جرح الجندي «أورش» في إحدى المعارك فلزم بيته وتولت ابنته «أنا» معالجته، وكان يزوره بعض أصدقائه من الجنود في الفينة بعد الفينة، فزاره في أحد الأيام الجندي «لازار»، وكان لا يزال حارسا لقصر القائد برانكومير، والخادم الأمين لأرملته بازيليد وثقتها المؤتمن على جميع أسرارها ودخائلها، فقال له «أورش» حين رآه: هل من جديد اليوم يا لازار؟ قال: نعم، قد فشل جيشنا في الواقعة الأخيرة كما فشل في الواقعة الماضية والوقائع التي تقدمتها، ولا أعلم متى تنتهي هذه الانكسارات، فقد تمت عدتها حتى الأمس عشرا، ولا أعلم ما يأتي به الغد. أما القتلى والجرحى فهم كثيرون لا يحصى لهم عدد، وما بيتك بالبيت الوحيد الذي تترقرق فيه الدماء والدموع، ففي كل بيت من بيوت المدينة شاكون ومتألمون.
فقال أورش: لا ريب أن قسطنطين غير أبيه، ولقد فقدنا بفقد ذلك الرجل العظيم قائدا كان خير القواد وأبرعهم، وأوسعهم علما وتجربة، وأعلمهم بموارد الأمور ومصادرها، لم يفلت النصر من يده في جميع معاركه أكثر من مرة أو اثنتين، حتى مات في الوقعة الأخيرة وسيفه مصلت في يده ميتة البطل الشريف، فمات بموته الظفر والانتصار، وأدار الزمات وجهه عنا، ولا يعلم إلا الله متى يقبل بعد إدباره.
فقالت له ابنته «أنا» وكانت جالسة تحت قدميه تضمد له جراحه: لقد قلت لي يا أبت قبل اليوم: إن قسطنطين قائد عظيم لا يشق له غبار، فما هذا الرأي الذي تراه فيه الآن؟ قال: نعم، كان قائدا عظيما في حياة أبيه وتحت لوائه، وأما اليوم وقد استقل بالرأي وحده، وانقطع عنه ذلك الوحي الذي كان يرشده ويهديه، فقد انتقض عليه أمره، وأصبح خائرا مضطربا لا يدري ماذا يفعل ولا كيف يصرف وقائعه ومواقفه، فقالت: إن جيشنا لم ينكسر قط في واقعة من تلك الوقائع التي تذكرونها كما تتوهمون؛ لأنه لم يتخل عن مركزه، ولم يسلم شعبا واحدا من تلك الشعاب التي يحرسها. أما القتلى والجرحى وكثرتهم فهم في جيوش أعدائنا أكثر منهم في جيوشنا أضعافا مضاعفة، وحسبنا ذلك فوزا وانتصارا.
فقال لازار: لقد كانت خطة القائد ميشيل خطة دفاع محض لا يحول عنها ولا يتزحزح، والجبال بين يديه تحميه وتحفظ مواقفه، أما قسطنطين فقد أخذ نفسه بالهجوم على العدو في حصونه ومواقعه، وترك الجبال التي تحميه من ورائه، فكثر القتلى والجرحى في جيشنا، وهي خطة مخاطرة ومغامرة لا يركبها إلا القائد اليائس أو المجنون، ولا أعلم أي الرجلين هو.
قال أورش: أحسبه يائسا قانطا، فإني أشعر كما يشعر كثير من الناس أن سحنته قد تغيرت منذ موت أبيه تغيرا عظيما، وأصبح حزينا منقبضا لا تفارق الكآبة عينيه وجبينه، ولم أر في حياتي ثاكلا حزن على فقيده حزن هذا المسكين على أبيه، قال لازار: ولقد حدثني بعض خدم القصر وحراسه أنه يستيقظ من نومه في بعض لياليه صارخا متفزعا يستغيث ويستنجد كأنما هو يندم على جريمة ارتكبها، أو يخاف شبحا هائلا مقبلا عليه.
