والأصوات تنبعث بهذه الكلمة مشرقة واضحة، أو مظلمة قاتمة، والقطار يتحرك، والأبصار تتبعه، والأنفاس تخرج من بين الشفاه زفرات المحزون أو نفثات المصدور، كل هذه الأصوات المختلفة المتباينة التي يملؤها الحب والبغض، ويضيء في جوانبها الأمل، ويغشيها اليأس بغشاء صفيق، كل هذه الأصوات، وكل هذه الأنفاس، وكل هذه النظرات، تصل إلى نفسي، وتقع في قلبي، فتترك فيه آثارا وندوبا، وأنا لها كلها شاكر، وبها مغتبط، فهي مظهر من مظاهر المجاملة، ودليل على أن لي في نفوس هؤلاء الناس جميعا مكانة ما، فإن الحب والبغض أوضح آيات التقدير.
2
والحديث من حولي متصل، تبلغني الأصوات، وتقع في أذني كلمات يخلص إلى نفسي بعضها، ويقف بعضها الآخر دون صماخ الأذن، والقوم فيما يظهر يرون أني مغرق في النوم فيخلون بيني وبين الراحة، ولا يوجهون إلي حديثا، وما أنا بالنائم ولا المغرق في النوم، ولكنها الخواطر تغمر نفسي، وتطيف بها من جميع جوانبها، إني لأودع قوما لأستقبل قوما آخرين، إني لأغلق من ورائي بابا لأفتح من أمامي بابا آخر، أغلق باب الحياة العاملة لأفتح باب الراحة والدعة، وإني لألقي من حولي حجبا صفاقا وسجفا كثافا حتى لا يصل إلي مما حولي شيء؛ لأني أريد أن أفرغ لنفسي، وأريد أن أتحدث إليها وأسمع منها، وأحدث بينها وبيني هذا الحساب الذي طال به العهد وبعد به الزمان، والذي أقبل عليه كارها له وراغبا فيه! نعم، فأنا أنسى نفسي أو أتناساها طوال فصل العمل في مصر، فأريحها وأستريح منها، فإذا أقبل الصيف أقبلت معه عليها، فكان بيني وبينها حساب ما أشد يسره حينا، وما أشد عسره في أكثر الأحيان، وما يكاد يتقدم الصيف أسابيع حتى أسأمها وتسأمني، وحتى أنفر منها وتنفر مني، وحتى أفر منها إلى ألوان القراءة وضروب اللهو، وتنكمش هي فتختبئ في ناحية ضئيلة خفية من نواحي الضمير.
نعم، إذا أقبل الصيف دنوت من نفسي فاستفتحت بابها، فإذا فتح لي هذا الباب نظرت؛ فما أسرع ما أذكر الحطيئة حين رأى وجهه في صفحة الماء فهجاه، أستعرض ما عملت، فإذا هو منقوص، وإذا التقصير يعيبه ويفسده، وأستعرض ما قبلت من الناس فإذا هو رديء مشوه مهين، وإذا أنا قد هدأت حين كانت تجب الثورة، وسكنت حين كانت تجب الحركة، وسكت حين كان يجب الكلام. وإذا أنا ساخط على ما أعطيت، ساخط على ما تلقيت، منكر لكل ما أتيت، وإذا أنا ضيق بنفسي، وإذا نفسي ضيقة بي، وإذا أنا أود لو ينقضي الصيف، وأتمنى لو أستقبل فصل العمل؛ فإن النشاط على ما به من قصور وتقصير خير من هذا الهدوء الهادئ الذي لا يرى الإنسان فيه إلا نفسه، ما أشد عجبي للذين يطيلون النظر في المرآة!
