أرغب أن أصور لهم صورة يرون فيها معايبهم؛ فيصلحونها، ولا أرغب أن أغشهم بتصوير الناس صورة جملية، ولكنها مخالفة للحقيقة.
وليعلم القارئ الكريم، أن فن الروايات منقسم إلى قسمين؛ القسم الأول يسمونه «رومانتيك»؛ أي روايات خيالية، والقسم الثاني يسمونه «ريالستيك»؛ أي روايات حقيقية، فالأولى هي التي تصور البشر كما يجب أن يكونوا، لا كما هم في الحقيقة، والثانية تمثل البشر كما هم بنقائصهم ومعايبهم ومخازيهم، وأشهر كتاب الخيال السير ولترسكوت القصصي الإنجليزي وإسكندر ديماس وماكس بمبرتون وغيرهم، وطريقة كتاب القصص الخيالية هي أن يجلس الكاتب في غرفته، ويتخيل الحقول الخضراء، والحدائق الغناء، وغدران الماء، والطيور المغردة، والليالي المقمرة، والأبطال الشجعان، والنساء الجميلات، والغزل والغرام، والشكوى والجفاء واللقاء، ثم يكتب قصته. وأما طريقة كتابة الروايات الحقيقية هي أن يلبس الكاتب ملابسه أو يتزيى بغير زيه، ويتجول في الطرق والأزقة، ويدخل المجتمعات والمحطات، ويرقب حركات الناس في ملاعب القمار والحانات والحدائق العمومية، ويبقى طول ليلته هائما في الطرق؛ يدرس الأخلاق والطبائع والعادات، وهو فيما بين تلك الأشياء يقيد ما يراه ويسمعه ويدرسه، ثم يجلس ويكتب قصته ويسبك فيها كل ما رآه وسمعه.
وكل الكتاب في أوائل القرن التاسع عشر وما قبله، كانوا يميلون للطريقة الخيالية؛ لسهولتها ورواج رواياتها، وينفرون من الطريقة الثانية؛ لصعوبتها ونفور القراء منها. ومثل نفور القراء من الروايات الحقيقية؛ كمثل القبيح يقف أمام المرآة ويرى قبح وجهه فيكذب المرآة ويطلب غيرها تريه نفسه جميلا.
وكان أول من هدم أساس الخيال وشاد صروح الروايات الحقيقية الكاتب القصصي الفرنسوي الشهير «هو نوردي بلزاك»، الذي ولد في أواخر القرن الثامن عشر، ومات في أوائل القرن التاسع عشر، وهو أول من بدأ بكتابة قصصه على الطريقة الحقيقية، وأول من بدأ بتحليل أخلاق البشر وقلوبهم تحليلا فلسفيا، وكل ما كان يأخذه عليه أعداؤه هو تصريحه تصريحا يخدش وجه الحياء، ولكن بلزاك لم يعبأ بهم، ولم يرغب أن يجر الذيل على المخازي، بل أراد أن يكشف أمرها ليراها الناس بأعينهم، لعلهم يرجعون عن غيهم، وقد كتب عددا عظيما من القصص، وجمعها تحت عنوان «الكوميدية الإنسانية»؛ أي رواية الإنسانية المضحكة.
وقد سار على خطوات «بلزاك» تلميذه «إميل زولا» الكاتب الفرنسوي الشهير الذي انتقد «لويس أولباك» كتابه المسمى «تريزا راكن» بقوله: «إنه كتاب نتن؛ لأن مؤلفه صرح فيه بما يجب كتمانه.» •••
وبعد أن جالت في رأسي تلك الآراء والأفكار، قمت فسرت في طرق القاهرة، ولم أترك بابا حتى طرقته، وكنت في تلك الأثناء أقيد ما أراه في دفتر صغير، وأكتب ملحوظات عن كل كبيرة وصغيرة، وبقيت على هذه الحال ثلاثة شهور، ثم جلست أكتب قصة عن «الرجل والمرأة»، ولست أقصد بالرجل ذلك الإنسان الذي يعمل ويكد ليربح خبز يومه، إنما أقصد الرجل الساقط الذي أساءت إليه الهيئة الاجتماعية، وجنى عليه أبوه، فأتى يضرب في ديجور هذه الحياة، وما زالت تتهيأ له الأسباب حتى سقط في حضيض الفساد، ولا أقصد بالمرأة تلك المخلوقة التي تهز سرير طفلها وتطبخ لزوجها، إنما أقصد المرأة المسكينة المحتقرة المهانة الظالمة المظلومة التي أجبرها الفقر وألزمتها الفاقة، فباعت عرضها لتأكل بثمنه رغيف خبز يابس!
وقد قصدت الكتابة عن المرأة والرجل؛ لأنه لم يهلني شيء في القاهرة مثل حال الرجل والمرأة وسقوطهما، ومن الغريب أن أفكار الأمة كلها كانت مهيأة لسماع ما يقال في هذا الموضوع، فإنه منذ قليل من الزمان قام «حافظ أفندي عوض» وأخذ يشرح على صفحات المؤيد حال الشاب المصري شرحا وافيا يدل على أننا في حاجة عظيمة إلى الإصلاح، وهاك نبذة مما كتب في المؤيد بهذا الشأن:
إن مثل هذا الموضوع «يعني سقوط الشبيبة واندفاعها مع تيار الفساد الأدبي» لا يصح أن يقال فيه إلا الحقيقة، لا يصح أن نسلك فيه سبيل عشاق الخيال ومحبي الأوهام، بل يجب أن ننهج فيه نهج التصريح بتصوير الحقائق على ما هي، وإن كان تصويرها كذلك غير مألوف على بعض الأذواق، وبذا يمكن أن يقال إننا أبرزنا صورة حالنا الحقيقية، حتى إذا ما ألقى الناظر إليها نظرة، صاح وإن كان جامدا في إحساسه: «هلموا إلى الإصلاح! هلموا إلى الإصلاح!»
انتهى كلام المؤيد، فما أصدق هذا القول وما أجمله!
وبعد ذلك بقليل قرأنا مقالة في الجوائب المصرية في عددها الصادر يوم الأربعاء 17 مايو 1905 تحت عنوان:
Bilinmeyen sayfa