اضطجعت بازيليد في سريرها، وجلست خادمتها صوفيا تحت قدميها تروح لها بمروحتها وتحدثها حديث تلك الآمال الحسان التي لا تزال تتراءى لها في يقظتها، وتحلم بها في منامها، وإنهما لكذلك إذ قرع الباب قرعا خفيفا، فعرفت صوفيا من القارع وفتحت له، فإذا «بانكو» الجاسوس التركي متنكرا في زي الموسيقار المسكين، فدخل وحيا الأميرة تحية الإجلال والإعظام، ثم أخذ مقعده الذي كان يقتعده من الغرفة في كل ليلة، وأنشأ يضرب على قيثارته قطعة رومانية جميلة من تلك القطع التي كان أعدها منذ عهد طويل؛ ليخلب بها لب تلك المرأة ويستهويها، حتى أتمها، فطربت لها طربا شديدا، ثم دعت خادمتها فأرسلتها في بعض الشئون، فلما خلا بها المكان ألقى الموسيقي قيثارته جانبا، وخلع عنه رداء التنكر، ثم مشى إلى سريرها فجلس بجانبها وقال لها: ماذا تم في المسألة يا بازيليد، فقد طال مقامي في هذا البلد وأخشى أن يرتاب بي أحد، وليس في استطاعتي أن أبقى هنا أكثر من ثلاثة أيام ثم أنصرف لشأني.
فاعتدلت في جلستها وقالت له: لقد فاتحت الأمير ليلة أمس في المسألة، وعرضت عليه مقترحك الذي اقترحته، فأصغى إلى حديثي في مبدأ الأمر، ثم لم يلبث أن اكفهر وجهه واكتأب، وأبى أن يقبل مني كلمة واحدة في هذا الشأن، وظل يقاطعني ويعارضني معارضة شديدة، فلم أشأ أن ألح عليه مخافة أن يرتاب بي وبمقصدي، وسأستأنف معه الحديث الليلة بعد رجوعه من المعسكر، وأرجو أن ينتهي بإذعانه وتسليمه، ولا يفتك يا سيدي أن من أصعب الأمور على رجل شريف عظيم مثل برانكومير أن يتحول في ساعة واحدة عن أخلاقه وطبيعته، وأن ينقلب فجأة من رجل وطني مخلص يبذل دمه وحياته في سبيل الدفاع عن وطنه والذود عنه، إلى خائن سافل يبيع ذلك الوطن العزيز عليه من أعدائه بعرض تافه من أعراض الحياة، فلا بد من مهادنته ومؤاتاته، وأخذه بالروية والتؤدة.
قال: ليس في الأمر خيانة ولا دناءة، ولا بيع وطن ولا أمة، فإنا لا نريد أن ندخل بلادكم مستعبدين أو مسترقين، بل أصدقاء مخلصين، وما خطر ببالنا قط حينما فكرنا في افتتاح بلادكم والنزول بها أن نصادركم في حريتكم الدينية والاجتماعية، أو نسلب أموالكم وننتهك أعراضكم، أو نغلق أبواب كنائسكم ومعابدكم، أو نخرس أصوات نواقيسكم وأجراسكم، ولكن لنكون أعوانكم على ترقية شئونكم الاجتماعية والاقتصادية، والسير بكم في طريق المدنية الأدبية والسياسية، حتى تبلغوا الذروة العليا منهما، ولنحميكم فوق ذلك من أعدائكم المجريين الذين يطمعون في امتلاك بلادكم واغتيالها، وندفع عنكم شرورهم ومطامعهم، فنحن أصدقاؤكم المخلصون الأوفياء من حيث تظنون أننا أعداؤكم وخصومكم.
فابتسمت بازيليد ابتسامة الهزء والسخرية، ونظرت إليه نظرة عتب وتأنيب، وقالت له: إن برانكومير يا صديقي ليس موجودا معنا لنخدعه بأمثال هذه الأساليب الكاذبة، أما أنا فإني لا أنخدع بها ولا أغتر؛ لأني أعلم - كما تعلم أنت وكما يعلم الساسة الكاذبون جميعا - أن الفاتحين من عهد آدم إلى اليوم وإلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات لا يفتحون البلاد للبلاد، بل لأنفسهم، ولا يمتلكونها لرفع شأنها وإصلاح حالها، والأخذ بيدها في طريق الرقي والكمال كما تقول، بل لامتصاص دمها وأكل لحمها وعرق عظمها، وقتل جميع موارد الحياة فيها، والأمة إن لم تتول إصلاح شأنها بنفسها لا تصلحها أمة أخرى مهما حسنت نيتها ونبل مقصدها، والصلاح إن لم ينبت في تربة الأمة نفسها، ويزهر في جوها، ويأتلف مع مزاج أفرادها وطبيعتهم لا ينفعها ولا يجدي عليها، ويكون مثله مثل الزهرة التي تنقل من مغرسها إلى مغرس آخر، فهي تزهر فيه أياما قلائل ثم لا تلبث أن تذبل وتذوي.
