فقه العبادات على المذهب الشافعي
فقه العبادات على المذهب الشافعي
Türler
[مقدمات]
1 / 1
مقدمة هذه الطبعة [الخامسة]
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد هذه هي الطبعة الخامسة من كتاب فقه العبادات على المذهب الشافعي بعد أن كتب الله له القبول فنفدت طبعاته السابقة جميعها دون أن يطرأ عليها تعديل أو تغيير رغم توق النفس للارتقاء بالعمل نحو الكمال ورغم دافع تحري المزيد من النفع بالكتاب لكن لم ييسر الأمر قبل الآن وأذن الله بذلك ويسره في هذه الطبعة فكان ثمة عودة ممحصة لمحتوى الكتاب شملت المادة الفقهية من جوانب متعددة وطريقة العرض والتصنيف في بعض المواضع والاستدلال من حيث شموله وتوثيقه والشروح اللغوية للغة الكتاب ولغة الأدلة وضبط بعض المفردات بالشكل حيث يقتضي الأمر ذلك وتلا التمحيص جهد بذل وأدى إلى خطوة نحو الأفضل في الجوانب المذكورة فمن حيث المادة الفقهية شمل التعديل تجاوز بعض المسائل نادرة الحدوث وعدل حكم كراهة التحريم حيث ورد إلى كراهة فحسب أو حرمة إذ لم يرد عن الشافعي أصلا تدرج في حكم الكراهة إنما جاء ذلك عن المتأخرين من فقهاء المذهب المجتهدين فرأيت الانحياز إلى أصل الحكم في المذهب كما شمل التعديل في المادة الفقهية تجاوز بعض ما ورد في هوامش الطبعة الأولى من النص على حكم العديد من المسائل في المذاهب الأخرى فاقتصرت في هذه الطبعة على تثبيت الحكم في تلك المذاهب في المواضع التي قد تلجئ إلى التقليد فحسب وفي كتاب الحج أضيفت مصورات ومخططات جدية مشروحة لتجلية مواضع وأعمال النسك إلى جانب المادة المقروءة لتكون معينا في إدراك حرة الحاج خلال أداء المناسك ويكون الكتاب دليلا ومرشدا لمن يريد أداء هذا النسك للمرة الأولى أما من حيث طريقة العرض والتصنيف فقد نال هذا الجانب قسطًا وفيرًا من العناية والاهتمام في الطبعة الأولى فما كان من التعديل في هذا الجانب في هذه الطبعة سوى تعديلات طفيفة في مواضع محدودة بهدف خدمة الغرض من العنونة والتقسيم والتصنيف وهو الحصول على مزيد من الفائدة بأقصى ما يمكن من اليسر والسهولة وأما من حيث الاستدلال فقد أضيفت بعض الأدلة لمواضع كان ينقصها الاستدلال واضطررت للعودة لطبعات حديثة لتخريج الأحاديث الشريفة من مصادرها لعدم توفر الطبعة القديمة في الأسواق وكان ثمة عودة لتخريج الأحاديث الواردة جميعها من الطبعات الحديثة لتسنى للراغب العودة إليها إن أراد ثم رأيت اتباع طريقة جديدة في التخريح تمكن من أراد من العودة إليه في مصدره بيسر وسهولة رغم تغير الطبعات وأرقام الصفحات حيث ذكرت إلى جانب اسم المصدر رقم الجزء أولًا (ج ١، ج ٢) يليه اسم الكتاب (كتاب الطهارة كتاب الصلاة ...) ثم رقم الباب في الكتاب (باب ١٥ باب ٣٠) وأخيرا رقم الحديث في الباب أو الكتاب حسب طريقة المؤلف في ترقيم الأحاديث أما في المصادر التي لم يعتمد فيها هذا التصنيف فقد اكتفيت بذكر رقم الجزء والصفحة فقط (ج ١ ص ٢٥) بعد اسم المصدر أما من حيث الشروح اللغوية وضبط الكلمات الملتبسة بالشكل فقد تمت العودة للمعاجم المختصة وكتب شروح الحديث الشريف وكتاب النهاية في غريب الحديث وفي هذا الميدان أضيفت ثورة إلى الكتاب إلى جانب ما حوته الطبعة الأولى منها حيث حاولت في هذه الطبعة استقصاء كل ما غمض أو أشكل.
