أما عن جماعة الإخوان المسلمين (التي تأسست عام 1928 باعتبارها جمعية خيرية شعبية تهدف إلى إعادة عموم أفراد الشعب إلى أصول الإسلام؛ وفق تفسير الإخوان)، فقد سجن ناصر عشرات الآلاف من أعضائها وعذبهم إلى أن لقي العشرات منهم حتفهم، ولعل أشهرهم هو سيد قطب، الذي أرسى - من نواح عديدة - المبادئ الفكرية للإرهاب الذي ابتليت به فيما بعد مصر وغيرها من الدول في مختلف أنحاء العالم العربي والعالم. ومن نجا من تلك التصفية من الجماعة فر مؤقتا إلى دول الخليج العربي شديدة التشبث بالمحافظة، وتشرب بالفكر الوهابي المتطرف الذي عززته الأسرة السعودية الحاكمة. ويتنافى هذا الفكر تماما مع مبادئ التسامح والتعدد الإسلامية السائدة في مصر، لكن الإخوان المسلمين سيحملونه في نهاية الأمر معهم عندما يدعوهم أنور السادات للعودة إلى البلاد في السبعينيات لمواجهة المعارضة الماركسية التي ظهرت إبان حكم عبد الناصر. لقد شنق الكثير من قادة الإخوان المسلمين الذين ظلوا بمصر، وعلى المدى الطويل كانت التبعات الثقافية لهذا الفكر الوهابي المنقول كارثية، لا سيما فيما يخص الأقلية المسيحية التي يرميها الفكر الوهابي - وربما السياسة الرسمية للإخوان - بالكفر؛ تماما كما يرمي اليهود والصوفيين بالكفر أيضا.
لكن تبين أيضا مدى استعداد الضباط الأحرار لقمع منافسيهم العلمانيين غير الأصوليين باسم حرية الشعب، في الأشهر التي تلت الانقلاب العسكري عندما حوكم قادة مظاهرات عمالية وأعدموا على عجل، فبعثت تلك المحاكمات الصورية رسالة واضحة إلى كل من يجرؤ على مخالفة النظام.
هكذا أسس ناصر في غضون بضع سنوات قواعد دولة بوليسية تحكمها ديكتاتورية عسكرية تصطفي من بين صفوفها رئيسا ذا صلاحيات شبه مطلقة. وظلت مصر خاضعة لقانون الطوارئ (أي الأحكام العرفية) منذ عام 1952 حتى الآن باستثناء فترة لم تدم سوى ثمان سنوات فقط. ووفقا لمنظمة العفو الدولية، تضم سجون مصر اليوم ثمانية عشر ألف معتقل بلا تهمة. ولما صدر أخيرا تعهد في عام 2007 بالتخلص من قانون الطوارئ قوبل بالسخرية؛ لأن النظام أدخل معه تعديلات متزامنة على الدستور جعلت أسوأ ملامح القانون دائمة إلى الأبد. فالنظام العسكري الذي يرأسه مبارك يخلص لمدرسة عبد الناصر، وهذا يتضح أشد الوضوح من رفضه أن يخاطر بفقدان السلطة إن سمح لمؤسسات الدولة أن تكون ديمقراطية بالفعل، مما من شأنه أن يطلق حرية الرأي العام، لا سيما بعد أن صار الرأي العام يجد أفضل تعبير له (بفضل أخطاء النظام) في حملات الكراهية الشرسة التي يستبدلها الأصوليون الإسلاميون بالمناقشات الحقيقية. ولا تزال المؤسسات إلى اليوم وإلى حد بعيد تديرها شخصيات تدربت سياسيا على يد النظام الذي سبق وفاة عبد الناصر.
