ذلك - إذن - ضرب من الحركة التي ينشط بها الإنسان في أدائه لواجباته يوما بعد يوم، لكنه ليس هو الضرب الذي نعنيه حين نأخذ على حياتنا الحاضرة ركودها وخمودها وعمقها ومواتها، وأما الضرب الآخر، فهو ذلك الذي تراه حين يكون المجتمع فائرا بقوة الشباب وفتوته، يلقي بنفسه في المجهول مغامرا حتى يرفع عن ذلك المجهول غطاءه الذي يخفي حقيقته وطبيعته. إن روح المغامرة حين تشيع في جماعة ناهضة طامحة، إنما تعلن عن وجودها في شتى الميادين؛ فهي بادية في طموح العلماء والباحثين، وهم يسعون - كل في مجاله - نحو إضافة جديدة يضيفونها إلى العلم، وعندئذ لا تجد ذلك النوع من الرجال الذين نطلق عليهم صفة العلماء، حين يكونون في حقيقتهم تلاميذ كبارا حفظوا الدروس ليلقوها على الدارسين محاضرات أو مذكرات، أقول إن روح المغامرة حين تشيع في جماعة طامحة تراها بادية في ألف صورة وصورة، فهي بادية في شباب يركب الصعاب ليحقق المحال، فهو يجوب البحر ويرتاد الصحراء ويصعد الجبال؛ وإني لأعجب وتأخذني الحسرة، كلما تابعت شباب الغرب في طموحهم الجريء، فمنهم من يغوص في البحر أياما بعد أيام ليرسم بدقة بالغة آثارا غارقة في البحر منذ آلاف السنين، ومنهم من يعبر المحيط وحيدا في مركب صغير يعده لنفسه بنفسه، ومنهم من يلف كوكب الأرض ماشيا على قدميه، ومنهم من ينفق أعواما في غابة استوائية ليرقب صنفا معينا من الحشرات أو الزواحف أو الطيور إلى آخر تلك المغامرات إذا كان لها عند هؤلاء الطامحين آخر، والأمثلة التي سقتها ليست من خيالي، ولكنها جزء مما تابعت حدوثه في صيف واحد، بل وأضيف إليها مثلا آخر كان فريدا في نوعه، وهو أن القائمين على التعليم في بريطانيا أخذوا في اختيار عدد من الدارسين الممتازين من طلاب المدارس الثانوية، ليرسلوهم في رحلة تدريبية إلى منطقة القطب الشمالي مكلفين بالقيام ببحوث استكشافية محددة، يجرون فيها على نهج المستكشفين الكبار، أقول إني لأعجب وتأخذني الحسرة كلما تابعت مغامرات الشباب في الجماعات الطامحة لأني لا أملك في كل حالة إلا أن أرتد بعين خيالي إلى شبابنا في معظمه، لأراه في ضعف ومسكنة منكمشا باهتماماته في تفاهات، كأن يشغل نفسه بشوارب الرجال ولحاهم، متى تقص ومتى ترسل، وإذا قصت فكم مليمترا يبقى منها، وإذا أرسلت فإلى أي الحدود. هما ضربان مختلفان من الثقافة والتثقيف، ضرب منهما يميل بالناس إلى السكون والقعود والركود، والضرب الآخر يحث الناس على الحركة والمغامرة والكشف عن الجديد، الضرب الأول ينتهي بأصحابه إلى مواقع التبعية الذليلة الضعيفة الفقيرة المريضة، والضرب الثاني لا يدع أصحابه إلا وهم يشقون جلاميد الصخر صعودا إلى الذرا: علما وأدبا وفنا وريادة وسيادة وثراء. وهل نعجب بعد هذا إذا رأينا أولئك الطامحين المجاهدين المغامرين الكاشفين المنتجين، أحرارا في أوطانهم فلا انقلاب من أجل الحكم، ولا اغتصاب، ولا اعتقال لمن يعارض ولا تعذيب ولا اختفاء للمتمردين في قبور تجمع بقاياهم ألوفا ألوفا، وذلك لأنهم مشغولون بالبناء والكشف والإنتاج، وأما الهدم والتخريب والجهل والرجوع إلى الوراء لياذا بالماضي ليحميهم من قسوة الحاضر، فأمور متروكة لمن دب في أرواحهم هزال اليأس والضعف والمرض.
وبين أيدينا قرآن كريم لو عشناه لكانت الحرية لنا، والريادة لنا، والعدل فينا، وكل مقومات الكرامة والرفعة والطموح البناء في نفوسنا. ولكن السؤال هو: كيف نعيشه؟ إننا نقرؤه، نعم، ولكن هل نحياه؟ سأضرب لك مثلا واحدا أوضح به ما أريده.
وقفت طويلا طويلا عند الآيات الكريمة التي تقول: ... ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين * فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة ...
فارتسمت في ذهني صورة مؤداها أن الحرية والعدل واجبان على المسلم بحكم الكتاب، فالمعنى كما استخلصته هو هذا: إننا جعلنا للإنسان وسيلة يدرك بها الحق ووسيلة يعبر بها للآخرين عن الحق الذي رآه، وهديناه ليرى صعوبتين تقفان في طريقه لكي يذللهما ويقهرهما، لكنه وقف أمام تلك العقبة لا يحاول اقتحامها، وما هي العقبة التي نشير إليها، هي أن تحرر من قيدت حريته وأن تطعم من حالت الظروف دون إطعام نفسه وأن ترعى من فقد الوالد الذي يرعاه.
