والآن فانظر يا ولدي كم وجد رجل واحد في وردة واحدة، وقف عندها فاحصا باحثا مدققا، ولو كان قد اكتفى بنظرة إلى البستان في جملته، بكل ما فيه من أشجار وأزهار وحشائش وأعشاب، وشهق من الدهشة قائلا: الله! ما أجمله من بستان! كما فعلت أنت عند قدومنا إلى هذا المكان، لما فرح بشيء مما رأى.
قف - يا ولدي - عند جزئية واحدة، من المجموعة التي أنت بصددها، وتعقب دقائقها وأسرارها، تزدد علما أكثر ألف ألف مرة مما تزداده الآن بتلك النظرات السريعة الشاملة، فسألني الغلام عند هذا الموضع من حديثي إليه قائلا: وهل كنت تفعل ذلك منذ طفولتك وصباك؟ أجبته بقوله: لا، لقد كنت مثلك عندما كنت في مثل سنك، أنظر النظرات الخاطفة، وأطلق الأحكام السريعة الشاملة، بل ظللت كذلك حتى أوغلت في مرحلة الشباب، وإني لأذكر جيدا كيف كنت أزور متاحف الفن، إذ كنت أهرول في أبهاء المتحف وغرفه، أنظر هنا، أنظر هناك، بل وأمشي أحيانا وكأن العينين مغمضتان عما حولي، ثم أزعم أني زرت المتحف الفلاني، أما بعد أن تعلمت كيف أنظر، فقد أصبحت أزور المتحف من متاحف الفن، لأقضي النهار كله في غرفة واحدة، وأذكر مرة رأيت لوحة من الفن الحديث، موضوعها شاطئ البحر في الصيف، أغرتني بالجلوس أمامها متأملا دقائقها مدة ساعتين، ولو طاوعت نفسي لواصلت الجلوس والتأمل، وذلك لأن اللوحة تكاد تشيع حولها برودة البحر ومرح المصطافين، على نحو يدفعك دفعا إلى الشعور بأنك بالفعل في ذلك المكان، فأردت أن أتتبع مكونات اللوحة واحدا واحدا، ومجموعة مجموعة، لعلي أقع على سر ذلك الإشعاع والنشوة.
إن الفرد من عامة الناس - يا ولدي - يعرف الماء والهواء والخضر والحديد والنحاس، يعرف القطن والقمح والفول والعدس، يعرف ذلك كله، ويستخدمه في حياته العملية، لكن قارن معرفته تلك بمعرفة العلماء في مجالاتهم المختلفة، تجد العالم يطيل الوقوف عند جزئية واحدة من مجال بحثه، قطرة واحدة من الماء - مثلا - أو جزئية من جزئيات النحاس، ويظل يحلل ويحلل، حتى يخرج للناس من ذلك التحليل بالعناصر التي يتركب منها الماء، أو بخصائص النحاس حتى يصل فيها إلى عدد الكهارب المكونة لكل ذرة من ذراته، وإنك يا ولدي ترى الضوء كما يراه العالم، وتسمع الصوت كما يسمعه، لكن انظر إلى العالم كيف يرى ويسمع، إنه يبحث ويبحث حتى يصل إلى الأطوال المختلفة لموجات الضوء وموجات الصوت، ويقيس سرعة الضوء وسرعة الصوت، أتدري ما نتيجة مثل هذه الرؤية الباحثة الفاحصة؟ إن العلماء وقد عرفوا من قطرة الماء كيف تتركب، بأن في مستطاعهم أن يصنعوا الماء، وأن العلماء وقد عرفوا تفصيلات الموجة الصوتية والموجة الضوئية، استطاعوا أن ينقلوا الصوت بالراديو، وأن ينقلوا الضوء (اللون) بالتليفزيون.
