ولا أحتاج أن أقول إننا استقبلنا يومنا مكتئبين مهمومين محزونين، فإن للعقد قيمته الذاتية والمعنوية.. وقد كنا نتكلف المرح ونبدى صفحة البشر ونتلقى الأمر بما يشبه الاستخفاف، لأننا اعتدنا أن نواجه الأمور على هذا النحو، وربانا أبوانا على الجلد وضبط الإحساس. أما أحمد فكان بطبيعته هزالا يركب الحياة بالدعابة والبشاشة والعبث، وقد أحبنا وأحببناه وأنس بنا وأنسنا به، فعاش معنا وآثر بيتنا على بيت أبويه، وانتهى الأمر بما كان لابد أن ينتهي به - أي أن يتزوج أختي - ولست أعرف أسرة أخرى تعيش هذه العيشة السعيدة الرغيدة. وحسبك أن المال موفور وأن الطباع رضية والأمزجة متطابقة. •••
ومن عادة أحمد أن يغنى وهو في الحمام. ولست أعنى أنه يغنى الأصوات الشائعة، وإنما أعنى أنه وهو في الحمام يصف كل ما يعمل، ويرفع الصوت بالغناء بهذا الوصف.. فإذا كنت على مقربة من الحمام لم يسعك إلا أن تسمعه يقول - أو يغنى على الأصح: «أين الأسفنجة يا سيدي.. لابد أن تكون هذه الزوجة المهملة قد ضيعتها.. ومن يدرى يا حبيبى.. فعلها خبأتها عمدا.. آه يا روحي.. وأين الكبريت.. أظنني نسيته.. هذا خازوق يا حبيبى.. وكيف أسخن الماء الآن؟ يا لعنة الله انزلي على رأس الذي اخترع التدفئة بالغاز.. آه يا عيني.. والله وحسه.. نجد الكبريت فلا نجد القرش الذي نضعه في الثقب لينطلق الغاز.. ويسخن الماء فلا نجد الأسفنجة.. وأجد كل ذلك وأنام في الحوض، ويبدأ الشعور بالراحة وإذا بالغاز قد فرغ. وأخذ الماء يبرد.. ويجب أن أخرج من الحوض لأضع قرشا آخر في الثقب وأبحث عن الكبريت.. والكبريت مبلول.. معلوم يا سيدي.. أو الكبريت فرغ.. طبيعي.. أصيح.. ومن يسمع.. ألبس البرنس وأخرج لأجيء بكبريت.. خازوق آخر يا حبيبي.. لقد سيبت الغاز مفتوحا.. فالحمام كله غاز.. وستختنق يا ولد إذا لم تفتح النافذة.. افتح يا سيدي وابرد.. وحوح يا حبيبي من البرد.. الذي سمى هذا حماما كان ولا شك ابن حرام».
وهكذا إلى غير نهاية.. ومن تحصيل الحاصل أن أقول إننا اعتدنا أن نقف قرب الحمام كلما دخل فيه أحمد لنعرف ما يجرى فيه، فنقع على الأرض من كثرة الضحك. ولابد أن يحدث له شيء لا يحدث لسواه، لأنه كما أسلفت سريع النسيان.. ينسى أين وضع الإسفنجة وأنه رمى الكبريت فى الحوض، وينسى أنه نسى أن يجيء معه بقروش ليضعها فى الثقب.. فإنه يبقى فى الحوض ساعة وساعتين وهكذا. ولولا أنه نساء لعابثناه عامدين لنضحك، ولكنه أغنانا عن ذلك.
وكان حسن قد استيقظ ونهض ليلحق بنا ويجلس معنا، فألفانا عند الحمام واقفين وإن كانت المقاعد فى الدهليز، فحيا بيده.. فأشرنا إليه أن اسكت.. ورآنا نبتسم وأحس من هيئتنا أننا نتسمع، فمشى على أطراف أصابعه ووقف معنا يصغى أيضا، وكان أحمد يقول: «العقد ضاع.. قال ضاع.. كلام فارغ يا حبيبى.. والله ما أخذه إلا هذا الحرامى الذى نزل فى ضيافتنا.. بالطبع سرقه فى عمر أمه ما رأت مثله الأقارب عقارب يا سيدى.. ضاع العقد يا ستى.. أنا المسكين يا حبيبتي.. هات لى عقد غيره يا سيدي.. طبعا يا ماما.. من يدري.. لعل العقد لم يضع.. أيوه يا سيدي.. لم يضع. الأرجح.. والمعقول أن يكون في الدولاب.. أخفته الزوجة الصالحة لأشترى لها عقدا سواه.. النسوان ملاعين يا روحي. قالوا العقد ضاع.. ضاع فين يا أهل القونطة، لا يا ستى العقد فى الدولاب، والغرض مرض».
وكان يبدئ ويعيد فى هذه المعانى.. فأما حسن فلم يفهم وكان ينظر منى إلى أختى، وكان يرانا نضحك فيتكلف الضحك مثلنا.. وأما أختى فضحكت أولا ثم لما سمعته يتهمها بأنها خبأت العقد لتطالبه بحلية.. تجهمت، فشددت على ذراعها، فنظرت إلى مبتسمة وهزت رأسها، وعاد إلى وجهها الإشراق.. ولكنها لم يسعها إلا أن تقول لنا ونحن نمضى عن الحمام قبل أن يخرج هو علينا: «شف.. ينسى أين وضع العقد ثم يدعى أنى خبأته.. طيب..».
وقال حسن: «ألا تقول ما هى الحكاية»؟
فضحكت، وقلت: «الحكاية باختصار إن أختى لا تجد عقدها.. وأحمد يتهمك بسرقة العقد.. لقد سمعته بأذنك.. والآن أفهمت»؟
وكانت هذه صدمة، فإن معرفة حسن بأحمد يسيرة، وإن كان من أقاربه الأدنين.. ولكنه احتمل هذه الصدمة، وأسرعنا نحن فعرفناه بأساليب قريبه، فضحك معنا. ولكنه مع ذلك صار يطرق من حين إلى حين.
وخرج أحمد أخيرا ودخل علينا وفى يده صحيفة يتأملها وينظر إلى الصور التى فيها فما كانت له عناية بقراءة الصحف. وجلس إلى المائدة وأدار عينه فيما عليها، ثم سأل: «ماذا أعددت لنا يا امرأة»؟
فاغتنمت أختى هذه الفرصة، وصاحت: «ألا تنتظر حتى يستعد الباقون للأكل؟ ما هذه الشراهة؟ ثم كيف تزعم أنى أخفيت العقد لتشترى لى سواه»؟
Bilinmeyen sayfa