ولقد أفهم أن للدين أثرا في تشكيل وجهات النظر عند الناس، ولكني لا أفهم كيف يكون للأدب، شعره ونثره، وللفن بمختلف فروعه، أثر في تشكيل وجهات النظر، فهل تتكرمون بمزيد من الإيضاح؟
الجواب: تسألني عن الفن والأدب كيف يشكلان سلوك المتلقي، فأقول: أما الفن بمختلف أنواعه، الموسيقى، والتصوير، والنحت، والعمارة، فمهما اختلفت المذاهب في تحديد الصفة المشتركة بين تلك الأنواع، والتي أتاحت للعقل أن يجمعها جميعا تحت اسم واحد، هو «الفن»، فلا بد أن تتفق تلك المذاهب على أن الإبداع في الفن - كائنا ما كان نوعه - يخرج في القطعة المبدعة تركيبا تترابط أجزاؤه بنسب معينة، يمكن تقنينها، ويكون الأساس فيها هو أنها نسب من شأنها أن تحدث في نفس المتلقي حالة نفسية مقصودة، أراد الفنان أن يحدثها، فضلا عن أن تلك النسب بين أجزاء القطعة المبدعة، هي نفسها التي نطلق عليها اسم «الشكل» (أي الفورم) الذي بغيره لا يكون الفن فنا، فمثلا: هل يمكن أن تستمع إلى موسيقى حربية دون أن تشعر بانفعال الحماسة التي تدفعك إلى الرغبة في المشاركة في القتال؟ هل يمكن أن تتأمل صورة جرونيكا للمصور بيكاسو دون أن يأخذك الهلع من ويلات الحروب؟ هل يمكن أن تمعن في تمثال نهضة مصر للمثال محمود مختار دون أن تأخذك العزة بالانتساب إلى مصر، التي حاضرها يتمثل في الريفية التي اعتدلت قامتها وشمخت بأنفها وألقت بنظرها إلى الأفق البعيد، وماضيها الذي يتمثل في أسد رابض؛ ينتظر من تلك الريفية أن تمسه بأصابعها ليأخذ في النهوض، مستعيدا كل ما يرمز له من مجد مصر على مر العصور؟ هل يمكن أن تنظر إلى فن العمارة فيما بقي لنا من معبد الكرنك، دون أن تحس وكأنك تنتفخ من كبرياء لتتكافأ حجما وعظمة مع تلك العمد الرواسخ الشوامخ؟ إنه لمحال على إنسان يتأمل قطعة فنية، دون أن تسري في عروقه تلك الروح التي أراد لها الفنان أن تسري، ومن توالي النظر إلى مبدعات الفن تتكون عند الناظر رؤية معينة ينظر بها فيما بعد إلى مواقف الحياة العملية. لقد كان أفلاطون في «الجمهورية» قد حرم الفنون، على اعتبار أنها محاكاة لكائنات هي نفسها محاكاة بدورها للنماذج العقلية الأزلية، فلماذا نشغل الناس بمحاكاة لمحاكاة؟ لكنه استثنى الموسيقى، واشترط أن تدخل في مقررات الدراسة كلها؛ لأنها بما فيها من نسب متناغمة، لا بد أن تخلق في المتلقي ذوقا فيه ذلك التهذيب والاتساق والتناغم؛ وما قد ظنه أفلاطون بالموسيقى وأثرها في سلوك الإنسان، يمكن أن يمد ليشمل كل ضروب الفن؛ لأنها ليست في جوهرها «محاكاة» كما توهم عنها أفلاطون، بل هي في جوهرها بناءات تتسم بالتناغم الموسيقي.
