القرآن الكريم هو كتاب الله عند المسلم، والطبيعة بكل ظواهرها هي خلق الله، فهل يكمل ديني إذا قرأت الكتاب الكريم، ولم أقرأ معه الكتاب الآخر، وهو هذا الكون الفسيح بما فيه - ما استطعت إلى ذلك سبيلا - إنك قد تجد من علماء المسلمين المجددين من يدعو الناس إلى هذا، وكأن المسألة منحصرة في دعوات ينادى بها من المنابر، وإلا فلماذا لم يبدأ هؤلاء العلماء بأنفسهم، فيخرطون أنفسهم في سلك الدارسين لجانب أو آخر من كائنات هذا العالم، في جماده ونباته وحيوانه؟ لقد كنت سمعت من صديق لي، هو أحد هؤلاء العلماء المجددين، أن الإسلام يرحب بصعود الإنسان إلى القمر (وكان ذلك الحديث عندما نزل أول رجل على سطح القمر) ثم أنبأني صديقي ذاك أن فضيلة الشيخ ... الذي كان - رحمه الله - في طليعة الطليعة من علماء الدين، قد قال في مسألة الصعود إلى القمر: أعطوني تذكرة أسافر بها في صاروخ إلى القمر، تجدوني أول المسافرين، وهذا جميل منه بغير شك، لكني أقولها مرة أخرى: إننا لا نريد للأمر أن يقف عند حد الكلام، فلو كنا جادين فيما نقوله، لوجدت منا اليوم من يشتغلون بتلك العلوم وتطبيقاتها، جنبا إلى جنب مع من يفعلون ذلك من بناة هذا العصر.
عندما أهل علينا القرن الخامس عشر الهجري، سألني سائل: كيف تريد للمسلم الجديد أن يكون؟ فأجبته إجابة مستفيضة بما معناه أريد للمسلم الجديد في القرن الخامس عشر الهجري أن يكون على غرار المسلم القديم في مستهل القرن الهجري الأول، فإذا كان المسلمون الأولون قد انكبوا على كتاب الله الكريم قراءة ودراسة - فلنأخذ عنهم في ذلك على الأغلب - بل ولنضف إليه ما وسعنا، ثم إلى جانب ذلك فلنتجه - بمعظم جهدنا - لقراءة «خلق السموات والأرض»، كما أمرنا ربنا أن نفعل؛ لأنه إذا كان الأولون قد صنعوا الكثير بالنسبة للكتاب الكريم فهم لم يصنعوا إلا القليل بالنسبة إلى دراسة السموات والأرض، وإنني لأشعر بأنني عابد لله جل وعلا، إذا قرأت كتابه، وعابد له سبحانه، إذا قرأت خلقه في الأرض وفي السماء، فعظمة الخالق مسطورة بمداد خفي على صفحات الكون جميعا، وعلى العابد أن يفك الرموز ليزداد بالله إيمانا على إيمان.
إن لكل امرئ ما نوى، والله أعلم بنيتي، ولست أجد ختاما لهذه الرسالة يا أخي المصري، بل ويا أخي العربي، ويا أخي المسلم، أفضل من إعادة صرخة كنت صرختها قبل هذا بقلمي، فقلت فيها:
هذه كلمة من القلب، أوجهها إلى أي مصري يصادفها، لأقول له: إنك أنت - يا أخي - وأنا، وجارك، وجاري، ومن شئت من سائر عباد الله، هو آية من آيات الخالق - جل وعلا - خلقه، وعدله، وسواه إنسانا، ليكون قبسا من نوره في هذه الدنيا، وليكون مسئولا أمامه - سبحانه - يوم الحساب، فمهما يكن مقدارك بمقاييس الناس، هنا، على هذه الأرض، فمقدارك عند الله، هو نفسه المقدار العظيم، الذي قسمه لمن يحمل الأمانة بعد أن عرضت على السموات والأرض والجبال، «فأبين أن يحملنها وأشفقن منها» فلو أدركت في نفسك هذه المنزلة السامية، عند من خلقك كما خلق سواك ، أدركت الأعماق البعيدة البعيدة، التي تنطوي عليها تكبيرتك عند إقامة الصلاة، وعند كل ركوع وسجود، الله أكبر، فليس غيره في هذا الكون الفسيح من هو أكبر منك إلا هو، لقد قال المسيح - عليه السلام - لمن توارى استصغارا لنفسه، ما معناه: لماذا تخفي سراجك تحت الغطاء؟ نعم، يا أخي، لقد أراد لك الله أن تكون للنور، فلماذا تحجب عن الدنيا ما قد ألقى به ربك في قلبك من نور؟ إنه إذا خطرت في رأسك فكرة صالحة، فأعلنها في الناس شعاعا شجاعا، لينضاف إليه شعاع وشعاع وألف شعاع، ليصبح ذلك كله في حياتنا سراجا وهاجا يفيض بالنور، وإذا كان في وسعك عمل تؤديه؛ فيصلحك ويصلحنا معك، فقم لساعتك وأنجزه، لينضم إليه عمل، وعمل، وألف عمل، وإذا بأرضنا قد تبدلت غير الأرض، وإذا حياتنا قد تغيرت غير الحياة، لا، لا تقل: ومن أكون أنا في هذا البحر، الزاخر من البشر، لا، لا تقل: إنني عابر سبيل مع الغمار مغمور، لا تقلها، فأنت أنت خليفة الله في الأرض، حملت رسالته لتؤديها، وليس هناك من هو أكبر، إلا ربك وربي، ورب العالمين!
