أجهزة الإعلام في هذا العصر أدوات سلطانها على الناس جبار، ونحن الذين نصنع من ذلك السلطان شيطانا يحيل المستقبلين بضرباته عبيدا، أو نصنع منه رسولا يبشر بالحرية، بل ويزرعها زرعا في عقول الناس وقلوبهم.
أدرك السفينة يا ربانها
كان من أهم ما اشتغلت به أقلام المفكرين خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا - وفي إنجلترا وفرنسا على وجه التحديد - مسألة المجتمع وكيف نشأ أول ما نشأ. ولم يكن الذي يهم هؤلاء المفكرين في ذلك هو مجرد التسلية بفكرة نظرية يلهون بها لهو من أراد إزجاء فراغه في نشاط عقلي وكفى.
بل جاءت مشغلتهم تلك ردا مباشرا على أزمات سياسية قائمة بالفعل، مدارها العلاقة بين الشعب والحاكم كيف ينبغي لها أن تكون؟ ولكي يجيبوا عن سؤال كهذا، لم يجدوا بدا من الرجوع بالمشكلة إلى جذورها الأولى، باحثين عن الطريقة التي نشأت بها تلك المجتمعات، خروجا بالإنسان من فطرة الحياة في الغابات أو الأحراش أو كيفما كانت البيئة المعنية التي نشأ فيها مجتمع معين، ففي بحث هؤلاء المفكرين عن الطريقة التي نشأت بها المجتمعات، خرجوا بالإنسان من فطرة الحياة في الغابات أو الأحراش أو كيفما كانت البيئة المعينة التي نشأت بها تلك المجتمعات. كانوا في حقيقة الأمر إنما يبحثون عن الصورة الأولى التي ارتبط بها محكوم بحاكم، وعلى ضوء تلك الصورة يمكن إقامة بناء فكري في فلسفة السياسة، يبين للعقل كيف يتجه، حتى لا يكون كالطائر الذي يظل يصفق بجناحيه ولا يطير، إذ لا يجد الهواء الذي يطير فيه.
وفي هذا الموضع من سياق الحديث. أراه مما يفيد القارئ أن أقارن له مقارنة سريعة بين شعب يتوقد بجذوة الحياة، وشعب آخر تيبست أطرافه وجمدت دماؤه وتفحمت فيه جذور الحياة وأصولها. وإذا كان شعب ما في الحالة الأولى توقعنا له نهوضا، أو استمرارا في نهوض قائم، وأما الشعب الذي نلمح فيه عوارض الحالة الثانية أيقنا أن بينه وبين أن ينهض نهضة حقيقية، تتبدل بها حياته حالا بعد حال، مسافات تقاس بما يشبه الأرقام الفلكية، فكان الأمر قد أصبح معها ضربا من المحال، فمن العلاقات الدالة على أن شعبا معينا يحيا الحالة الأولى ، ذلك الضرب من التوتر العقلي الذي يأبى على صاحبه إلا أن يتعقب المشكلات المثارة أمام العقل، تعقبا يمضي به خطوة وراء خطوة حتى يضع أصابعه على الينبوع، وقد يقتضي تحليل عقلي كهذا، أعواما بعد أعوام، وكتبا تؤلف، ومعارضات ومناقشات قد تتولد عنها تيارات فكرية مختلفة يدوم جريانها في حياة الناس عصرا بأكمله.
فانظر - مثلا - في القرون الأولى من تاريخ الفكر الإسلامي، حين كانت تنهض أمام الناس مشكلة فكرية، كم كانوا يبذلون من جهة في سبيل حلها.
نضرب مثلا واحدا، وذلك حين رأوا في أول طريقهم أن فهم القرآن الكريم فهما يعتد به يستوجب، بادئ ذي بدء، أن تعرف أسرار اللغة العربية، وهي اللغة التي نزل بها الكتاب، فأخذوا يحيطون بأطراف الموضوع من جميع أقطاره! جمعا للمفردات اللغوية وتقعيدا لقواعد النحو التي كان لا بد أن يستخلصوها مما بين أيديهم من صور التعبير وبحثا عن الشواهد التي يستدلون بها على ما يزعمونه من قواعد وأصول، فكان أن جمعوا من الشعر الجاهلي ما جمعوا ... إلى آخر تلك الجهود التي تذهل دارسيها، وما نقوله عن مشكلة اللغة ودرسها، نقول مثله عن الجهود الفكرية المبذولة في ميادين الفقه وعلم الكلام وغيرهما، فهم في كل تلك الميادين أصلاء أولا ومتعقبون إلى جذور الجذور ثانيا. فهي - إذن - حالة شعب حي متوقد الحيوية، ولا كذلك شعب - ولن أقول لك أين تراه - لا هو أصيل في حلوله لما يعرض له من مشكلات حياته العقلية، بل ينقل عن الآخرين نقلا غبيا ولا هو يريد أن يتعقب مشكلة واحدة إلى جذورها، بل تكفيه النتائج يجمعها مختصرة عما ينقله. ثم يحيلها في ذاكرته إلى محفوظات يتعامل بها. وذلك هو أحسن الفروض.