بعد هذا الجهد المتواضع أرى أن الكتاب أصبح بحلة أفضل وذا نفع أكبر. أسال الله أن يقبله عملا خالصا لوجهه وأن يحقق به المزيد من النفع لعباده وأسأل مسلمًا انتفع به دعاء أخر في ظهر الغيب.
والحمد لله رب العالمين
- ٢٦ رمضان ١٤٠٩ هـ ١/٥/ ١٩٨٩
1 / 3
مقدمة الطبعة الأولى
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأطيب الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد فهذا نتاج متواضع في فقه العبادات على المذهب الشافعي أضعه بين يدي الراغب في معرفة أحكام الفقه العملية الضرورية في أداء العبادات على الوجه الصحيح وقد قمت بجمع مادته مما تلقيته عن أستاذي في علم الفقه المرحوم الشيخ عبد الكريم الرفاعي كرم الله مثواه وجزاه عني كل خير ثم عدت إلى عدد من الكتب الفقهية في المذهب الشافعي فجمعت بين هذا وذاك مع الحرص على تجنب الخوض في المسائل النادر وقوعها والفروع المطولة التي قد يحتاجها المتخصص في علم الفقه دون الراغب في منهج عملي مبسط للتطبيق اليومي والذي قد تمله التفريعات فيرغب عن دراسة الفقه كلها من أجل ذلك لجأت إلى تبويب أبحاث الكتاب وتصنيفها بحيث يسهل على الدارس حفظها وتطبيقها بيسر فاستعنت بالترقيم وغيره من أساليب الكتب المدرسية وابتعدت عن الاستطرادات المملة ما أمكن إلى حيث دعت الحاجة وحرصا على دقة الأحكام الفقهية الواردة عدت فعرضت أبحاثه جميعا على الشيخ محي الدين الكردي حفظه الله فراجعها وعلق عليها شكر الله له كما حرصت على الاستدلال لمعظم الأحكام الواردة فيه بالقرآن الكريم والسنة المطهرة من مصادرها المعتمدة ابتداء بصحيحي البخاري ومسلم وانتهاء بكتب الدارقطني والبيهقي مع الإشارة إلى مصدر الدليل وأخيرا أقدم هذا الكتاب على استحياء ألا يكون قد قارب الكمال في الدقة والصحة ولكنه جهد المقل، الراغب في خدمة هذا الدين فأرجو المولى ﷿ أن يتقبل مني عملي وينفع به ويجزي عني عظيم الخير كل من أعانني على تأليف هذا الكتاب والله من وراء القصد
1 / 5
محمد بن إدريس الشافعي ﵁
1 / 6
لمحة عن حياته
1 / 7
نسبه:
1 / 8
- هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف جدُّ جدِّ النبي ﷺ وشافع هذا صحابي من أصحاب رسول الله ﷺ وأبوه السائب الذي أسلم يوم بدر وأمه يمانية من الأزد وكانت من أذكى الخلق فطرة
1 / 9
مولده ونشأته:
1 / 10
- ولد عالمنا في غزة من أرض فلسطين سنة خمسين ومائة للهجرة (١٥٠) وهي سنة وفاة الإمام الأعظم أبي حنيفة ﵁ وليست غزة موطن آبائه وإنما خرج أبوه إدريس إليها في حاجة فولد له محمد ابنه ومات هناك.
توفي والده وهو صغير لا يتجاوز العامين، فذهبت به أمه إلى مكة، وقد آثرت أن تهجر أهلها الأزد في اليمن وتحمل طفلها إلى مكة مخافة أن يضيع نسبه وحقه في بيت مال المسلمين من سهم ذوي القربى، وكانت هذه أول رحلة في حياة هذا الطفل التي كانت كلها رحلات.