وأما عن الأدب، فالأمر فيه بالنسبة إلى تشكيله لسلوك الإنسان المتلقي، واضح؛ إذ ماذا يكون الأدب بصنوفه كافة: الشعر، والرواية، والمسرحية، والمقالة الأدبية، إلا أن يكون انعكاسات للتفاعلات البشرية؟ إنك تقرأ ديوان المتنبي - مثلا - فتنظر إلى الدنيا نظرة ذلك الشاعر في كبريائه واعتداده بنفسه، وتقرأ شعر أبي العلاء المعري، فتنظر إلى الحياة من أعلى لترى تفاهتها وعظمتها معا، كما فعل أبو العلاء؛ وتقرأ رواية نجيب محفوظ في الثلاثية - مثلا - فترى مصر أمامك وهي في إحدى مراحل تاريخها، وترى «المصري» في أخص خصائصه السلوكية والوجدانية، وحين ترى ذلك فأنت لا تراه وصفا مجردا، بل تراه تفاعلا حيا بين مجموعة مصرية برجالها ونسائها وأطفالها وهمومها وأفراحها وأحزانها وشواغلها، فيكاد يستحيل ألا تخرج من ذلك كله بحالة شعورية معينة فيها الرضا وفيها السخط معا، الرضا عن بعض جوانب حياتنا والسخط على بعضها الآخر، فهل يمكن أن تعايش تلك الحالة الشعورية الراضية الساخطة دون أن تتكيف لها ولو إلى حد محدود؟ لقد رأيت أنا في أكثر من مناسبة، زوجات يرين وكأن أزواجهن لا يزالون يحيون على غرار النمط «الرجالي» الذي رأينا صورته في شخصية «السيد عبد الجواد» وهو يتطلب من زوجته ما يتطلبه السيد من أمة اشتراها بماله، والزوجة قد ربيت على أن تسعد بحياة الرقيق تلك، أقول إني رأيت في أكثر من مناسبة زوجات يرين في أزواجهن بوادر تلك النزعة فيكتفين بقولهن ساخرات: «حاضر يا س السيد»، على نحو ما كانت تقول زوجة السيد عبد الجواد في رواية نجيب محفوظ، وكان الزوج في كل حالة من الحالات التي شهدتها يستحيي من نفسه ويخجل من سلوكه، فماذا يعني هذا التحول إلا أنه من تأثير الأدب وتصويره للتفاعل البشري ولأنماط رد الفعل كما هي واقعة، فنرضى نحن أو نسخط، فينتج التعديل الاجتماعي نتيجة قريبة أو بعيدة لذلك الشعور بالسخط على أنفسنا أو الرضا؟
القسم الرابع
مصر تبحث عن نفسها
قضية تستحق النظر
إنني لا أتقدم هنا بفكرة نظرية، من تلك الأفكار التي هي أقرب إلى الرياضة الذهنية منها إلى المشكلات العملية، بل أتقدم بفكرة تعاودني كلما عاودتني مسألة تحيرت في حلها حلا حاسما، يزيل القلق من نفسي إزاءها؛ وهي مسألة لا تكتفي بأن تمس ظواهر الحياة وقشورها ثم تمضي، وإنما هي مسألة ضاربة في حياتنا عند جذورها؛ وماذا تقول في مسألة تدير سؤالها حول الذات المصرية في صميمها؟ إنه لا يكفينا أن تفض مشكلة كهذه، لها ما لها من عمق التأثير في وجدان المصري، بعبارة عجلى نلقي بها لنستريح، وإلا فما كان أهون من أن نقول عن المصري - وهو قول أكرره مرارا لنفسي عن نفسي - أقول ما أهون أن نقول عن المصري، إنه يمتد بماضيه إلى العصر الفرعوني، ثم هو عربي، وهو بمصريته تلك وعروبته هذه، جزء من الأمة الإسلامية، هذا قول سهل ومريح، وهو فوق ذلك قول نؤمن به، أو - على الأقل - يؤمن به كاتب هذه السطور، إذ هو مقتنع من عمق قلبه وفؤاده أنه مصري عربي مسلم، ثم لا يهمه بعد ذلك أن تضاف إلى هذه الأبعاد أبعاد أخرى، كالانتماء الأفريقي مثلا. نعم، هذا قول سهل ومريح، ولكن ماذا لو حللنا هذه الصفات الثلاث - المصرية والعربية الإسلامية - فوجدنا بعض العسر في أن نجعلها متطابقة كل التطابق بعضها مع بعض؟ إن كرامة عقولنا تقتضينا ألا نقذف بشفاهنا كلمات لها من الخطورة ما لهذه الكلمات الثلاث، دون أن نكون على وعي كامل بما هو مضمر فيها من معان، وإذن فهي قضية جديرة بالنظر المتأمل الدقيق، لكي تطمئن قلوبنا، بأننا إذ نصف أنفسنا بهذه الصفات الثلاث، فنحن نعني ما نقوله ونعيه.
