ولم أكن أستطيع أن أقول له شيئا لإن عينى على الطريق. وكان خليل يساعدنى فينظر إلى عداد السرعة ويخبرنى بالرقم الذى نرتقى إليه وينظر فى الساعة كذلك، فيطمئننى أو يزعجنى، وأخى ماض فى هذره حتى بلغنا بنها. ولم أدخلها بل آثرت أن آخذ طريق سيارات النقل لأنه أقصر وإن كان غير ممهد - اجتنابا للبطء الذى نضطر إليه فى شوارع المدينة. وبعد أن اجتزنا الكوبرى الجديد، ثم جسر السكة الحديدية - أو المزلقان كما يسمونه - أطلقت للسيارة العنان فجعل خليل ينظر ويقول: «مائة.. مائة وخمسة. وعشر. وعشرون.. وخمس وعشرون.. امض امض. لا شىء.. هذه دجاجة..».
فقال أخى: «أظنها ذهبت إلى جنتها - جنة الدجاج - قبل الأوان.. أتراه سباقا يا روكسى»؟
وبلغت السرعة مائة وثلاثين كيلو، فلولا أن السيارة كبيرة ومتينة وثابتة لانقلبت بنا وقتلتنا.. ولكن أخى خبير بالسيارات والذى لا يعرفه عنها لا يستحق أن يعرفه أحد. والحق أنها كانت سيارة أصيلة، بل هى السيارة وكفى. لكن بالى لم يكن فى ذلك الوقت إلى شىء من هذا، بل إلى ما بقى من الوقت حتى يصل القطار إلى طنطا أو دمنهور وإلى مبلغ الأمل فى إدراكه قبل أن يبلغ سيدى جابر.
وتأدى إلى صوت أخى يقول: «هل تعلم يا روكسى أن إسماعيل مهمل - يعنينى - أموافق أنت؟ هذا ما كنت أنتظر.. ولكنه ينقصك أن تعلم لماذا.. أتريد أن أسر إليك يا روكسى بالسبب؟ اسمع إذن ولكن لا تخبره.. لقد أردت أن أستعير حقيبته الصغيرة. أقول لك الحق يا روكسى بينى وبينك يا روكسى.. استعرتها فعلا.. ولكنى وجدت أنه أهمل أن يضع فيها المفتاح ولهذا جئت إلى بيت الأخت لعلى أجده فآخذ المفتاح.. أعرف ما تريد أن تقول فإنك ذكى.. بالطبع لم يكن ينتظر أن يعطينى المفتاح.. ولكنى كنت سآخذه على كل حال.. أوه بطريقة من الطرق.. من غير أن يشعر بالطبع..».
وقد هممت مرات أن أصيح به، ولكنى كبحت نفسى فليس هذا وقت الاختلاف على الحقائب.. ولكنه غاظنى مع ذلك أنه أخذها وهو يعلم أن فيها أشيائى، فقد كنت أعددتها لرحلة قصيرة، فلما جاء رسول أختى عدلت وكان ما كان.. ونويت أن أغتنم أول فرصة تسنح لاستردادها. بطريقة من الطرق.. كما يقول.. والبادى أظلم.
ولم أكن أطمع أن أدرك القطار فى طنطا، فلم أستغرب أن أعرف أنه تركها قبل وصولنا بعشر دقائق، واحتجنا إلى البنزين فضيعنا دقائق أخرى، ثم استأنفنا السير بأقصى سرعة لنعوض - سلفا - التأخير الذى لابد منه فى كفر الزيات. واعترانى ما يشبه الحمى، فلم أعد أبالى كيف أقطع الطريق. وكنت ربما صادفت مركبة أو رجلا على حمار أو جمل فأمرق ولا أعنى نفسى باليمين والشمال. ولم يكن الطريق بعد كفر الزيات على خير ما يمكن أن يكون، ولكنى لم أكن أحفل بذلك ولم أترفق بالسيارة. وكان أخى يرى هذه السرعة الجنونية - فقد بلغنا أربعين بعد المائة وأصررنا عليها - فيقول لكلبه: «انظر يا روكسى.. إن الخبيث ينتقم منى - أعنى منا، فإنك شريكى فى كل شىء - لأنى أستعرت حقيبته.. من أجلها يريد أن يفجعنى فى السيارة.. أى والله يا روكسى. فتعال نبك على ما كلفتنا من مال يضيع الآن فى هذه السكة المنحوسة .. ثلاثمائة وخمسون جنيها خرجت عنها من حر مالى.. وماذا يعنيه هو.. يأخذها بلا استئذان، وينحينى عن مجلسى فيها، يردنى إلى الوراء.. هل هذا يليق يا روكسى»؟
ولولا أن خليلا صاح فى هذه اللحظة: «القطار، القطار، سنسبقه يا إسماعيل ... سنسبقه بالتأكيد ... الحمد لله» لمضى أخى فى هرائه. وكنا قد قاربنا دمنهور، فلما بلغنا مدخلها عاد أخى إلى الثرثرة، ولكنى لم أسمع شيئا لأن أذنى كانت تطن. ودنونا من المحطة، فوقفت وفتحت الباب، وقلت لخليل: «انزل.. بسرعة» فشرع يفتح الباب من ناحية وأخى يقول: «ألم أقل لك يا روكسى إنه سباق.. بين السيارة والقطار»؟
ولم أسمع بعد ذلك شيئا لأنى ذهبت أعدو إلى الرصيف الذى يقف عنده القطار. ولم نكد نفعل حتى دخل، فركبت - بلا تذكرة، وماذا يهم؟ - وخليل ورائى. ومشينا خلال المركبات حتى وجدنا أمى وأختى، فانحططت بجانبهما بلا كلام.
ولو كان فى رأسى أو رأس خليل عقل لنزلنا بهما من القطار وعدنا بالسيارة على مهل، ولكنا لم نفكر فى شىء حتى كان القطار فى طريقه إلى سيدى جابر، فأدركنا أننا تعرضنا لغرامة فادحة لم يكن لها داع. وكان فى الوسع اتقاؤها لو عنينا أن نخبر المفتش أو أحدا من رجال القطار أننا راكبون من هنا، وسندفع الأجر فى القطار.. على أن الثقة بأنا أنجينا الفريستين هونت علينا الخسارة.
وقلت لأختى: «هذا زوجك.. البرقية مزيفة، فما الرأى الآن؟».
Bilinmeyen sayfa