فإن وجد بين أولئك الطامعين من يذهب في سياسته الاستعمارية مذهب الإصلاح والتشييد، فكما يسمن صاحب الشاة شاته ليذبحها ويأكلها، وكما يتعهد صاحب المزرعة مزرعته بالري والتسميد ليستكثر غلتها وثمراتها.
أما الحرية الدينية التي تريدون أن تمنوا بها علينا، فما أهونها عليكم ما دامت لا تعطل لكم غرضا، ولا تقف لكم في سبيل مطمع، وقديما كان الفاتحون يخدعون الشعوب الجاهلة بإرضائها في شئون دينها، ليسلبوا شئون دنياها، ويوجهون نظرها إلى الشئون المادية الحيوية، فكان مثلهم في ذلك مثل اللص الذي يدس لمن يريد سرقته مادة مخدرة في طعامه لا تكلفه إلا ثمنا يسيرا ليستولي على الجم الكثير من دنانيره ودراهمه، على أن القوة الدينية في الأمة أثر من آثار القوة السياسية، فإذا ضعف أمر الأمة في سياستها ضعف أمرها مع الأيام في دينها، ولا بقاء لدين من الأديان يعيش تحت سلطان دين آخر، ويستظل برايته، إلا كما يبقى الثلج تحت أشعة الشمس وحرارتها، ومن ظن غير ذلك فعلى عقله العفاء!
أما حمايتكم إيانا من أعدائنا فليس لنا على وجه الأرض عدو سواكم، فاحمونا من أنفسكم قبل أن تحمونا من غيركم، وهب أن المجريين أعداؤنا كما تقولون، فهل يطمعون في شيء أكثر مما تطمعون فيه أنتم؟ وهل يحاولون منا غير هذا للفتح الذي تحاولونه اليوم؟ وهل من الرأي أن يهب الإنسان متاعه رجلا مخافة أن يغلبه عليه رجل آخر؟ أو أن يذبح نفسه بيده فرارا من ذابح يريد أن يذبحه؟
إنكم ما جئتم هنا لتحمونا من أعدائنا، بل لتحتموا بنا من أعدائكم؛ لأنكم إنما أردتم بامتلاك هذه البلاد واستعمارها أن تتخذوا من حصونها وقلاعها وجبالها وأسوارها ودماء أبنائها وأرواحهم وقاية لكم تتقون بها زحف المجريين عليكم وعدوانهم على أرضكم.
هذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها، فإن كنت تريد بما قلته أن تعلمني ما ألقنه لذلك الرجل الذي اتفقنا على خداعه وختله، فإنني أحفظ كثيرا من أمثال هذه الرقى والتعاويذ، فلا حاجة بي إلى سماعها منك، فلنعمل في المسألة معا متكاشفين متصارحين، ولتعلم أن الذي أسعى لإعطائك إياه وتسليمك زمامه إنما هو الوطن بأجمعه، أرضه وسماؤه، وبره وبحره، وخيراته وثمراته، وحرية أهله وسعادتهم، وأن الثمن الذي أتقاضاكه في سبيل ذلك ثمن بخس ضئيل لا يزيد عن كرسي من الخشب مموه بالذهب، يسميه الجهلاء عرشا، وهو في البلد المغلوب على أمره المسلوب حريته واستقلاله سجن ضيق، لولا خدع الحياة وأكاذيبها لما استطاع الجالس عليه أن يهدأ فيه ساعة واحدة، فأنا أبيعك هذا الوطن الثمين، وآخذ منك ذلك الكرسي الحقير، وأنا عالمة قيمة ما أعطي، وقيمة ما آخذ، فلا تحسب أنك تخدعني أو تداهنني في هذه الصفقة، وأقسم لك بشرفي وشرف «بيزنطية» لو كان هذا الوطن وطني وكانت تربته مدفن آبائي وأجدادي لما بعتك ذرة واحدة من ترابه بجميع عروش الأرض وتيجانها.
فاصفر الجاسوس واربد وجهه وقال: إننا ما اجتمعنا هنا لتفسير معنى الفتوح والاستعمار، بل لأعرض على زوجك هذا العهد السلطاني بتقليده ملك البلقان وإلباسه تاجه إن هو تمكن من إخلاء التخوم من حراسها، وسهل لجيشنا سبيل اجتيازها، فإن قبل فذاك، أو لا عدت بعد ثلاثة أيام إلى مركز الجيش ورفعت الأمر إلى سلطاني وقائدي، وعادت الحرب إلى شأنها الأول أو أشد، ولا يعلم إلا الله متى تنتهي، وماذا تكون عاقبتها.
Bilinmeyen sayfa