إلا أن الإخوان المسلمين لن يستطيعوا أبدا تطبيق نموذجهم الصارم للشريعة الإسلامية في مصر إن وصلوا إلى السلطة، لأن الشعب المصري الذي ترفض أغلبيته هذا سيمنعهم من ذلك. وعندما تخوض الجماعة تحدي مواجهة الواقع المصري المعقد، ستعجز عن حل أي من المشكلات التي ترى أن الإسلام حل لها، ولا يمكن أن تزدهر الجماعة إلا باعتبارها جبهة معارضة. والمفارقة إذن هي أن نهاية الإخوان المسلمين ستحل عندما يتملكون بالفعل السلطة. فمن ذا الذي أعجبته الحكومة التي تحكمه؟ لذا سيتعين على الإخوان تقديم تنازلات هائلة للبقاء في السلطة؛ تنازلات ترتبط بأكثر ما يتشبثون به من مبادئ. والتاريخ لا يؤازرهم؛ فكل تجارب إقامة دول إسلامية في العصر الحديث فشلت، لأن الدولة الإسلامية ليست ظاهرة طبيعية، والسلطة دائما تفسد الدين، حتى الخلفاء الأوائل أفسدتهم السلطة. والفضائل الوحيدة التي تتمتع بها جماعة الإخوان المسلمين خارج السلطة هي النزاهة والكرم؛ وهي فضائل لا ينكرها أحد. •••
لا يزال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين يعدون العمل الخيري هاما بقدر أهمية الخطب الدينية، فهو يساعدهم على جذب ناخبين بخلاف جمهور ناخبيهم الأساسي عبر نظام واسع النطاق من البرامج الإصلاحية. وتشمل المجالات التي تدعمها الجماعة التعليم والصحة والتدريب المهني، إذ يدير الإخوان المسلمون اثنين وعشرين مستشفى في أنحاء مصر المختلفة، ولهم مدارس في محافظات البلاد كافة ويديرون العديد من مراكز رعاية الأرامل والأيتام، ومع أنهم لا يملكون ترخيصا رسميا بتشكيل حزب - وهو ما يمنع جماعتهم من الناحية القانونية البحتة من مزاولة الأنشطة السياسية - فإن عملهم على الصعيد الاجتماعي يعوض إلى حد بعيد هذا العائق. فالعديد من التقارير تشير إلى أن الجماعة تدير ما يقدر بنحو 20٪ من خمسة آلاف جمعية ومنظمة غير حكومية مرخصة قانونيا في مصر.
عندما زرت في منتصف عام 2006 مستشفى العمرانية التي تديرها الجماعة في منطقة فقيرة بالقاهرة تبعد عن الأهرام بضعة كيلومترات، لم أجد بالمستشفى إلا غرفة واحدة غير مشغولة.
قال لي عبد الحميد إسماعيل المدير العام للمستشفى وهو يصحبني في جولة بالمكان: «نحن على صلة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين، وأنا عضو بالجماعة.»
أوضح لي إسماعيل أن المستشفيات الاثنين والعشرين أدارتها لجنة طبية إسلامية، شكلها نائب مرشد سابق للجماعة ومولتها الصدقات.
قال لي إسماعيل: «نحن نتقاضى رسوما أقل من المستشفيات الخاصة، لكن أكبر من المستشفيات الحكومية، لكن إن عجز شخص حقا عن دفع تكاليف العلاج، لا نتقاضى منه شيئا.»
ويتلقى العلاج بتلك المستشفى المسلمون والمسيحيون على حد سواء، كما تقدم المستشفى خدماتها للنساء سواء أكن يرتدين الحجاب أم لا يرتدينه. وقال لي إسماعيل إن النسب الدقيقة لأعداد المرضى المسلمين والمسيحيين الذين يعالجون بالمستشفى غير متوفرة لأنه ما من أحد يسئل مطلقا عن ديانته قبل تلقي العلاج.
ومع أن تلك المستشفيات بلا شك تسهم في الخير، فهي مثال آخر على علاقة جماعة الإخوان المسلمين بالنظام. وثمة تناقض واضح هنا بين حظر الجناح السياسي للجماعة من جهة، والسماح لها بالنمو باعتبارها مؤسسة خيرية من جهة أخرى. ومرة أخرى نكرر أن الطرفين يستفيدان: فمن ناحية، يتسع نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، ومن ناحية أخرى تنتفع الحكومة المصرية من السماح لجهات أخرى بالتخلص من الفوضى التي خلقها في المقام الأول فساد إدارتها لمنظومة الصحة. •••
إن قررت واشنطن بالفعل الإصغاء للمحللين السياسيين في منظومتها السياسية والانقلاب على مبارك أو خليفته من أجل كسب ود الإخوان المسلمين، فلن يكون هذا دليلا على «انتصار الإسلام» بقدر ما سيكون إعلانا بانتهاء تقاليد الديمقراطية والتعددية العريقة الراسخة في مصر، ستترتب عليه تبعات مدمرة على المنطقة بأسرها، لكن من حسن الحظ أن أصواتا أكثر عقلانية تنتظر من يسمعها. ففي كتابه «ماذا حدث للمصريين؟» يفترض عالم الاجتماع جلال أمين - على سبيل المثال - أن مصر تبدو وكأنها قد أصبحت أكثر تشبثا بالدين في العقود الأخيرة؛ لسببين يفسران إلى حد بعيد تيارات الأسلمة على صعيد الطبقات العليا والدنيا. كتب جلال أمين يقول: «عندما أخذ الاقتصاد يضعف في أوائل الثمانينيات، مصحوبا بانخفاض أسعار النفط الذي أدى إلى نقص فرص العمل في دول الخليج، بدا فجأة أن الكثير من الطموحات التي بنيت في السبعينيات غير واقعية وتبع ذلك شعور قوي بالإحباط.» ويضيف جلال أمين قائلا إن الميل الطبيعي نحو الالتزام المتشدد بتعاليم الدين في القطاعات المتزايدة التي تأتي من خلفيات شديدة التواضع «قد ينقلب بسهولة إلى تعصب ديني إن اقترن بخيبة الأمل في الترقي الاجتماعي.» إلا أن جلال أمين يوضح أن النجاح في الترقي قد يقود إلى النتيجة نفسها التي يقود إليها الفشل، لأن التعصب الديني يمكن أيضا أن يصنع غطاء ينتفع به من جمعوا ثروتهم أو دخولهم «بطرق غير قانونية أو غير أخلاقية»؛ فكلما زاد الفساد زاد الرياء الديني، على حد قول جلال أمين.
وإن كان جلال أمين محقا، وكان السبب الأساسي في عودة الحياة إلى التيار الإسلامي من جديد هو مزيج من سوء الإدارة الاقتصادية والفساد الصارخ، فإن السبيل إلى مكافحته هو النظر في الأسباب. وبعبارة أخرى، فإن المسألة بالدرجة الأولى مسألة تمييز بين المرض ذاته وبين أعراضه. ولعل المرء يجد بصيصا من الأمل في حقيقة أن الغالبية العظمى من جماهير الشعب المصري رفضت أجندة التيار الإسلامي أو على الأقل أحجمت عن اعتناقها حتى الآن. وإن وجد بالفعل أساس لهذا الرجاء، فهو يكمن فيما تبقى من الخليط الحيوي البارز الذي شكل مصر في عهد الملكية، والذي لم تنجح جماعة الإخوان المسلمين والنظام مجتمعين في القضاء عليه، على المستوى الشعبي، بالرغم من أقصى جهودهما.
Bilinmeyen sayfa