3
كانت هذه الخواطر وكثير أمثالها تضطرب في نفسي متصلة، فأقف عند بعضها، وأمر ببعضها الآخر سريعا، بينما القطار يسير بنا من القاهرة إلى الإسكندرية، وكان حديث رفاقي يصرفني عنها آنا بعد آن، ولكني لم أكن ألبث أن أعود إليها أو أغرق فيها، أو لم تكن هي تلبث أن تعود إلي فتغمر نفسي، وتستغرق تفكيري حتى لم يكن بد من الانصراف المؤقت عنها إلى ما يشغل المسافر عادة حين ينتقل من القطار إلى السفينة، ويهيئ نفسه لاقتحام البحر، على أن السفينة لم تكد تغادر الثغر حتى أخذت هذه الخواطر وأمثالها تعاودني، ولست أخفي أني كنت قد سئمتها وضقت بها، فتعمدت حينئذ أن ألتمس ما يصرفني عنها، وإن كان ذلك لسهلا يسيرا؛ فقد كان معي من الكتب المختلفة المتنوعة ما يكفي لصرفي عنها إلى ما هو ألذ منها وأكثر نفعا، فقضيت أيام السفينة في نوم وأكل وحديث وقراءة في التوراة.
4
ليس من الضروري ولا من المحتوم، أن تكون حبرا، أو قسيسا، أو شيخا من شيوخ الأزهر، لتقرأ في التوراة أو الإنجيل أو القرآن، وإنما يكفي أن تكون إنسانا مثقفا له حظ من «الفهم» والذوق الفني لتقرأ في هذه الكتب المقدسة، ولتجد في هذه القراءة لذة ومتعة وجمالا، بل ليس من الضروري، ولا من المحتوم أن تقرأ في هذه الكتب المقدسة، مدفوعا إلى القراءة فيها بهذا الشعور الديني، الذي يملأ قلب المؤمن فيحبب إليه درس آيات الله، ويرغبه في تدبرها والإنعام فيها، بل تستطيع أن تنظر في هذه الكتب نظرة خصبة منتجة؛ وإن لم تكن مؤمنا ولا ديانا؛ ففي هذه الكتب جمال فني أظن أنه يستطيع أن يستقل عما فيها من مظاهر الدين والإيمان، أليس فيها ما يمس عواطف النفس فيبعث فيها الرحمة والحنان، ويملؤها طمأنينة ودعة، ويثير فيها الغضب والسخط، ويملؤها نفورا واشمئزازا، ثم أليس فيها من الصور الفنية الخالصة ما يستطيع أن يثير إعجابك لنفسه، لا لأي شيء آخر، وهذا القصص الساذج الحلو، وهذه العظات والعبر التي تستخلص منه، وهذه الألوان من التصوير الذي يتحدث إلى العقل الإنساني، وإلى القلب الإنساني، أحاديث تلائم ما اكتنفهما من الأطوار المختلفة، والظروف المتباينة. كل ذلك يكفي لأن يحبب إليك القراءة في التوراة والإنجيل والقرآن، تلتمس فيها اللذة والمتعة والجمال والفن وإرضاء الذوق، وإن لم تكن من الأحبار ولا من الرهبان ولا من القسيسين، ولا من الشيوخ ولا من طلاب الدين والإيمان، وإن في نفسي لخاطرا لن أتردد في تسطيره، وإن كنت أعلم أنه سيحفظ قوما؛ لأني لم أتعود التردد أمام ما أقدر من سخط الساخطين في نفسي. إن من الحق على كل مثقف مهما يكن مؤمنا أو ملحدا، ومهما تكن ملته أو نحلته، أن يقرأ في هذه الكتب، ويكثر القراءة على نفس النحو الذي يقرأ عليه في آيات البيان القديمة والحديثة، لا يبتغي في ذلك إلا هذه الآيات من حيث هي آيات. ليس ضروريا أن تكون يونانيا أو رومانيا أو فرنسيا أو إنجليزيا أو ألمانيا؛ لتجد اللذة الأدبية عند «هوميروس» أو «سفوكليس» أو «فرجيل» أو «هوجو» أو «شكسبير» أو «جوت»، وإنما يكفي - كما قلت آنفا - أن يكون لك حظ من ثقافة وفهم وذوق لتقرأ، وتلذ وتستمتع؛ ثم ليزداد حظك من القراءة واللذة والاستمتاع، كذلك لم تقصر التوراة على اليهود، ولا الإنجيل على النصارى، ولا القرآن على المسلمين، وإنما هي كتب دين من ناحية، ومظاهر للأدب والفن والبيان من ناحية أخرى؛ فهي من ناحيتها الدينية من قسمة اليهود والنصارى والمسلمين؛ وهي من ناحيتها الفنية متاع للإنسانية كلها. وما رأيك في هذه البيع والكنائس والمساجد والمعابد التي أتقن الفنيون إقامتها وتنسيقها، وجعلوها آيات فنية في العمارة والنقش والتصوير؟ أتظنها مقصورة على الذين يقيمون الصلاة فيها، ويتوسلون فيها إلى آلهتهم بالوسائل المختلفة؟ أم هي إلى ذلك متاع مباح للذين يستطيعون أن يذوقوا الفن ويحبوه، ويلتمسوا درسه وفهمه وتحليله؟ أترى أنه لا يجوز لغير المسلم أن ينظر إلى مسجد أو يدخله، ولا لغير المسيحي أن يتوسم كنيسة أو يتأملها، وأن الحكومات القائمة آثمة حين تبيح هذه المساجد والكنائس لطلاب الفن غير المسلمين والنصارى؟ كلا، إن هذه الحكومات تأثم وتجرم حين تقصر هذه المساجد والكنائس على الذين يريدون أن يقيموا فيها شعائرهم الدينية، وتقصي عنها الذين يريدون أن يقيموا للفن شعائره أيضا.