نشأ الشافعي في مكة وعاش فيها مع علو وشرف نسبه عيشة اليتامى والفقراء والنشأة الفقيرة مع النسب الرفيع تجعل الناشئ يشب على خلق قويم ومسلك كريم فعلو النسب يجعله يتجه إلى معالي الأمور والفقر يجعله يشعر بأحاسيس الناس ودخائل مجتمعهم، وهو أمر ضروري لكل من يتصدى لعمل يتعلق بالمجتمع.
وقد بدت عليه علائم النبوغ والذكاء الشديدين منذ الصغر، حتى إن معلم الكتاب قبل دخوله فيه دون أجر، مقابل حلوله محله في تعليم الصبيان أثناء غيابه. وكان قوي الذاكرة، فقد قيل: إنه ما نسي شيئا حفظه أبدا.
1 / 11
طلبه للعلم ومنزلته العلمية:
1 / 12
- حفظ الشافعي القرآن وهو ابن سبع سنين، وجوده على مقرئ مكة الكبير إسماعيل بن قسطنطين، وأخذ تفسيره من علماء مكة الذين ورثوه عن ترجمان القرآن ومفسره عبد الله بن عباس ﵄. ثم اتجه بعد حفظه القرآن لاستحفاظ أحاديث رسول الله ﷺ.
وقد أولع منذ حداثة سنه بالعربية، فرحل إلى البادية يطلب النحو الأدب والشعر واللغة، ولازم هُذيلا عشر سنوات يتعلم كلامها وفنون أدبها وكانت أفصح العرب فبرز ونبغ في اللغة العربية وهو غلام. قال الأصمعي - ومكانته في اللغة مكانته -: "صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس" وفي مكة كان يتردد على المسجد يسمع من العلماء بشغف شديد. وكان في ضيق العيش بحيث لا يجد ثمن الورق الذي يدون عليه، فكان يعمد إلى التقاط العظام والخزف والدفوف ونحوها ليكتب عليها، وكان يقول: "ما أفلح في العلم إلى من طلبه في القلة، ولقد كنت أطلب ثمن القراطيس فتعسر علي".
ولم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من العمر حين صار أستاذه مسلم بن خالد الزنجي - إمام أهل مكة ومفتيها - يقول له: "أفت يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي" وهكذا اجتمع له في مكة النبوغ في اللغة والفقه والتفسير. ولكن همته في طلب العلم لم تقف به عند هذا الحد، فقد جاهد في سبيله فكان كثير الترحال. وكان العلماء والفقهاء في ذلك العصر يشدون الرحال إلى المدينة ليروا عالمها المشهور مالك بن أنس ﵁، وكان مالك صاحب مجلس في الحرم النبوي، لم يطرق الخلفاء بابه، ويحسبون حسابه وطرقت أخبار الإمام مالك أسماع عالمنا الشافعي فاشتاق لرؤيته، وتلهف لسماع علمه، فحفظ كتابه الموطأ ورحل إلى يثرب، وهناك لم يستطع أن يظفر بالوصول إلى باب مالك إلا بعد لأي وجهد، ونظر إليه مالك، وكانت له فراسة، فقال له: "يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فسيكون لك شأن من الشأن"، وفي رواية: "إن الله ﷿ ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعاصي" ثم قال له: "إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك" قال الشافعي: "فقلت أنا قارئ فقرأت عليه الموطأ حفظا، والكتاب في يدي، فكلما تهيبت مالكا وأردت أن أقطع، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى زد. حتى قرأته عليه في أيام يسيرة. وقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام" وبعد أن قرأ على مالك موطأه، لزمه يتفقه عليه ويدارسه المسائل التي يفتي بها الإمام الجليل وتوطدت الصلة بينه وبين شيخه، فكان مالك يقول: "ما أتاني قرشي أفهم من هذا الفتى". وكان الشافعي يقول: "إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمن علي من مالك". ولكن يبدو أم ملازمته لمالك ﵁ لم تكن بمانعة له من السفر والاختبارت الشخصية، فكان يقوم بين وقت وآخر برحلات في البلاد الإسلامية، كما كان يذهب إلى مكة يزور أمه ويستنصح بنصائحها.