قف طويلا عند الجزئية الواحدة من أي شيء تريد معرفته، حتى لو كان الأمر يتطلب منك في النهاية أن تلقي النظرة الشاملة على الكيان في مجموعه، فإن علمك بالجزئيات التي دخلت في إقامة ذلك الكيان، يجعلك فيما يشبه النور، انظر إلى الفرق بين رؤيتك لجسم الإنسان من ظاهره، ورؤية العالم بتشريح ذلك الجسم تشريحا يعرف به المكونات الداخلية من أجهزة مختلفة وكيف تعمل، وتفصيلات كل جهاز منها على حدة، وتفصيلات علاقاته بسائر الأجهزة. كنت فيما مضى أقرأ كتاب الله مرة كل شهر - أقرأ جزءا كل يوم - ثم تعلمت كيف أقرؤه سورة سورة، وآية آية، ويدهشك - يا ولدي - إذا بينت لك الفرق بين الحالتين، إن استطلاع السطح لا يغنيك شيئا عن ارتياد الأعماق. وبمناسبة حديثي إليك عن المقومات الداخلية في الجزئية الواحدة، أذكر لك يوما وقفت فيه طويلا طويلا عند سورة التين، وقصة ذلك بشيء من التفصيل، هي أني صادفت في أحد أسفاري باحثة بريطانية مستشرقة، أو قل على وجه التحديد إنها مستعربة، تدرس ما أمكنها أن تدرسه من اللغة العربية والفكر العربي ، والأدب العربي، فلما عرفت أني مسلم، سألتني: أرجوك أن ترشدني إلى أي الأنبياء تشير كلمة «التين» في سورة: والتين والزيتون، وطور سينين وهذا البلد الأمين؟ فقلت لها: إنني لا أعرف أنها تشير إلى نبي. قالت: ولكن الأسماء الثلاثة التالية لها في القسم تشير كل منها إلى نبي. فالزيتون إشارة إلى عيسى، وطور سينين إشارة إلى موسى، والبلد الأمين إشارة إلى محمد (عليهم جميعا الصلاة والسلام)، قلت لها: إن الذي أعرفه هو أن مثل هذه الإشارة إنما يقتصر على طور سينين؛ لأنه جبل موسى، والبلد الأمين؛ لأن المقصود به هو مكة المكرمة، أما التين والزيتون فلا أعلم عنها ذلك.
وانتهزت أول فرصة مواتية، ورجعت إلى تفسير الطبري، فوجدته - كما توقعت - يقول عن التين إنه التين الذي يؤكل، وعن الزيتون إنه الزيتون الذي يعصر، إذن فليس هو جبل الزيتون الذي هو ذو شأن في حياة المسيح - عليه السلام - ولم أقف في تفسير الطبري عند هذا الحد، بل أكملت قراءته إلى نهاية السورة، وهي سورة كنت قد عشت معها ساعات، أستبطن معانيها وأعماقها قدر استطاعتي، فوجدت بين تفسير الطبري لها، ورؤيتي لها، اختلافا أبعد ما يكون الاختلاف، وبالطبع حين يكون اختلاف في مجال كهذا، بين عابر سبيل مثلي، وبين إمام كالطبري، تكون الأولوية لرأيه، ولكن تلك الأولوية لا تلغي وجودي، فما زلت أدهش لما قاله الطبري عن معانيها، ولا أملك إلا أن أجعل الرجحان لرؤيتي، وإني إذ أستعين بالله وأستغفره، سأعرض وجهتي النظر في إيجاز.
بعد أن أقسم الله سبحانه وتعالى، بالتين والزيتون، وطور سينين وهذا البلد الأمين، قال جل شأنه:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون .
يرى الإمام الطبري أن «أحسن تقويم» معناه أعدل خلق وأحسن صورة، وأن «أسفل سافلين» هو أرذل العمر، أي مرحلة الهرم التي تذهب فيها العقول ويحدث الخرف، أي إن مجمل المعنى هو: لقد خلقنا الإنسان في أجمل صورة، ثم رددناه إلى قبح الشيخوخة إذا صحبتها حالة الضعف العقلي، ويمضي الطبري في هذا الخط في تفسيره، فيكون معنى
إلا الذين آمنوا ...
أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات تصان لهم صحتهم وقوة شبابهم، وهؤلاء المؤمنون «لهم أجر غير ممنون»، أي إنهم ينالون أجرا غير منقوص؛ إذ هم يظلون أقوياء على العمل.
Bilinmeyen sayfa