وأنا أحب أن أمضي إلى أبعد من هذا؛ فأزعم أن من الممكن، بل من الأشياء الواقعة، أن قراءة طلاب الفن والجمال الأدبي لهذه الكتب تنتج للإنسانية نتائج لا ينتجها عكوف الأحبار والرهبان والشيوخ على قراءة التوراة والإنجيل والقرآن! فهؤلاء يقرءون متعبدين يلتمسون الدين والإيمان، وهم يقرءون ويفسرون ويقربون هذه الكتب إلى الناس من ناحيتها الدينية، وقلما يعنون بالناحية الفنية، وقلما يدركون دقائق هذه الناحية إن هم عنوا بها أو التفتوا إليها. بينما أولئك يعنون بهذه الناحية الفنية، وقد تمكنهم هذه العناية أن يفتحوا للناس أبوابا لحياة فنية قوية الأثر، بعيدة المدى. انظر إلى هذه الآثار الفنية المختلفة التي لا تحصى، والتي تراها منبثة في أقطار الأرض المسيحية شرقا وغربا، والتي إنما نشأت من تأثر أصحاب الذوق والفن بما قرءوا، أو ما ألقي إليهم من العهدين القديم والجديد.
أتظن أن لو قصرت التوراة والإنجيل على الأحبار والرهبان والقسيسين لأحدثت هذه الآثار؟ وهل تستطيع أن تحصي كثيرا من الأحبار والرهبان والقسيسين كانوا إلى ناحيتهم الدينية أصحاب فن وأدب وذوق؟! وأين هو الحبر أو القسيس أو الراهب الذي تأثر بالعهدين القديم والجديد، فأنتج مثل ما أنتجه «فيكتور هوجو» حين قرأهما وتأثر بهما؟ وسل شيوخ الأزهر عن جمال القرآن الفني، فلن تجد عندهم غناء؛ سيجيبونك بأن القرآن معجز، وهم مضطرون إلى هذا الجواب لأن الدين يلزمهم إياه كما يلزم كل مسلم - وإن لم يكن شيخا - أن يؤمن بأن القرآن معجز، ولكن سلهم عن هذا الإعجاز: ما هو؟ وما مظاهره ومصادره؟ فلن تجد عندهم غناء، وستجد أشدهم ذكاء، وأحدهم ذهنا، وأنفذهم بصيرة، وأكثرهم اطلاعا مضطرا إلى أن يعيد عليك عن ظهر قلب نظرية الإعجاز والتحدي، كما صاغها المتكلمون منذ أكثر من عشرة قرون، فأما أن يذوق هو جمال القرآن ، وأما أن يشعر هو بما فيه من مواضع الإعجاز، فشيء لا سبيل إليه، وإن زعمه لك فلا تصدقه؛ لأن الشعور بالجمال الأدبي موقوف على درس الأدب نفسه، وإتقان اللغة، وتعمق أسرارها ودقائقها، وليس شيوخ الأزهر من هذا كله على شيء.
Bilinmeyen sayfa