فقال فريد: والله يا شيخ إن هذا البحث لهو مما يعجز عنه فهمي الآن، ولعل ما وعدت به من البيان في المستقبل يزيل عن عيني بعض الغشاوة، ولقد قال شيخنا فيما قال بمناسبة حادثتي مع فريدة، وكيف أن حبي لها تحول إلى بغض وحقد واحتقار تلاه عدم مبالاة واهتمام؛ مما فهمت منه حسب قولك أن قوتها السلبية كانت في الأول متغلبة على قوتي الإيجابية، ثم بفعل الحوادث والظروف وما شاكل انقلبت الآية وأصبحت أنا المتغلب، ثم إن صديقي سأل عن حقيقة التوازن السلبي والإيجابي فأجبته بما يؤكد حقيقة التوازن، ثم قلت: حفظك الله، إن التحول يجري إذا تحولت كفة الميزان من جهة لأخرى، فبناء على ما تقدم فلا بد للتحول من تغلب السلبي على الإيجابي، أو الإيجابي على السلبي، فإذا تغلب عامل على عامل كان ثم طبعا زيادة في هذا ونقص في ذاك، فأين التوازن مع هذا؟
فنظر الشيخ إلى فريد مليا متأملا، ثم بدت على وجهه علامات البشر، وقال: يسرني جدا منك يا فريد أن أسمع منك مثل هذه الأسئلة مما يدلني على تتبعك للحديث بكل اهتمام وتبصر واستيعاب؛ لذا أقول لكما ولو خالف ظاهر قولي المعقول إنه رغم تغلب عامل على عامل، ورغم النقص في هذا والزيادة في ذاك ورجحان كفة هذا على ذاك، يبقى التوازن بين السلبي والإيجابي محفوظا متساويا كما سأشرح لكما هذا غدا، وتريان مما تقدم أن التحول والانقلاب هو سنة طبيعية تشمل جميع أجزاء الكون سيان في ذلك الأرض والنجوم والممالك الثلاث، وهي ظاهرة أيضا في الإنسان بأجلى مظاهرها إن كان بجسمه أو بروحه، بأعماله أو أفكاره؛ لذا فهو لا يطيب له العيش إلا بالتحول والانتقال والتغير على قدر ما به من الحياة. ولله در من قال:
يطلب الإنسان في الصيف الشتا
فإذا جاء الشتا أنكره
ليس يرضي المرء شيء واحد
قاتل الإنسان ما أكفره
والآن، فإني أستودعكما المولى وهو نعم الوكيل، فإلى الملتقى يا صاحبي. قال هذا وهم بالابتعاد، فقام إليه نجيب ووضع في يده بعض الشيء ثم حياهما وشكر وسار.
الفصل السادس
تأثير الكائنات بعضها على بعض، وتأثير الممالك الثلاث بأجزائها بعضها على بعض. ***
بقي نجيب وفريد جالسين على مقعدهما بعد ذهاب الشيخ؛ لأن الوقت كان متسعا أمامهما، فالغد كان أحدا وهو يوم عطلة وليس عندهما من الأعمال ما يدعوهما إلى الإسراع. فقال فريد لنجيب: إن شيخك يا صاح لهو نابغة حقيقة، فقد استصغرت نفسي أمامه إلى حد العدم مع أني ولا أخفي عليك لما شاهدته لأول مرة لم أسعره بقرش، فصحيح أن من يحكم على الظواهر يخطئ، ولكن مما يصعب علي فهمه أن هذا الرجل رغم معارفه الواسعة ورأسه المفكرة المملوءة بالحكمة يبقى هكذا هائما على وجهه ينام في العراء متوسدا الغبراء وملتحفا السماء، ليس له مكان يأوي إليه، يتنقل بأطماره البالية من بلد إلى بلد يستجدي أكف المحسنين، مع أنه - وأني واثق من هذا - باستطاعته بعمل واحد أن يشهر ذاته فيلفت إليه الأنظار، فينال مكانا رفيعا ويعيش سعيدا متنعما فيفيد نفسه وينفع الغير.
Bilinmeyen sayfa