لقد أقرأ الصحيفة الفرنسية فأجد في قراءتها متعة لا حد لها، ثم تصل إلينا صحفنا المصرية فلا أكاد أمر بما فيها من العنوانات حتى أنصرف عنها انصراف المشمئز. في الصحف الفرنسية ثروة عقلية ومتاع للنفس والشعور، وفي خصومتها السياسية لذة؛ لأن فيها ذكاء حادا، وفيها رقة في اللفظ، وفيها إصابة في الجدال، وفيها على هذا كله براءة من السب والشتم ولغو الكلام وهراء الحديث.
فأما الفصول الأدبية التي تنشرها هذه الصحف في كل أسبوع، فحسبك أن كثيرا منها يستطيع أن يغنيك عن قراءة الكتب التي تتناولها هذه الفصول بالنقد والتقريظ، ذلك إلى عناية غريبة باستقصاء الأخبار الداخلية والخارجية، وحرص غريب على أن يكون القارئ ملما بما يقع في العالم كل يوم في غير مشقة ولا عناء، ثم حرص على أن يلم القارئ من حين إلى حين باتصال الحياة العامة في الأمم ذات الخطر. فأنت في الأسبوع تقرأ في جريدة الطان
Le temps
فصلا في ناحية من أنحاء الحياة الإنجليزية، وأنت في الأسبوع الذي يليه تقرأ فصلا عن ألمانيا، ثم فصلا عن إيطاليا، ثم فصلا عن شمالي أوروبا ... على هذا النحو، كأنما أخذت الصحيفة الفرنسية على نفسها عهدا أن تجعلك تشعر شعورا قويا بأنك فرد من أفراد الإنسانية، تحيا مع الإنسانية كلها، وتشعر مع الإنسانية كلها، دون أن يخفى عليك من أمرها شيء.
وعلى هذا النحو أفهم الصحف وواجبها في عصر الديمقراطية الحديثة؛ فلست أظن أن للإنسانية في هذا العصر مثلا أعلى يعدل حرصها على أن يفهم بعضها بعضا حق الفهم، ويتصل بعضها ببعض أشد الاتصال، وتتداخل فيها الحياة العقلية والشعورية كما تداخلت الحياة الاقتصادية والسياسية، بحيث لا يمنع اختلاف الأوطان والأجناس والبيئات من أن تشعر الإنسانية بأنها وحدة متشابهة الأجزاء، متحدة المنافع، مضطرة إلى التضامن في كل شيء.
فأما الكتب فلا ينقضي عجبي من كثرة ما يصدر منها في فرنسا، لا أقول في كل سنة، ولا أقول في كل شهر، وإنما أقول في كل أسبوع، ويكفي أن تنظر إلى الفصل الببليوغرافي الذي تنشره الطان مرة في كل أسبوع لتعرف أن الذين يرون أن فرنسا قد أخذت تضعف وتنحط لا يفقهون ما يقولون، ذلك إلى أن الطان لا تعنى إلا بطائفة خاصة من الكتب، وهناك أخرى تعنى بألوان أخرى من الكتب. وليس من الغريب أن يوجد في فرنسا من ينتجون هذا الإنتاج العقلي العظيم، وإنما الغريب أن يجد هؤلاء المنتجون جميعا قراء لما ينتجون، يمكنونهم من المضي في العمل والتنافس في الإنتاج.
كثيرا ما أفكر أمام هذا في حياتنا العقلية، وإنتاجنا الفني، وكثيرا ما تحزنني هذه المقارنة، كما تحزنني المقارنة بين الصحف هنا وهناك.
12
وإذا كانت قراءة الصحف والكتب الفرنسية تلذني وتعجبني في فرنسا أكثر مما تلذني وتعجبني في مصر، فالتحدث إلى الفرنسيين في بلادهم يترك في النفس أثرا يغاير كل المغايرة الأثر الذي يتركه التحدث إلى الفرنسيين في مصر، ولعل هذا الأمر ليس مقصورا على الفرنسيين، فمن المعروف أن كل إنسان يتخذ لنفسه شخصيتين مختلفتين؛ إحداهما في وطنه حيث يعيش في أقل حظ ممكن من التكلف والنفاق الاجتماعي، والآخر في الغربة حيث تضطره الغربة نفسها، وتضطره منافعه المختلفة المعقدة إلى أن يتخذ لنفسه شخصية أخرى، تباين إلى حد بعيد شخصيته الطبيعية، وحظ النفاق فيها أعظم من حظ الصراحة والإخلاص.
على أن الأجانب في مصر يختلفون من هذه الناحية اختلافا عظيما؛ فمنهم من يسرف في ازدراء المصري والتعالي عليه، لا يتكلف ذلك، ولا يحتمل فيه مشقة، وإنما هو طبيعة له أو كالطبيعة، ومنهم من يسرف في تملق المصري والإسفاف في هذا التملق، حتى يبعث في النفس شيئا من الازدراء والاحتقار غريبا، وبين هذين الطرفين يضطرب الأجانب المقيمون في مصر. قليل منهم يظهر نفسه للمصريين كما هي، وكثير منهم يغشي نفسه بغشاء من النفاق رقيق أو صفيق.
Bilinmeyen sayfa