وصف مبارك ثورة 1952 في احتفال بالذكرى الخمسين لها في خطابه أمام خريجي الكلية الحربية التي تخرج منها بأنها «المجد الذي توج كفاح الشعب المصري»، وهو ما لا يدع مجالا للشك في اتجاه ولائه الشخصي. •••
هكذا، لا تزال آليات النظام المستبد التي أسسها عبد الناصر على حالها إلى اليوم، على الرغم من مرور أكثر من خمسين عاما اتسمت بوقوع تغيرات اجتماعية واقتصادية هائلة في مصر. ولا عجب إذن في ظهور ذلك الحنين إلى العهد الذي سبق الثورة والذي وظف ببراعة في رواية عمارة يعقوبيان. فينظر اليوم الليبراليون والمفكرون المتأثرون بالغرب والعامة المنشغلون بتوفير نفقات معيشتهم إلى تلك الحقبة على أنها عصر ذهبي بائد، وإن كانت تلك نظرة رومانسية. والشواهد على ذلك نجدها في كل مكان. على سبيل المثال: عقب الثورة، حظرت الألقاب كلقب باشا (الذي يشير إلى رتبة كبيرة في النظام السياسي للإمبراطورية العثمانية) ولقب بك (الذي يشير إلى رتبة أقل من الباشا)، دلالة على محو المراتب الطبقية وألقاب الشرف. لكن تلك الألقاب عادت من جديد، والمفارقة أن أكثر من يستخدمها هم من سعى إلى محو الألقاب الإقطاعية؛ من المسئولين الحكوميين وكبار الضباط ووكلاء الوزراء ومن يتبعونهم. وقد اتضح لي التغير الذي طرأ على أقدار تلك الألقاب في التسعينيات، حين خاطبت مارا كنت أعرفه داعيا إياه باشا، فانزوت بي جانبا امرأة مصرية مسنة - كانت قد انتقلت للعيش في أستراليا عقب انقلاب عام 1952 وعادت إلى مصر مؤخرا لتساعد في وضع المنهج الدراسي لمدرسة اللغة العربية التي كنت أدرس بها - وقالت ناصحة إياي بلهجة جادة: «هذا الرجل سيغضب بشدة إن استخدمت هذه الألقاب». وفيما بعد سألت معلمتي إن كان هذا صحيحا، فضحكت ضحكة مكتومة ثم قالت لي إن تلك العجوز لا تزال تعيش في مصر في حقبة الخمسينيات فيما يبدو.
تتناول كتب لا حصر لها الآثار السلبية لانقلاب عام 1952، أحدها كتاب عالم الاجتماع المصري القدير جلال أمين «ماذا حدث للمصريين؟ تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945-1995» الذي يأسى فيه على التغييرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على مصر بعد الثورة بمقارنتها بقصص ساحرة عن طفولته قبل الثورة. حاز الكتاب جائزة في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1998 وبيعت منه العديد من النسخ بالعربية والإنجليزية، حتى إن جلال أمين أصدر كتابا ثانيا استكمالا للموضوع نفسه حقق أعلى المبيعات بعنوان: «ماذا حدث أيضا للمصريين؟ مصر من عهد الثورة إلى العولمة». غير أن جلال أمين ليس المثال الوحيد. كتبت ليلى أحمد، وهي باحثة أكاديمية مقيمة في الولايات المتحدة، ولدت لعائلة من الطبقة العليا في القاهرة في الفترة بين الحربين العالميتين في سيرتها الذاتية التي حملت عنوان «عبور الحدود» (الصادرة عام 2000)، تقول: «نشأت في آخر أيام الإمبراطورية البريطانية، وعشت طفولتي في عهد لم تكتسب فيه كلمتا «الغرب» و«الإمبريالية» الدلالات التي اكتسبتاها اليوم.» ومثل الكثير من السير الذاتية المماثلة التي نشرت في الغرب لمصريين يحاولون تصحيح ماضيهم قبل الثورة، تصف هذه السيرة ببراعة كيف أن الكثير من أسر الطبقة العليا والوسطى لم تر تناقضا بين إيمانها المخلص القوي بقوميتها وبين حرصها على أن تعهد بتنشئة أبنائها إلى معلمين غربيين، من المفترض أنه أن لا يمكن الاعتماد عليهم في تأجيج مشاعر مناهضة الاستعمار لدى طلابهم. تتناول السيرة ببراعة جيلا نشأ في مجتمع راقي متعدد الثقافات ، تعد الاختلافات الفردية فيه مهمة بقدر أهمية الطموحات الوطنية.
