الشريعة: ١/ ٦٨. المطبعة الخيرية بمصر ١٣٠٦ هـ.
(٣) انظر " موسوعة جمال عبد الناصر في الفقه الإسلامي ": الجزء الأول، فقد صدر ببحوث قيمة في كل نواحي الفقه: من ص ٩، ٥٩.
1 / 21