4
وإنه لمما يلفت النظر في التشابه بين اليوناني والعربي، نتيجة للتشابه القائم بينهما في تركيبة الإطار الفكري، من حيث البدء بما هو حقيقة شاملة ومطلقة، ثم النزول منها إلى الحقائق المفردة والجزئية، وذلك برغم اختلاف العربي عن اليوناني في طبيعة نقطة البدء تلك، أقول إنه لمما يلفت النظر في التشابه بين الجماعتين أنهما معا قد برعا في الفكر الرياضي براعة بلغت الغاية القصوى في ذلك الميدان، على خلاف ما أبدياه من قدرة محدودة في العلم الطبيعي، وتعليل ذلك هو أن الفكر الرياضي ينصب في الإطار المنهجي الذي رأيناه قائما عند اليوناني والعربي كليهما، وأعني الإطار الذي يبدأ بما هو عام وشامل، نزولا إلى ما ينتج عنه من مفردات جزئية، فكذلك يكون طريق السير في الفكر الرياضي، سواء أكان ذلك الفكر الرياضي في علوم الرياضة ذاتها كالحساب والجبر والهندسة، أم كان في مجالات ثقافية وعلمية أخرى، تختلف موضوعا، لكنها تتفق منهجا مع ذلك الإطار، كالفقه الإسلامي، وعلوم اللغة، وعلم الكلام، فكلها يبدأ الفكر فيها مما هو عام، ليستخرج منه ما هو جزئي وخاص.
ولا غرابة - إذن - أن نجد المنهج العلمي، كما صاغه أرسطو في نظرية القياس، ملائما للفكرين اليوناني والعربي على السواء؛ إذ تقتضي نظرية القياس الأرسطية، التي نقلها العرب فيما نقلوه عن اليونان، بحيث أصبح علم المنطق شرطا أساسيا فيمن يوصف بأنه مثقف أو فقيه أو عالم في أي ميدان من ميادين العلم، أقول إن نظرية القياس الأرسطية تلك تقتضي أن يبدأ العقل بمقدمات مفروض فيها الصدق، ثم منها تولد النتائج الصحيحة وفق قواعد معلومة ومحددة، يعرفها المناطقة ودارسو المنطق.
كانت السيادة المطلقة معقودة للمنهج القياسي، في الحياة الفكرية عند اليونان وعند العرب على السواء، ومن ثم كانت لكليهما معا براعة الفكر الرياضي، وما يجري مع الفكر الرياضي في فلك واحد، بل إنه عندما حدث لرجل ينبغ في العلم الطبيعي، عند أولئك وهؤلاء معا، مثل أرشميدس عند اليونان، وجابر بن حيان عند العرب، فقد كان ذلك الرجل لا يجد أمامه من سبيل إلا أن يصوغ علمه الطبيعي في قالب العلم الرياضي، بمعنى أن يبدأ فيه بمقدمات عامة مسلم بصحتها بادئ ذي بدء، مع أن العلم الطبيعي محال له أن يزدهر وينتج إلا إذا سار على منهج آخر، يبدأ فيه الباحث بما هو مفرد وجزئي، لينتهي آخر الأمر إلى ما هو عام وشامل من قوانين العلوم، وذلك ما تنبهت إليه النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي، فأنشأت إلى جانب المنهج الأرسطي القياسي منهجا جديدا يصلح للبحث في ظواهر الطبيعة واستخراج قوانينها العلمية.
5
من حقنا أن نخلص مما أوردناه من أوجه التشابه ومواضع الاختلاف بين العربي واليوناني إلى النتيجة الآتية، وهي أنهما إذا كانا متشابهين في إطار فكري تتجه فيه حركة العقل من الكلي إلى الجزئي، ومن العام إلى الخاص، ومن المقدمات إلى النتائج، فموضع الاختلاف الرئيسي بينهما هو أنه بينما الأولوية الأولى إنما تكون لمبدأ من وضع العقل، فالأولوية الأولى عند العربي هي لحقيقة يتقبلها الوجدان، ثم يبدأ العقل بعد ذلك في توليد النتائج منها.