وبعد مضي عشر سنوات على إقامته في المدينة توفي الإمام مالك. وأحس الشافعي أنه نال من العلم أشطرا، فاتجهت نفسه إلى عمل من أعمال الدولة يتكسب به، بعد أن رهن داره، وعجزت أمه عن معونته، فتولى عملا بنجران من اليمن، وهناك طفق يتردد على حلقات العلم، ويأخذ عن كبار العلماء فيها، إلى أن وقع بينه وبين والي اليمن أثناء عمله شيء (بسبب ما أخذه عليه من الظلم) فوشى به الوالي إلى الخليفة هارون الرشيد، الذي أمر بإحضاره إلى بغداد، (وفي محنته تفصيل سيأتي) ولعل هذه المحنة التي نزلت به قد ساقها الله تعالى إليه ليصرف اهتمامه عن الولاية ونحوها، ويعود للاتجاه بكليته نحو العلم وخرج الشافعي ﵁ من التهمة التي نسبت إليه ليطبق علمه وشهرته الآفاق، فقد أصبح محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة الذي آلت إليه رياسة الفقه في العراق أستاذًا للشافعي، تلقى عنه فقه أهل الرأي، ولما كان قد أخذ فقه أهل الحديث عن مالك الذي آلت إليه رياسة الفقه في المدينة فقد خرج من هذين المذهبين بمذهب يجمع بينهما، وهو مذهبه القديم المسمى بكتاب الحجة (رواه عنه العديد من العلماء، وكان الزعفراني أتقنهم له رواية وأحسنهم له ضبطًا) ثم قفل عائدا إلى مكة وفي جعبته علوم أهل الأرض في ذلك العصر بعد أن مضى عامان على إقامته في بغداد، وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكي، والتقى به أكبر العلماء في موسم الحج، فكانوا يرون فيه عالما هو نسيج وحده، وفي هذه الأثناء التقى به أحمد بن حنبل، قال اسحق بن راهويه: "لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال: تعال أريك رجلا لم تر عيناك مثله، فأراني الشافعي. قال: فتناظرنا في الحديث فلم أر أفقه منه، ثم تناظرنا في القرآن فلم أر اقرأ منه، ثم تناظرنا في اللغة وما رأت عيناي مثل قط" ومكث في مكة تسع سنوات كاملة - وهو الذي عهدناه صاحب سفر وترحال - ليصفوا له الجو لاستخراج قواعد الاستنباط بعيدا عن ضوضاء العراق وتناحر الآراء فيها، وألف كتاب الرسالة في علم أصول الفقه.
ثم ارتحل ثانية إلى بغداد، وقد سبقته شهرته إليها، وتحدث بذكره المحدثون والفقهاء، ولقب فيها بناصر الحديث، وأخذ ينشر آراءه الفقهية الأصولية ويجادل على أساسها. وعقد في الجامع الغربي في بغداد حلقات العلم والفقه، وأمه المتعلمون والعلماء، منهم الممتحن، ومنهم المستمع، ومنهم المتعد بمذهبه الساخر بهذا المتفقه الجديد على زعمه، فما يكادون يجلسون إليه ويستمعون له حتى يرجعوا عن قولهم ويتركوا ما كانوا فيه، ويتبعوه، وما زال الشافعي يصول ويجول، ويأتي كل يوم بجديد من فهم كلام الله، وفقه حديث رسول الله ﷺ حتى حمل العلماء على الإقرار بعلمه وظهر أمره بين الناس، وانفكت حلقات المخالفين، حتى إن أحدهم قال: "قدم الشافعي بغداد وفي الجامع الغربي عشرون حلقة لأصحاب الرأي، فلما كان يوم الجمعة لم يثبت منها إلا ثلاث حلق أو أربع" وفي هذه القدمة، التي دامت عامين، أعلن ﵁ كتبه وقد أنضجها الدراسة والمراجعة، ونشرها بين صحابته.
