ولديك في باريس فنون أخرى تلهيك عن نفسك إن كنت لا تريد أن تعود إليها، وأنت تستطيع أن تأخذ بحظك من هذه الفنون في أي ساعة شئت من ساعات الليل، وفي أي ساعة شئت من ساعات النهار، وفي أي فصل شئت من فصول السنة.
ثم يزعم بعض الناس على ذلك أن باريس ليست مدينة فرحة مبتهجة، ولست أدري إذا لم يكن الفرح والابتهاج في باريس فأين يكونان؟
كلا! في باريس الفرح والابتهاج، وفيها البؤس والحزن، وفيها الرجاء والأمل، وفيها اليأس والقنوط، فيها اجتمع كل ما يحتاج إليه الناس وكل ما لا يحتاجون إليه، فيها اجتمع كل ما يشخص الحضارة الإنسانية في هذا العصر الذي نعيش فيه.
10
ولذة أخرى أجدها حين أزور فرنسا، ولعلي أستطيع أن أجدها في أي بلد آخر، ولكنها في فرنسا قوية أشد القوة، متنوعة أشد التنوع، خصبة أشد الخصب، هذه هي اللذة التي تجدها حين تزور الآثار والمعالم التي تحدثك عن الماضي القريب أو البعيد.
ليس في الأرض بلد متحضر إلا وله قديمه وحديثه وآثاره ومعالمه، ولكن للآثار الفرنسية والقديم الفرنسي فضلا على غيرها من الآثار؛ فهي سهلة يسيرة يمكن أن يفهمها الناس جميعا، وأن يجدوا في فهمها لذة وعظة وعلما، على اختلاف حظوظهم من الثقافة، وعلى اختلاف أوطانهم وبيئاتهم، ليس كل الناس يستطيع أن يسعد ويلذ بزيارة الآثار اليونانية والرومانية والمصرية والآشورية والبابلية؛ بل لا بد لتحقيق اللذة والسعادة بزيارة هذه الآثار من حد أدنى من الثقافة والعلم، وإني لأعرف علماء وقفوا أمام الأهرام وأمام معابد الكرنك دون أن يحسوا شيئا، وإني لأعرف مثقفين يمرون بأثينا وروما فلا تحيي في نفوسهم هاتان المدينتان شيئا، ولا تبعث فيها خاطرا، ولا تثير فيها عاطفة!
فإذا زرت الآثار الإنجليزية والألمانية فأنت مغتبط بهذه الزيارة؛ لأنك رأيت شيئا يجب أن تراه ويحسن أن تراه، فأما هذه اللذة الخاصة التي تحدثها في النفس زيارة الآثار عند فهم هذه الآثار، فلن تجدها أمام الآثار الإنجليزية والألمانية إلا إذا كنت على حظ من الثقافة، وبذلت مقدارا من الجهد. أما الآثار الفرنسية، فأيسر من ذلك وأدنى إلى النفس وإلى الحس معا. لا بد لك من ثقافة، ولا بد لك من جهد يختلف قوة وضعفا إذا أردت أن تفهم الآثار الفرنسية على وجهها كما يحب العلماء أن يفهموا الآثار، ولكنك مرغم على أن تجد شيئا من اللذة والسعادة وإن لم تكن مثقفا، وإن لم تكن حريصا على الفهم والتعمق في العلم حين تزور الآثار الفرنسية؛ لأنه هذه الآثار تعرف كيف تتحدث إليك، وكيف تسترعيك وتلفتك إليها.
تستطيع أن تزور قصر فرساي، فلا شك في أن لذتك لا تعدلها لذة إذا كنت تعرف تاريخ فرنسا السياسي والفني والأدبي حين تزور هذا القصر، وترى ما يمثل من هذا كله. ولكن هبك لا تعرف من هذا التاريخ شيئا، فأنت واجد على كل حال لذة قوية في قصر فرساي؛ ذلك لأن هذا القصر وما فيه يلفتانك بهذه المظاهر الجميلة التي لا يستطيع الحس أن يمر بها دون أن يقف عندها، ويمنحها حظا قليلا أو كثيرا من الإعجاب، فإذا سمعت هذه الأحاديث التي يلقيها عليك الأدلاء في غير عناية ولا تحقيق، وكنت تفهم الفرنسية بعض الفهم، فستحيي في نفسك هذه الأحاديث عواطف وضروبا من الشعور لها في نفسك أثر بعيد؛ في هذه الغرفة كان لويس الرابع عشر يفعل كذا وكذا، وفي هذه الغرفة كان لويس الخامس عشر يلقى فلانا وفلانا أو قل فلانة وفلانة، وفي هذه الغرفة كانت فلانة من خليلات هذا الملك أو ذاك تفرغ لزينتها، وفي هذه الغرفة اتخذ هذا الملك أو ذاك من القرارات ما كان له في حياة الفرنسيين ثم في الحياة الأوروبية ثم في الحياة العالمية أبعد الآثار وأقواها.
ولم أصف لك ولن أستطيع أن أصف لك مظاهر الفخامة والترف والأبهة في العصور الفرنسية الحديثة؛ فقد اجتمع من هذه المظاهر المختلفة في هذا القصر ما وضعت فيه الكتب الطوال والأسفار التي لا تحصى.
وكنا في هذا القصر مع طائفة مختلفة من الناس تمثل طبقات متباينة، وحظوظا من الثقافة متفاوتة، ولكننا كنا جميعا نشترك في مقدار من اللذة والرضا، ثم نتفاوت بعد ذلك في طبيعة هذه اللذة وهذا الرضا، وكان معي ابناي وهما طفلان، وأستطيع أن أؤكد أن رضاهما وابتهاجهما لم يكونا أقل من رضاي وابتهاجي، ولعلهما كانا أشد وأحد، ذلك في القصر، فأما الحديقة وطرقها وتماثيلها وأحواضها فحدث عما تبعث في النفس من لذة، ولا تخش أن تتهم بغلو أو بإسراف، وليس قصر فرساي بالقصر الوحيد في فرنسا، ولكنه قصر من قصور وأثر من آثار؛ فكل ما قلته وأكثر مما قلته يمكن أن يقال في قصر فونتنبلو أو في قصور اللورا أو في قصر كومبيين أو غيره من هذه القصور المنبثة في أقطار فرنسا، والتي تمثل حياة هذه البلاد في القرون الوسطى وفي العصر الحديث أصدق تمثيل وأقواه.
Bilinmeyen sayfa