آنذاك كان الظلم المؤكد الراسخ في المجتمع المصري، والتلاعب السياسي الانتهازي للقوى السياسية الخارجية بالسياسة المصرية؛ تلطف من حدته بقدر ما ثقافة تسامح وتعددية وعقلانية وفخامة في المعمار جلبها الأجانب، وعززتها الطبقة الأرستقراطية المنحدرة من الدولة العثمانية، واستقت منها الحركة القومية المصرية نفسها إلهامها عندما عارضت الحكم البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر. لذا استطاع الزعيم الوطني العظيم سعد زغلول - الذي أثار نفي الإنجليز له في عام 1919 الشعب المصري لصنع ثورة صغيرة قادت إلى استقلال جزئي عن الاستعمار البريطاني - أن يقول باعتدال عن الغربيين في بلاده: «ليست بيني وبينهم خصومة شخصية ... لكنني أود أن أرى مصر مستقلة.» هذا الرأي المثير للجدل عن حقبة ما قبل الثورة يبين أن المصريين اعتنقوا أفضل ما أنتجته ثقافة العالم؛ إذ كانوا ظاهريا أقل تشددا دينيا من اليوم، ولكن أكثر تشبثا بالأخلاق، ومن ثم أكثر احتراما لرسالة الإسلام الجوهرية التي يعبر عنها العمل الصالح، وليس فقط الحرص على الشعائر الدينية الصارمة، وإصدار عدد لا حصر له من الفتاوى الغامضة والبغيضة في أحيان كثيرة. لقد أخضع علماء الإسلام آنذاك القرآن نفسه للدراسة والتحليل العقلاني؛ لحرصهم على دمج مبادئ العصر الحديث والديمقراطية في الدين الإسلامي.
بل حتى الملك فاروق رد له اعتباره، ففي رمضان الموافق سبتمبر/أيلول عام 2007، كان البرنامج الأكثر شعبية في مصر والعالم العربي لدى من يتاح لديهم إرسال تليفزيوني عبر الأقمار الصناعية، هو مسلسل تليفزيوني قصير يصور صعود الملك فاروق إلى السلطة وسقوطه منها، مسلطا الضوء على «الجانب الإنساني» للملك. أنتجت قناة إم بي سي الفضائية السعودية المسلسل وبث على قناة أوربيت السعودية التي تتمتع بشعبية مكافئة، لكنه لم يذع في البداية على التليفزيون القومي المصري الذي يقال إن المسلسل كتب ليعرض عليه قبل خمسة عشر عاما؛ إذ رفضت الحكومة المصرية تمويله لدواع سياسية. لكن إم بي سي قررت تمويل إنتاجه - على الرغم من محاولة المسئولين الحكوميين المصريين إعاقة إنتاجه برفض إصدار التصاريح لطاقم المسلسل للتصوير في المواقع والقصور الملكية والأماكن التي شهدت أحداثه الواقعية - ومن الصعب ألا يخطر ببال المرء أن قرار قناة إم بي سي قد يكون قائما - جزئيا على الأقل - على دواع سياسية؛ إذ لم يضع كاتبو أعمدة الرأي في الصحف التي تمولها المملكة العربية السعودية وقتا قبل أن يشيدوا بفضائل الملك فاروق، وهم يمتدحون أسر الخليج الحاكمة التي نجت من محاولات ناصر لتقويضها. وأذعن التليفزيون المصري للضغوط التجارية، وأعلن أنه سيعيد عرض المسلسل في ساعة المشاهدة القصوى بعد أن تبين أنه من أكثر المسلسلات الرمضانية نجاحا على مدى سنوات.