إنه لمما يبعثنا حقا على ابتسامة الساخر، أن نجد أنفسنا بصدد سؤال نسأل به عن حقيقة الهوية المصرية؛ لأن السؤال عن حقيقة الهوية، إذا جاز طرحه بالنسبة إلى شعوب قصيرة التاريخ، فهو - فيما يبدو - لا يجوز طرحه على أقدم أمة في التاريخ، فمصر حين اجتازت سبعين قرنا من الزمن، وخاضت خلالها حضارات تعاقبت عليها، لم يكن لها في كل مرحلة هوية خاصة، اختلفت عن هويتها قبل ذلك وبعد ذلك، بل كانت هي هي مصر، مع زيادة في عمق الخبرة، وفي رهافة الحس الحضاري عند أبنائها. إنها لم تكن في كل مرحلة جديدة يجيئها بها التاريخ، تغسل عن جسدها غبار المرحلة السابقة، بل كانت كالذي يرتدي ثوبا جديدا يضيفه إلى ثيابه، أو كانت مثل كرة الثلج التي شرح بها هنري برجسون فعل الزمن في الكائن الحي، في أن تلك الكرة كلما تدحرجت على سفح الجبل، ازدادت كثافة الثلج في كيانها. إن اللحظة الجديدة في حياة الإنسان، لا تمحو فعل اللحظات السابقات، بل تضيف إليها جديدا، فإذا نحن أجرينا على المصري بحثا تحليليا بالمنهج «البنيوي» الجديد (الذي يروجونه هذه الأيام، في النقد الأدبي وفي غيره مما يتصل بالإنسان وحياته وتاريخه) لخرجنا من البحث ببنية مركبة، بقدر ما يتسع لذلك المحصول الحيوي الخبري الغزير، الذي امتصته مصر على امتداد القرون، والذي كونت به هوية «المصري».
نعم، إنه ليبعث فينا ابتسامة الساخر، أن نجد مجال السؤال لا يزال مفتوحا أمامنا: من هو المصري؟ أيدخل في عناصر هويته أنه عربي وأنه مسلم؟ وإذا كان ذلك كذلك فكيف كان؟ لكن ما حيلتنا وفي الموقف الحاضر شيء من الخلط وتداخل العناصر بعضها في بعض حتى لتتعذر علينا الرؤية الواضحة في كثير من الأحيان؟
فمن حيث أنا مصري أراني معتزا بميراث أسلافي، منذ أول يوم شهدت فيه الأرض مصريا يترك على تربتها آثار قدميه، وكيف لا أعتز بذلك الميراث ولم يكن المصري بما شيده لا لاهيا ولا عابثا؟ إنه حكم، وديانة، وعمارة، وفن، وزراعة، ونصر في القتال، فلو كان قد تسلل إلى دمائي من كل جانب من جوانب ذلك المجد أقل من خردلة، لكان فيما ورثته عن هؤلاء الأسلاف ما يملأ نفسي اعتزازا بآبائي الأولين ... إلى هنا والقول منساب في سلاسة وسهولة واقتناع، لكنني مسلم يتلو كتاب الله ويؤمن بكل ما جاء فيه، ومن بين ما جاء فيه أربعة وسبعون آية عن فرعون، وفي كل آية منها إشارة إلى ضلالة من ضلالاته.
Bilinmeyen sayfa