وتكررت رحلات الشافعي بين مكة وبغداد، وكانت خاتمة رحلاته إلى مصر التي كان الدافع إليها ميله للابتعاد عن مركز الخلافة والسياسة، وذلك بناء على دعوة والي مصر له وانتهى به المطاف هناك، وأملى مذهبه الجديد في كتابه " المبسوط" الذي اشتهر فيما بعد باسم كتاب الأمر وأعاد النظر في آرائه وكتبه ومؤلفاته، فجدد بعضها، ونسخ بكتابه المصري كتابه البغدادي، (المذهب الجديد هو المعتمد، وعليه العمل، إلا أن هناك مسائل معينة قد اختارها فقهاء المذهب من القديم، ورجحوا الإفتاء بها، وتركوا الجديد فيها، ولقد أحصاها بعضهم بأربع عشرة مسالة، وبعضهم باثنتين وعشرين مسالة، وهي منثورة في كتب المذهب) وقال ﵁: "لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي"
وكان الناس في مصر على مذهب الإمام مالك فقدموا الشافعي واستمعوا إليه وافتتنوا به. وقصده كثيرون من الشام واليمن والعراق وسائر الأقطار للتفقه عليه.
وهكذا توالت الشهادات بمكانة الشافعي من العلم في عصره، وأجمع شيوخه وقرناؤه وتلاميذه على أنه كان علما بين العلماء لا يجارى، ولئن تجاوزنا هذه الشهادات لنجدن شهادة أقوم دليلا هي ما تركه من آثار من أقوال مأثورة أو فتاوى منثورة، أو رسائل كتبها، أو كتب أملاها، (الكتب التي تركها الشافعي قسمان:
-١) قسم يذكره المؤرخون منسوبًا للشافعي، مثل كتاب الأم والمرجح أنه دونه بنفسه، وكتاب الرسالة
-٢) قسم يذكرونه منسوبًا إلى أصحابه على أنه تلخيص لكتبه، مثل مختصر البويطي ومختصر المزني وللشافعي ﵁ في القسم الأول المعنى والصياغة، وله في الثاني المعنى فقط. وقد ذكر الرواة طريقة تأليفه للكتاب، فبعضه يكتبه بنفسه، وبعضه كان يمليه، وينسخ عنه تلاميذه ما يكتب ويقرؤونه عليه) ففي كل ذلك دليل على مقدار علمه ومواهبه، فقد كان أكبر من أديب وأكثر من فقيه.
وكان مجلسه للعلم جامعا للنظر في عدد من العلوم، قال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي ﵀ يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا، وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا، فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر فإذا ارتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار"
لقد بوركت نبوءة نصلى الله عليه وسلم في الشافعي حين قال: (اللهم اهد قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما) (الجامع الصغير ج ١ /ﷺ ٥٦ عن أبي هريرة ﵁، حديث حسن للخطيب وابن عساكر في التاريخ)
1 / 13
العوامل التي هيأته للنبوغ العلمي:
1 / 14
١ - مواهبه وصفاته:
1 / 15
- لقد آتى الله الشافعي حظا من المواهب يجعله في الذروة الأولى من قادة الفكر وزعماء آراء:
فقد كان قويا في كل قواه العقلية، مما جعل تلميذه بشر المريسي يقول: "مع الشافعي نصف عقل أهل الدنيا" وكان حاضر البديهة، عميق الفكرة، بعيد المدى في الفهم، فكانت دراسته طلبا للكليات والنظريات العامة.
