وإن استحوذ الإخوان المسلمون على زمام السلطة، فقد يدفع حكمهم المصريين بعد عقود من الآن إلى تمني عودة الأيام الأخيرة للنظام العسكري الفاسد الحالي، كما يتمنون اليوم عودة الديمقراطية البرلمانية التي كانت قائمة قبل انقلاب عام 1952.
الفصل الثاني
الإخوان
بنى الإخوان المسلمون مؤخرا بناء من ثمانية طوابق في إحدى ضواحي القاهرة؛ ليكون مقرا لممثليهم الجدد في البرلمان، ومع أن الكثير من الأموال تتدفق عليهم من التبرعات الخيرية ومع أنهم قد عصف بهم إلى مناخ سياسي مضطرب يملؤه الفساد والمحاباة، فإنهم نادرا ما يبذرون المال، وفي حالة هذا المبنى، أمكنهم الدفع بحجة مقنعة بأنهم أنفقوا مالهم بحكمة. لقد استحوذوا في انتخابات عام 2000 على خمسة عشر مقعدا فقط من مجموع أربعمائة وأربعة وأربعين مقعدا برلمانيا، لكن بما أنهم في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2005 فازوا بثمانية وثمانين مقعدا، فقد احتاجوا إلى المزيد من المكاتب. استطاع الإخوان بتعزيز حضورهم في البرلمان الذي تستمر فترة عمله خمس سنوات أن يدعموا سمعتهم داخل البلاد وخارجها بوصفهم كيان المعارضة الأكبر والأفضل والأكثر تنظيما في مصر، لكن مع أنهم الأبرز، ما زال الغرب والكثير من المصريين حائرين في معرفة مرادهم بالضبط. أسس حسن البنا عام 1928 الجماعة بوصفها حركة تعارض النفوذ الثقافي الغربي وسيطرة بريطانيا على السياسة المصرية إبان الحكم الملكي الفاسد الخاضع لتأثيرها، ولا يزال الهدف الأساسي الذي تكرس له الجماعة جهودها هو أن يحكم الإسلام المتشدد سيطرته على المصريين، أما ثاني أهدافها فهو إعادة النظر في التحالف المصري السياسي والعسكري مع الولايات المتحدة القائم على التبعية، لا سيما - ولكن ليس فقط - بالنظر إلى علاقته بالقضية الفلسطينية. كما يتطلعون في المستقبل البعيد إلى إعادة تأسيس نظام خلافة إسلامية قائم على نظرة حالمة إلى الحياة في عهد الخلفاء الراشدين الذي تبع وفاة النبي محمد.
كان هدف حسن البنا بالأساس على حد تعبير أحد المؤرخين هو «إصلاح القلوب والعقول»، وهداية المسلمين من جديد إلى الدين الإسلامي الخالص، وصرفهم عن التطلعات والممارسات اللاأخلاقية التي أنشأتها سيطرة الأوروبيين. أبرز جناح الجماعة شبه العسكري جسارته وتفانيه في حروبه ضد جنود الاحتلال البريطاني على قناة السويس في أوائل الخمسينيات، وضد إسرائيل بعد نشأة دولتها اليهودية عام 1948 إلى حد أن الجناح حاز إعجاب القوميين المصريين الذين لم يكونوا لولا هذا ليلتفتوا إلى أجندة الجماعة الإسلامية المتشددة. لكن عبد الناصر حظر الجماعة عام 1954 ثم قضى عليها تقريبا، زاعما أن أعضاءها حاولوا اغتياله أثناء إلقاء خطاب بالإسكندرية في أكتوبر/تشرين الأول من ذاك العام. حينذاك سمعت طلقات الرصاص مباشرة على الراديو المصري، لكن الإخوان أنكروا ضلوعهم في أحداث ذلك اليوم. ومن الجدير بالذكر أن عبد الناصر لم يكن ليترفع عن اختلاق حادثة كتلك لرفع نسبة تأييده بالبلاد، بما أنه من المحتمل - على سبيل المثال - أن يكون قد دبر تفجير مقهى جروبي الشهير في مركز منطقة وسط القاهرة سعيا لزعزعة الاستقرار في أوج صراعه على السلطة مع رئيس الجمهورية الأول الصوري.
وعلى أي حال، كان الإخوان المسلمون بحلول ذلك الوقت قد حشدوا مئات الآلاف من المؤيدين، الذين ظلوا على ولائهم لحلمهم بدولة إسلامية مهما شنق بلطجية عبد الناصر من شنقوا من زملائهم، أو أصدروا بحقهم أحكام الأشغال الشاقة أو التعذيب حتى الموت دون محاكمة. وكانت النتيجة أن دفعت أعمال التعذيب ومعسكرات السجناء وأحكام الإعدام جيلا كاملا من الإخوان إلى التطرف، لا سيما من تأثروا بسيد قطب، وهو عضو بالجماعة أعدم في أغسطس/آب 1966 (مع عدة قادة آخرين) بعد إلصاق تهمة التآمر بهم زورا. زعم قطب في كتاباته أن الدولة الناصرية تنتمي إلى عهد الجاهلية مما يجعل النظام من وجهة نظره خارجا عن الإسلام، ويبرر استخدام العنف للإطاحة به. من ثم واجه النظام العسكري من أوائل السبعينيات إلى أواخر التسعينيات موجة من الأعمال الإرهابية المتأثرة بالفكر الإسلامي، استلهمت في شق منها من كتابات قطب ونفذتها جماعات جهادية انشقت عن جماعة الإخوان المسلمين بعد اتهام قادة الجماعة بالإذعان الشديد للوضع الراهن والنظام العسكري الحاكم. ومن أمثلة أعمال العنف التي تخللت هذه العقود الثلاث: اغتيال الرئيس السادات عام 1981، وقتل بعض المفكرين العلمانيين، والهجمات المتكررة على الأقلية المسيحية، التي أفضت في نهاية الأمر إلى مذبحة قتل فيها عشرات السياح بالقرب من مدينة الأقصر في صعيد مصر عام 1997.
