كم أحب أن يقرأ الشيخان بعض ما نقرأ، وأن يريا بعض ما نرى، وأن يقدرا نشاط رجال الديانات الأخرى في أنواع العلم على اختلافها، وضروب الأدب على تنوعها، وصنوف الفن على تباينها، حتى لقد زاحموا العلماء والأدباء والفنيين، ولست أغلو إن قلت إن منهم من بذ هؤلاء وتفوق عليهم.
لن يكون إصلاح الأزهر حقيقة واقعة مثمرة إلا إذا قام الإصلاح على هذه القاعدة التي لا قوام للإصلاح بدونها، وهي أن الدين لا ينبغي أن يحول بين أهله وبين ضروب النشاط المختلفة للعقل والشعور والجسم، بل لن يستطيع الدين أن يحيا آمنا إلا إذا أباح لأهله أن يأخذوا بحظوظهم من هذا النشاط على اختلافه وتنوعه.
هل يقدر الشيخان ما يطلب إليهما من عمل؟ بل هل كان الشيخ محمد عبده نفسه يقدر مهمته؟
هل يعلم الشيخان أن مهمة الشيخ كانت يسيرة جدا بالقياس إلى عصره، على حين أصبحت مهمتهما شاقة شديدة العسر؛ لأن ظروف الحياة العامة في مصر وفي البلاد الإسلامية قد تغيرت أشد التغير في هذه الأعوام الأخيرة، حين اشتد الاتصال بين الشرق والغرب، وأخذ سلطان الحضارة الغربية والتفكير الغربي يستأثر بعقول المسلمين؟
7
أكانت باريس التي رأيتها هذا العام كباريس التي رأيتها منذ عامين؟
أما الدور والشوارع والعمارات والملاعب والمعاهد فهي هي، لم تتغير أو لم تكد تتغير، ولكن الذين عرفتهم، وتعودت أن أراهم أو أسمع الحديث عنهم في هذه الناحية الصغيرة من الحي اللاتيني قد مضى أكثرهم، ولم يكد يبقى منهم أحد؛ منهم من سئم الحياة أو سئمته الحياة، فانتقل إلى حياة أخرى؛ ومنهم من كان إنما استوطن باريس ليتجر فيها طلبا للثروة والسعة، فلما ظفر منهما بحظه ترك باريس إلى حيث يصبح من أغنياء الأقاليم، أو من أهل الدعة والمكانة.
وكذلك لم ألق البوابة التي كنت أعرفها في البيت أيام الطلب، والتي كنت أحب أن أسمع إليها تصف علمها ودرايتها وحسها وشعورها، بينما تكنس السلالم أو تمسحها.
ولم ألق البوابة الأخرى التي خلفت هذه، والتي كانت على حظ عظيم من المرح والنشاط، تشرب ما استطاعت، وترقص ما استطاعت، وتداعب من المختلفين إلى البيت من تجد إلى مداعبته شيئا من الراحة.
فوجدت مكان هذه وتلك بوابة أخرى جديدة، تتسلط على السكان وتحكم فيهم بأمرها، مستبدة مسرفة في الاستبداد، فارضة عليهم ما تشاء من العقوبات إذا قصروا في ذاتها بعض التقصير، أليس بيدها بريد البيت، تستطيع أن تؤخره وأن تحبسه وأن تضيعه؟ أليس إليها يتجه الزائرون قبل أن يصعدوا إلى طبقة من طبقات البيت؛ فهي تستطيع أن تجيبهم بما شاءت من جواب؛ بأنك في البيت أو بأنك قد خرجت؟ أليس إليها تتجه السلطة حين تريد أن تتعرف من أمر السكان ما تحتاج إليه لفرض الضرائب؛ فهي تستطيع أن تصورك غنيا وفقيرا ومتوسط الحال؟ ولا بد لك إذا كنت تريد الحياة الهادئة من أن ترشوها وتتملقها وتتوسل إليها بمختلف الوسائل، فإن لم تفعل فحياتك منغصة من غير شك.
Bilinmeyen sayfa