_وكان قوي البيان واضح التعبير، أوتي مع فصاحة لسانه وبلاغة بيانه صوتا عميق التأثير يعبر بنبراته، وقد سماه ابن راهويه: خطيب العلماء.
-وكان نافذ البصيرة في نفوس الناس، قوي الفراسة، كشيخه مالك، في معرفة أحوال الرجال وما تطيقه نفوسهم، وكان هذا سببا في أن التف حوله أكبر عدد من الصحاب والتلاميذ وكان صافي النفس من أدران الدنيا وشوائبها، لذلك كان مخلصا في طلب الحق والمعرفة، يطلب العلم لله، ويتجه في طلبه إلى الطريق المستقيم، فإذا اصطدم إخلاصه مع ما يألفه الناس من آراء أعلن آراءه في جرأة وقوة وقد بلغ من زهده في جاه العلم وإخلاصه لطلب الحق أنه كان يقول: "وددت أن الناس تعلموا هذا العلم، لم ينسب إلي شيء منه فأوجر عليه ولا يحمدوني" وما كان يغضب في جدال، ولا يستطيل بحدة لسان في نزلا، لأنه يبغي الحق في جدله، يقول ﵁: "ما ناظرت أحدا قط على الغلبة، وددت إذا ناظرت أحدا أن يظهر الحق على يديه" ولقد أكسبه الإخلاص ذكاء قلب، ونبل غرض، وتباعدًا عن الدنايا.
وكان شديد التشبث بحديث رسول الله ﷺ، يقول الربيع: سمعت الشافعي يقول: "ما من أحد إلا وتغيب عنه سنة لرسول الله ﷺ وتغرب، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله ﷺ خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله ﷺ وهو قولي" وجعل يردد هذا الكلام
1 / 16
٢- شيوخه:
1 / 17
- تلقى الشافعي الفقه والحديث على شيوخ تباعدت أمكنهم، وتخالفت مناهجهم، فجمع فقه أكثر المذاهب التي كانت في عصره، (وقد روى عن كثير من المشايخ، أشهرهم تسعة عشر: خمسة مكية، وستة مدنية، وأربعة يمانية، وأربعة عراقية) وتلقى فقه مالك عليه، وتلقى فقه الأوزاعي عن صاحبه عمر بن أبي سلمة من أهل اليمن، وتلقى فقه الليث بن سعد فقيه مصر عن صاحبه يحيى بن حسان، ثم تلقى فقه أبي حنيفة عن محمد بن الحسن فقيه العراق، وبذلك يكون قد برع في مدرسة الحديث في المدينة، ومدرسة الرأي في العراق. وكان ثمة مدرسة ثالثة تعنى بتفسير القرآن، وهي مدرسة مكة التي اتخذها ابن عباس ﵄ مقاما له، وقد جعل الشافعي ابن عباس مثله الكامل، وترسم خطاه، وسار في مثل سبيله. وانساغ كل ذلك العلم الكثير في نفس الشافعي، فكان منه ذلك المزيج الفقهي المحكم، الذي تلاقت فيه كل النزعات منسجمة متعادلة، متآلفة النغم، وتولدت منه تلك المعاني الكلية، فقدمها للناس في بيان رائع وقول محكم.
1 / 18
٣- دراساته الخاصة وتجاربه:
1 / 19
- كان ﵁ مع اتصاله بشيوخه في مكة والمدينة محبًا للرحلة، ولا شك أن الأسفار تفتق الذهن وترهف الحس فوق ما تعطيه للفقيه من مادة وخبرة. وكان يتصل خلال رحلاته بالشيوخ، ويدارس العلماء، ويأخذ منهم ويعطيهم، ولم يقتصر على فقهاء الجماعة الذين دخلوا في طاعة الخلفاء، بل درس آراء غيرهم، فكان يطلب العلم أنى وجده، لا يهمه الوعاء الذي حمله إليه، بل يهمه ما في الوعاء
1 / 20