فقالت «أنا»: إنكم تظلمون قائدنا ظلما عظيما، فقسطنطين أفضل القواد وأشرفهم، وما هو بجان ولا مجنون. فنظر إليها لازار شزرا وقال: بل هو جان أو على وشك ارتكاب جريمة هائلة، فقد رابني منه مذ ولي قيادة الجيش عفوه عن الأسرى الذين يقدمون إليه، وإنزاله إياهم منزلة الإكرام والإعزاز، واهتمامه بشأنهم كأنهم ضيوف وافدون، لا أعداء محاربون، كما رابني منه أكثر من ذلك اعتزاله الناس وانقطاعه عنهم جميعا، حتى عن زوج أبيه التي تحبه حب الأم ولدها وفلذة كبدها، فإنه مذ هجر قصرها وعاش في بيته الجديد الذي يسكنه اليوم لم يزرها مرة واحدة، ولا دعاها إلى زيارته حتى الساعة.
فقالت «أنا»: أكل أفعال قسطنطين قد أصبحت مريبة عندكم لا تحمل على محمل حسن؟ حتى إكرامه للأسرى المساكين وإشفاقه على ذلهم وضعفهم؟ قال: ليس هذا رأيي وحدي، بل رأي أكثر الجنود، فقد أصبحوا يعتقدون أن قائدهم يقودهم إلى الموت الزؤام عمدا لسر خفي يضمره في نفسه، وما أحسبهم قادرين على احتمال هذه الحالة زمنا طويلا، فاحتدمت «أنا» غيظا وقالت: إن قسطنطين أشرف مما تظنون، وهل ترون محالا أو غريبا أن يحزن المرء على أبيه بعد فقده؟ ثم التفتت إلى أبيها وقالت له بسذاجة ورقة: أقسم لك يا أبت لو أن مكروها أصابك من هذا الجرح الذي في فخذك - لا أذن الله بذلك ولا قدره - لحزنت عليك حزنا يصغر بجانبه حزن قسطنطين على أبيه! فابتسم أبوها وضمها إلى صدره وقال لها: إننا لا نذهب في أمره يا بنية حيث ظننت، ولا نتهمه بخيانة ولا ممالأة، ولكننا نخاف عليه أن يكون قد نفذ اليأس إلى قلبه فضعضعه، وأن تكون نفسه قد حدثته بمسالمة أعدائه ومؤاتاتهم، فأعد لذلك العدة التي رآها، واليأس هو الخديعة الكبرى التي يدسها الشيطان دائما في نفوس الأمم الضعيفة التي يريد قتلها والقضاء عليها.
وهنا دخل بعض الجنود لعيادة أورش، وتلاهم آخرون من بعدهم، واشتركوا جميعا في الحديث، وأنشأ لازار ينفث سموم سعايته ووشايته في صدورهم، حتى أجمعوا رأيهم على أن قسطنطين يخون أمته ويمالئ أعداءها عليها، وأن الرأي الصواب أن يرفعوا أمره إلى الملك ليأمر بعزله عن القيادة ويعهد بها إلى غيره، ثم انصرفوا.
الدسيسة
بينما كان قسطنطين جالسا صبيحة يوم في غرفته إذ دخل عليه حارس بابه يستأذنه لبازيليد أرملة أبيه، فانقبض صدره واشمأزت نفسه؛ لأنه لم يكن رآها ولا أذن لها بمقابلته مذ مات أبوه حتى اليوم، فأذن لها بعد لأي، فدخلت عليه وحيته وجلست بجانبه، وأنشأت تعاتبه في انقباضه عنها ووحشته منها، وسوء رأيه فيها، وتقسم له بحرمة ذلك الدفين الكريم الذي كان يحبه ويحبها أنها لا تضمر له في نفسها موجدة ولا حقدا، ولا تحمل له بين جنبيها غير الحب الخالص والود المتين، ثم قالت له: إنني برغم آلامي وأحزاني التي أعالجها مذ نزلت بي تلك النازلة العظمى حتى اليوم، لم أر بدا من أن آتي إليك في هذه الساعة الشديدة عليك، راجية أن أعينك عليها وأهون عليك أمرها، وربما وجدت السبيل إلى خلاصك منها، فالتفت إليها دهشا، وقال: أي ساعة تريدين؟ وما هي الشدة التي أنا فيها؟
Bilinmeyen sayfa