قلت: لا، لم أدعك، ولا توقعت قدومك، فربما استدعاك ما كنت أفكر فيه.
قالت: وفيم كنت تفكر؟
قلت: في رجل الشارع، لكن دعينا الآن مما كنت أفكر فيه، ولنا إليه عودة، أما الآن فقصي علي ما أصابك، إنني أعلم شيئا عنه، أضاع منه النسيان شيئا وأبقى شيئا.
قالت: وكيف عرفت ما عرفته عن مأساتي، وبيننا خمسة عشر قرنا، فأنا من أهل القرن الخامس الميلادي، وأنت من أبناء القرن العشرين؟
قلت: قرأت عن مأساتك فيما كتبه شيخ المؤرخين الإنجليز «إدوارد جيبون»، ذلك المؤرخ الذي كان يكتب التاريخ بقلم الأديب، يرسم الصور بقلمه فتحيا ويحيا معها القارئ، فكان قلمه للأحداث هو نشور لها بعد دثور.
قالت: كانت مأساتي مروعة دامية، وأعجب ما فيها أن جنايتي عند أولئك القساة هي اشتغالي بالفلسفة وعلوم الرياضة، ولقد أوقعوا بي ما أوقعوه باسم الدين.
قلت: هيه يا فتاتي، حدثيني، فأمسنا يبدو كيومنا، والإنسان هو الإنسان لا يغيره الزمان، حدثيني يا فتاتي عما حدث.
قالت: أراد بي ربي ألا ألهو مع اللاهيات فشغلت نفسي بالدراسة، ودفعني هواي إلى أن تكون الفلسفة موضع حبي، ولعلك تعلم أن الفكر الفلسفي والفكر الرياضي قرينان؛ لأنهما شبيهان في طريقة البدء وفي منهج السير.
وما أنا ذات يوم في ساعة الضحى، وبينما كنت منتقلة في عربة أطوي بها الطريق في مدينة الإسكندرية، أنعم بزرقة البحر تحت زرقة السماء، والهواء منعش جميل، إلا وقد دهمت العربة جماعة اشتد بهم الهوس والجهل معا، فحسبوني خارجة على الدين، فلا هم يعرفون حرفا مما أدرسه، ولا هم يأخذون بكلمة مما يوصي به الدين، فانتزعوني من العربة انتزاعا، وخلعوا عني الثياب عنوة وقسرا، ودفعوا بجسدي العريان على الأرض، وشدوني إلى حبل، ثم جروني جرا على حصباء الطريق، حتى لقد تسلخ ونهش وكادت تظهر العظام مما كان يكسوها، فلما بلغوا بي إلى حيث أرادوا، وجدت رؤساءهم في انتظاري، وأقاموا من أنفسهم ما يشبه المحكمة الدينية لمحاكمتي.
وعبثا حاولت الكلام، فالبدن منهوك القوى، والطغاة لا يصغون، والحكم مقرر سلفا، فانقضوا علي بالسكين ذبحا، وأشعلوا نارا، وأخذوا يكشطون ما بقي من لحمي بمحارات مسنونة الأطراف، ويقذفون في النار بالأشياء شلوا شلوا، وبقطع اللحم قطعة قطعة، وكان بعضها يلقى في اللهب وهو لم يزل يرتعش ببقية من حياة.
Bilinmeyen sayfa