وتتفق هذه الأسبقية الوجدانية عند العربي مع جذور فطرته، وما تلك الجذور إلا أن العربي شاعر، إنه شاعر بالسليقة، ثم هو بحكم تلك السليقة الشاعرة يتميز في مقومات شخصيته بما يتميز به كل شاعر عرفته الدنيا أو سوف تعرفه، ولعل أهم صفة تميز الشاعر عن سائر عباد الله هي أنه بدل أن يعد نفسه ظاهرة من ظواهر الطبيعة، تراه يؤنسن الطبيعة ليجعلها مندرجة مع الإنسان في وجدان واحد، إن الشاعر لا يرى غرابة في التحدث إلى النجم والبحر والجبل، ولا يرى غضاضة في أن يجد أنسه مع شجرة وجدول وعصفور، فالشاعر يخلع على الطبيعة الخارجية طابعه الداخلي، فينظر إلى كل شيء بمنظار ذاته هو، ويقيس كل شيء بمعياره هو، فنتج عن هذه الوقفة الشاعرة نتيجتان خطيرتان في حياة الفكر عند العربي؛ أولاهما: أنه إذا كانت عبقرية العربي هي في شعره، ثم إذا كان محالا على الشعر أن ينقل إلى لغة غير لغته، ويظل محتفظا بكل قيمته، كان العربي بهذا القدر نفسه مجهولا من الآخرين، فإذا عرفه الآخرون، لم يعرفوه على حقيقته كاملة، ولقد ذكر الجاحظ هذه النقطة في المجلد الأول من كتابه «الحيوان» وأفاض فيها القول، مشيرا إلى أننا قد يسهل علينا أن ننقل عن اليونان فلسفتهم وعلومهم، وأن ننقل عن الفرس كذا وعن الهند كيت، لكنه محال على تلك البلاد أن تنقل عنا أروع ما يمثلنا، وهو الشعر، وأما النتيجة الثانية فهي أن العربي بسبب رؤيته الشاعرة يرى في الأشياء كيفها أكثر مما يسأل عن كمها، ولما كان إدراك الجانب الكمي هو في الصميم من العلم الطبيعي، فالأرجح بناء على ذلك ألا يبرع العربي في علوم الطبيعة، كما كان قد برع في علوم الرياضة، لا بل إنه - بحكم تلك الرؤية الشاعرة - قد جبل على أن ينظر إلى كل ما يتصل بالطبيعة نظرة ازدراء؛ لأنها «مادة» من جهة وهو مع الروح قبل أن يكون مع المادة، ولأنها «واقع» من جهة أخرى، والواقع كما توحي هذه اللفظة نفسها، شيء وقع، أي هبط وسقط، ولم تعد له رفعة الحقائق الروحانية وسموها.
وعلى ذكر الوقفة الشاعرة عند العربي، وأهمية الشعر في حياته الثقافية، لا بد لنا من الإشارة إلى فروع تفرعت عن ذلك الأصل، منها أنه لما كان الشعر بطبيعته يتميز بالعناية باللفظ وطريق سبكه، حتى ليمكن القول بأن الشعر جوهره في شكله لا في مضمونه، أي إن المهم فيه ليس هو ماذا تقول، بقدر ما هو كيف تقول ما أردت أن تقوله، وقد أشار الجاحظ أيضا إلى هذه الحقيقة عن الشعر، حين قال إنها ليست في المعاني؛ لأن المعاني ملقاة على قارعة الطريق لمن شاء أن يلتقطها، أما سبك تلك المعاني في الألفاظ المنتقاة لها، وفي الصياغة التي تنخرط فيها تلك الألفاظ، فذلك ما لا يستطيعه إلا شاعر، أقول إنه لما كان الشعر ذلك هو جوهره، فقد وجد العربي نفسه محكوما بفطرته الشاعرة، في شدة اهتمامه باللفظ، اهتماما كثيرا ما يصرفه عن ضرورة أن تكون لذلك اللفظ دلالة تهدي الناس في دنيا الأشياء.
وكان مما تفرع أيضا عن اتجاه العربي بقوته نحو الشعر، أنه ازداد تمسكا بأن يأخذ نماذجه العليا من التقليد، فالحكم على الشعر بالجودة مرهون بأن يجيء ذلك الشعر على غرار ما نظمه فحول الشعر في الماضي، وإنه لمما يستوقف النظر حقا أنه بينما اتجه المسلمون إلى الحط من شأن الجاهلية في كل جوانب الحياة، استثنوا الشعر، وجعلوا مقياس الفحولة في الشعر ما نظمه نوابغ الشعراء في العصر الجاهلي، ولقد رأينا الأصمعي حين أراد أن يحدد مقاييس الفحولة في الشعر، يتخذ شعراء الجاهلية سنده ومرجعه، حتى غدا شاعر عظيم مثل ذي الرمة، مقصرا دون مرتبة الفحولة؛ لأنه لم ينظم في كل أغراض الشعر التي نظم فيها كبار السابقين، فللشعر العربي عمود، وعلى الشاعر أيا ما كان عصره، أن يعتصم بعموده.
6
Bilinmeyen sayfa