تلك كانت رسالتي، كتبتها إلى أخي المصري، وخطر الموت محدق بالسفينة وراكبيها، والتمست لها زجاجة استودعتها إياها، وأحكمت إغلاقها، وألقيت بها في المحيط، ترى هل تلقاها من تلقاها؟ أو هي لا تزال تتأرجح مع الأمواج صاعدة هابطة في دنيا العدم؟
ثقافة السكون ... وثقافة الحركة
المصادفات فعلها عجيب، فكأنما الأحداث التي نطلق عليها اسم المصادفات نعني بهذه التسمية أنها أحداث جاءتنا عمياء، فلم تكن تدري هي نفسها هل تقع أو لا تقع، وإذا هي وقعت فأين تقع ومتى ولا على من من الناس تقع؛ أقول: كأنما تلك الأحداث التي نزعم لها الحيرة والعمى، إنما هي في حقيقة أمرها مدبرة ومرسوم لها الطريق، ومحددة لها الأهداف وكل ما في الأمر، هو أننا نحن البشر لا نعلم عن حقيقتها شيئا، ولو علمنا، لعرفنا مصادرها ومساراتها وأهدافها.
ومن تلك المصادفات، أنني ذات يوم قريب، شغلت نفسي بسؤال ثم أخذت أبحث له عن جواب، وكان السؤال هو: ما سر هذا الجمود الذي أمسك بأطرافنا، وكأنه سمر أقدامنا في مواضعها من الأرض فلا تخطو إلى أمام؟ وما كنت لأسأل سؤالا كهذا، لولا أنني - في مثل هذا الأمر - لا تخدعني ظواهر الأشياء عن بواطنها، إنك تنظر فترى ما حولك يعج بالحركة، فشوارع المدينة غاصة بالمشاة والراكبين، ولا بد أن يكون لكل من هؤلاء غرض يسعى إليه، إذن فهو في حركة نشيطة لا جمود فيها ولا ركود كما تظن أنت وتدعي؛ حتى ما جاء المساء، وجلست أمام التليفزيون لتشهد الدنيا وأهلها وأحداثها، صدمتك ندوة يشارك فيها نخبة من علمائنا ومن شبابنا، وإذا الموضوع الذي يحتد حوله الحوار ويحتدم هو الشوارب واللحى، هل نحفها أو نتركها لتنمو على طبائعها، فعندئذ تدرك من هذا الذي يثقل صدور علمائنا وشبابنا بالهموم كم يشل الجمود أطرافنا فلا نتحرك خطوة إلى أمام، برغم ما ملأ شوارع المدينة من ظواهر النشاط والحركة.
وتنظر إلى الصحف والكتب التي تخرجها المطابع كل يوم فترى كلمات الكاتبين متدفقة أمام عينيك أنهرا وبحورا، وليس هؤلاء الكاتبون بالمجانين الذي يدفقون المداد على الورق بسنان أقلامهم كما اتفق، ثم يقولون للناس هاكم مقالة أو كتابا، بل لا بد أن يكون لكل منهم ما يتدبره ويعنيه، لا، بل لا بد أن يكون كل منهم قد تأرق بما يزحم رأسه من معان يريد تبليغها إلى الناس، حتى إذا ما قرأت أو سمعت وجدت بعض ما يشغلهم هو تعليم البنات، أحلال هو أم حرام؟ وعمل المرأة أيجوز أم لا يجوز؟ نعم، إنك تنظر حولك فترى حركة ونشاطا، ولكن شيئا ما يضربك آنا بعد آن ليوقظك من غفوتك، فلا تملك عندئذ إلا أن تحس بأننا - بكل مقاييس التقدم في العالم الناهض - جامدون مسمرون عند مواضع أقدامنا حتى ليتعذر عليك أن ترى فارقا حقيقيا بين عامة جمهورنا اليوم وعامة الجمهور كما كانت منذ مائة عام، أيام محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وعبد الله النديم، وقاسم أمين، وإذا كان ذلك كذلك فمن حقنا أن نسأل: لماذا؟
هكذا كنت أسأل نفسي ذات يوم قريب، عندما زارني صديق عرفت فيه نموذجا نادرا، من حيث قدرته البارعة على مزجه جد الأمور بهزلها.
Bilinmeyen sayfa