لكن جماعة الإخوان المسلمين نبذت العنف في أوائل السبعينيات، وتبنت بحذر المنهج الديمقراطي وتنصلت علنا من أجندة قطب الأكثر تطرفا، وبرزت - بفضل تأثير مرشدها المعتدل عمر التلمساني - بوصفها شريكا أساسيا في الجدل الذي نشأ حول هوية مصر في أعقاب هزيمة مصر المذلة عام 1967 ووفاة عبد الناصر بعدها بثلاثة أعوام. ركز الجدل على المستقبل لكنه أساسا دار حول الماضي: هل يجب تفسير التاريخ المصري في إطار قومي، أم عربي، أم إسلامي، أم عرقي، أم مؤيد للغرب؛ أم إطار يجمع كل هذا؟ •••
ظلت القاهرة منذ عهد محمد علي ممزقة بين مذهب المتعة الباريسي الغربي من ناحية وتشدد عالم مكة الشرقي من ناحية أخرى. وفيما احتضن القوميون والإسلاميون التقدميون والنخبة المثقفة التي حاربت الاحتلال الأجنبي - المسيحي أو الإسلامي - أفضل ما قدمه الغرب في سعيهم لتحقيق استقلال مصر، عدت جماعة الإخوان المسلمين محمد علي وورثته - لا سيما الخديوي إسماعيل - مبذرين منحلي الأخلاق أهدروا ثروة البلاد، وخرجوا عن سنن الإسلام وقيمه، وكانوا قدوة شجعت على إهمال تعاليم الإسلام. ورأى الإسلاميون الأكثر تطرفا أن هذا هو أساس تدهور أحوال البلاد وأن عكس هذا التيار - وليس تبني الديمقراطية الغربية - هو مفتاح خلاص الأمة الذي يعيد مصر وشعبها إلى عالمها الإسلامي الطبيعي الذي تتأثر به وتستمد منه الإلهام.
سجل تريفور موستين في كتابه «زمن مصر الجميل» الجانب المظلم من القرن التاسع عشر، الذي تحجب عنه الضوء في أحيان كثيرة القصص الشهيرة عن المعارض العالمية والحفلات المبهرة والقصور الفاخرة التي شهدها هذا العهد، وولدت على نطاق واسع استياء استغله كل من الإسلاميين والقوميين، مع اختلاف أهدافهم. لم يعتبر الإخوان المسلمون عهد نابليون وجيشه المحتل بشارة لم تكن بالحسبان تنبئ باتجاه نحو التغيير والتحديث، وإنما عدوا نابليون وجيشه همجا مخربين مصابين برهاب الإسلام، واستندوا في ذلك إلى حجج كثيرة؛ فإعلان نابليون عن احترامه للإسلام لم يعد ذا قيمة كبيرة بعد أن سوى جنوده بالأرض صفوف المصريين المعارضين للاحتلال الفرنسي، أثناء اقتحامهم على صهوة خيولهم الجامع الأزهر - أبرز صرح تعليمي إسلامي - حيث عقلوا خيولهم بمحاريب الصلاة، ووطئت أقدامهم المصاحف، وتبولوا على أرض الجامع وجردوا بعدما ثملوا العباد المسلمين من ثيابهم في غمرة هذه الفوضى وسرقوا ممتلكاتهم.
بالمثل قد يكون قرار إسماعيل تحديث مدينة القاهرة على النمط الباريسي استعدادا لاحتفالات افتتاح قناة السويس عام 1869 قد أبهر ضيوفه الأوروبيين والدائرة المترفة التي أحاطت به، إلا أنه من جهة أخرى أفلس وزارة المالية المصرية، ليقود إلى خلعه عن عرش مصر واحتلال بريطانيا لمصر احتلالا فعليا. في ذلك كتب موستين أن قنصلي بريطانيا وفرنسا عندما أمرا إسماعيل بالتخلي عن العرش، لم يستطع الخديوي اللجوء إلى شعبه؛ لأن طغيانه والضرائب التي فرضها جعلاه مكروها، كما كثرت الشائعات عن علاقاته الجنسية المتعددة، ناهيك عن احتمال أن يكون قد قتل الكثير من العشيقات اللائي لم يخلصن له. وحتى الليبراليين الذين لم يعبئوا بحياته الشخصية أسخطتهم معاملته الخاصة لضيوفه البريطانيين والفرنسيين الذين رأوا أنهم يساوونهم منزلة؛ فقد شعروا بالمذلة لإقصائهم من أوساط الطبقة الأوروبية الرفيعة الجديدة التي نشأت بالقاهرة وحرم من الانضمام إليها الجميع عدا من تجمعهم صلة بأرقى المعارف والمصريين الأكثر تأثرا بالغرب.
Bilinmeyen sayfa