بعد يوم 23 يوليو/تموز الحاسم عام 1952، ألقيت القاهرة - «باريس النيل»، كما أسميت حبا فيها من قبل الأجانب الذين تدفقوا عليها وساعدوا في تصميمها وبنائها وإدارة شئونها إبان القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين - في مزبلة التاريخ كما يقال في المثل الشائع. شاعت المشاحنات لتحل محل الود بين المصريين والأجانب، وصودرت ممتلكات الأجانب طبعا، فاختاروا في نهاية الأمر مغادرة البلاد مع الأرستقراطيين، أو أجبروا على الفرار منها بعد حرب قناة السويس عام 1956. ويستدل على كراهية عبد الناصر المطلقة للأجانب من خلال طرده لنصف يهود مصر الذين ربطت أجهزة الدعاية لنظام عبد الناصر اسمهم بدولة إسرائيل الناشئة. وهذا مثال على حملات ضغط عديدة (استهدفت إحداها الإخوان المسلمين) استخدمها عبد الناصر لصرف الانتباه عن عيوب نظامه، لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. وفي حالة اليهود، لم تضعف هذه الحملات بالقطع مع محاولات إسرائيل المتخبطة لتجنيد وتمويل مجموعة صغيرة من يهود القاهرة لتنفيذ أعمال إرهابية في القاهرة؛ سعيا لإثارة الفتن الاجتماعية والاضطرابات السياسية. لكن إن كان معيار الحكم على الديمقراطية هو الحماية التي توفرها للأقليات الدينية وغيرها من الأقليات، فإن رحيل اليهود إلا قليلا جدا منهم عن مصر، مع تحول كلمتي «يهودي» و«إسرائيلي» إلى مترادفين في سياق المحادثات العابرة المعادية للسامية بين المصريين أنفسهم، يكشف بوضوح ملامح ميراث عبد الناصر «الديمقراطي»، كما تدل عليه حقيقة أن المعبد اليهودي الرئيسي بالقاهرة تحيط به حراسة أمنية يوفرها الجيش على مدار أربع وعشرين ساعة يوميا. •••
يقول الباحث العربي الأمريكي فؤاد عجمي إن شعورا رهيبا بخيبة الأمل والإحباط يكمن الآن في أعماق الحياة المصرية. حاز العجمي احتراما واسع النطاق كمراقب للتيارات السياسية والثقافية العربية، لكنه انتقد عقب دفاعه الحماسي عن الغزو المشئوم للعراق بقيادة الولايات المتحدة في عام 2003. أوضح عجمي في مقال عن حنين المصريين إلى الماضي نشر عام 1995 في صحيفة فورين أفيرز أن فخر مصر الحديثة يتجاوز بكثير حجم إنجازاتها، والشواهد المحزنة على ذلك قائمة في كل مكان؛ «في الفقر الذي تعانيه الطبقات الدنيا، في الساحة السياسية الكئيبة التي تسمح لضابط عادي باحتكار السلطة السياسية والحط من قدر منافسيه في المجتمع المدني، في اتجاه البلاد إلى السقوط في هاوية الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، في الوضع التعليمي والثقافي البائس.» هذا الشعور بالإحباط كما يرى عجمي ولد موجة قوية من الشعور بالحنين إلى حقبة السياسة الليبرالية في مصر التي امتدت من العشرينيات إلى ثورة 1952، إلى الديمقراطية البرلمانية والملكية الدستورية؛ إلى «الحياة السياسية النابضة بالحيوية والصحافة النشطة التي اتسمت بها تلك الفترة، إلى ثقافة رجال الأدب والفن الرفيعة، والمرأة الحرة التي تعبر عن نفسها وتحفر لها مكانا في الحياة السياسية والثقافية والصحافة». يقول عجمي معترفا بأن بعضا من تلك الأماني هو «نموذج لحنين مجتمع مزدحم مثقل بالهموم لعهد براءة وعظمة مفقود.» ويضيف عجمي: «لكن بعضها الآخر هو تعبير مشروع عن الاستياء من تواضع أحوال الحياة العامة.» ويرى العجمي أن مصر أفرزت في العهد الليبرالي سينما تتمتع بحرية أكبر من اليوم، عندما كان قادة الفكر فيها عمالقة يطرقون بقوة القضايا المعاصرة الهامة، ويضفون على الأدب المصري والعربي لمسة من العبقرية الخالصة.
Bilinmeyen sayfa