ونعود إلى موضوعنا فقد قلنا إن مشكلة العلاقة بين الحاكم والمحكوم كانت من أمهات المسائل التي فرضتها ظروف الحياة العملية على رجال الفكر في إنجلترا وفرنسا بصفة خاصة، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد حدث في إنجلترا - مثلا - أن قامت ثورة ضد الملك شارل السادس (وكان ذلك في القرن السابع عشر) على أساس أن الملك مغتصب لحقوق الشعب. والذي يهمني من ذلك في حدود حديثي هذا هو ماذا كان دور رجال الفكر إزاء تلك الثورة السياسية بطرفيها، فالثائرون من الشعب في ناحية، والملك المثار عليه وأنصاره في ناحية أخرى، هل أقفل المفكرون على أنفسهم أبواب بيوتهم طلبا للعافية وراحة البال؟ هل اكتفوا من الأمر بعبارات موجزة يخطفونها خطفا من هنا وهناك؟ هل استندوا إلى وقفات عاطفية يؤيدون بها هذا الطرف أو ذلك الطرف ثم استراحوا؟ لا، لا شيء من هذا، فذلك شأن الشعب حين يريد لنفسه الموت، أما أولئك الرجال فقد أخذوا حياتهم بجدية من يحيا حياة قوية ولا يتردد في أن يحمل تبعاتها.
كان هنالك منهم من رأى مناصرة الملك كما كان هنالك من رأى مناصرة الشعب الثائر، لكن المهم هنا هو كيف تكون المناصرة بالنسبة لرجل يفكر؟ فالذي يرى أن حق القرار آخر الأمر إنما يكون للحاكم وكذلك الذي يرى أن حق القرار إنما يكون - أول الأمر وآخر الأمر - للشعب ممثلا في نوابه، أقول إن كلا الرجلين إذ يناصر من يناصره، لا بد له من إقامة الرأي على دعامة فكرية، ولا تكون تلك الدعامة قائمة على أساس مكين ثابت، إلا إذا تعقب الباحث مجتمعه إلى أصول أصوله، ليرى - كما أسفلت القول - هل في الطريقة التي نشأ بها المجتمع ما يكشف عن الإجابة السليمة؟
وكان «تومس هوبز» (في القرن السابع عشر) هو على رأس من تصدوا للدفاع عن حق الملك في اتخاذ القرار النهائي، وأن ثورة الشعب التي تزعمها كرومويل لم تكن على حق في مهاجمته ثم قتله؛ ولكي يوضح هوبز على أي الأسس أقام حكمه ذاك، أصدر كتابه المعروف «اللواياتان»، وهو اسم لحيوان وهمي يبتلع في جوفه كل ما عداه، وقد نترجم هذا الاسم بعبارة «التنين الجبار»، وفي هذا الكتاب تحليل مستفيض لما كان عليه أفراد الإنسان، وهم بعد على فطرتهم الأولى، وقبل أن يلتئموا في مجتمع، ثم انتقل من ذلك التحليل إلى نتيجته، وهي أنه لا بد أن قد تم اتفاق بين جماعة من الأفراد على أن يعيشوا معا بحيث يتنازل كل منهم عن جزء من رغباته لكي يمكن التوفيق بين مختلف الأفراد، لكن من الذي يضمن لهم حسن التنفيذ؟ إنه لا مناص من أن يوكل أمر ذلك إلى رجل قوي يستطيع أن يكون حكما عند نشوب اختلاف بين الأفراد، وأن تكون له القدرة على ردع المتمرد، وبهذا بذرت البذرة الأولى لقيام الدولة، ولقيام الملكية التي تتجسد بها فكرة الدولة، وإذا كان هذا هكذا، فما علينا بعد ذلك إلا أن نستخلص ما يترتب على تلك النشأة من نتائج خاصة بتحديد العلاقة بين الملك والشعب، من حيث الحقوق والواجبات.
Bilinmeyen sayfa