فالمحوران الرئيسيان هنا اللذان يحققان الحياة الكريمة، هما: أن يكون الناس أحرارا، وأن تقوم بينهم عدالة اجتماعية تقضي بالتعاون بين أفراد الجماعة تعاونا لا يهمل معوزا ولا ضعيفا عاجزا، لكن تحقيق ذينك المحورين ليس بالأمر اليسير؛ لأن في الإنسان من غرائز الحيوان ما يميل به نحو التملك الذي يسلب من الآخرين حرياتهم، ونحو النهم الذي لا يشبع حتى ولو حرم الآخرون، فتلك عقبة كامنة في غرائز الإنسان، ولا بد من تذليلها بالتربية التي تجعل الرجحان في طبيعة الإنسان، للحرية له وللآخرين، وللعدالة الاجتماعية، تقام بينه وبين الآخرين.
فهل يمكن لمسلم أن يعيش هذه الأسس ويحياها، ثم يسكت عن طغيان يسلب الناس حرياتهم، ويغض بصره عن تفاوت بين الأفراد، تفاوتا يبيح أن يكون إلى جوار الجائع من يملك الملايين؟ ليست المسألة هنا متروكة لاختيارنا، فإما جاهدنا نحو تحقيق الحريات وإما سكتنا. كما أنه ليس متروكا لاختيارنا، فإما أقمنا عدالة بيننا وإما صرفنا عنها النظر. بل الأمر هنا أمر عقيدة دينية تأمر وعلينا التنفيذ. تلك هي الصورة التي خرجت بها من تلك الآيات الكريمة، لكنني أردت الرجوع إلى المفسرين لأرى ماذا يقولون، وإذا بي أجد تفسيرا يصعب على عقلي قبوله، فأولا هو تفسير لا يستند إلى معاني الألفاظ التي أمامنا، وثانيا - وهو المهم - هو تفسير ينتهي بنا إلى حياة السكون الخامد، لا إلى حياة الحركة الطامحة إلى رفعة الإنسان وكرامته، فقيل في النجدين إنهما طريق الخير وطريق الشر ، فمن أين تأتي هذه التفرقة وكلاهما نجد، أي أن كلا منهما بمثابة المرتفع من الأرض الذي يقف حائلا في طريق السائر، وكيف يتسق المعنى مع قوله تعالى بعد ذلك مباشرة «فلا اقتحم العقبة» على أن الذي نريد لفت النظر إليه هنا بصفة خاصة، هو السؤال: وما أدراك ما العقبة، ثم التعقيب على السؤال بما يجيب عنه، وهو أن العقبة التي لا بد من تذليلها هي أن الإنسان الذي يتحكم في الرقاب يجب أن يفك تلك الرقاب، والإنسان الذي يملك الثراء يجب أن يؤخذ من ثرائه لأجل الآخرين، لكن ماذا يفيدنا أن يقول لنا المفسرون إن العقبة هي جبل في جهنم، ومن أين يأتي هذا المعنى، والذي أمامنا هو كلمة عقبة ثم توضيحها الذي ورد بعدها، وهو أن العقبة هي أن نطلق للناس حرياتهم، وأن نقيم بيننا وبينهم تعاونا.
بين أيدينا كتاب كريم، إذا عشناه كنا نحن الأحرار، وكنا نحن العادلين، وكانت حياتنا آخر الأمر هي الحياة القوية الوثابة الطموح.
جاهل بالسياسة يتحدث عنها
أما الجاهل بالسياسة الذي - رغم ذلك الجهل - يجعلها موضوعا للحديث، فهو أنا فلست من دنيا السياسة في كثير أو قليل، إنني - بالطبع - أعيشها كما يعيشها الملايين، لكنني لا أملك القدرة على «تنظيرها»، فأنا أعيشها بمعنى أنني كسائر الناس، أنعم، أو أشقى بالحوادث كما تجري، لكن ذلك لا يعني أنني أستشف تلك الحوادث لأرى وراءها كيف تجمعت أو تفرقت لتنتج ما أنتجته، نعيما للناس في حياتهم العملية أو شقاء، وهل كان يمكن - مثلا - ألا يشقى مصري بنتائج حرب 1967م، وألا ينعم بنتائج حرب 1973م. هكذا تتجمع الحوادث أو تتفرق أمامي، كما يتجمع السحاب فجأة أو ينقشع فجأة، لكن رجال الأرصاد الجوية هم الذين يعرفون لماذا حدث ما حدث، وماذا كانت مقدماته وماذا سوف تكون نتائجه، أما أنا وأمثالي من سائر الملايين فيفاجئه المطر إذا نزل، وينعم بالشمس إذا أشعرته بالدفء في فصل الشتاء.
الفرق بعيد بين أن يعيش الإنسان العادي ظاهرة ما، وبين العالم حين يستخرج من تلك الظاهرة ما يكمن فيها من نظرية وقانون، فكلنا يعيش «الماء» يشربه، ويطهو به طعامه، ويغسل به ثيابه ، لكن العلماء وحدهم هم الذين يعرفون مم يتركب الماء، وكلنا يتنفس الهواء برئتيه، ويمشي على رجليه، ويهضم الطعام بجهازه الهضمي، لكن عالم وظائف الأعضاء وحده هو الذي يعرف ماذا يحدث للرئتين إذ هما تتنفسان، وكيف تعمل عضلات الرجلين وما هنالك من عظام ومفاصل، وعلى أي نحو تعمل المعدة والأمعاء حين يتم للإنسان هضم طعامه ... ومثل هذه الفوارق، بين أن يعيش الإنسان إحدى حالاته البدنية أو العقلية، وبين أن يتناول العلم تلك الحالات نفسها بالتحليل العلمي والتنظير.
Bilinmeyen sayfa