وما أحسب أحدا من الحجيج زار النوم أجفانه تلك الليلة إلا لماما؛ فقد أقام الباعة يصيحون حتى ارتفعت الشمس فوق الجبال، ولعل الذين أووا إلى مضارب في صحراء منى لم يكونوا أسعد بالنوم حظا، وإن كانوا عن صياح الباعة أكثر بعدا، فقد نال أكثرهم إغفاءته بالمزدلفة، فلما بلغوا منى وأتموا شعيرة التحلل الأصغر كان النهار قد نشر في الأرجاء نوره، وأنى لإنسان أن ينام في قبة يسري الضوء في فرجاتها؟! وأنى له أن ينام هذا اليوم، يوم النحر والعيد الأكبر! وقد بلغ منى ليصلي الفجر وليصلي العيد وهو في غبطته ونشاط نفسه لقضاء الفريضة في عرفات، وذكر الله عند المشعر الحرام؟
ومر بي مضيفي كيما أعد نفسي لنهبط إلى مكة نطوف ونسعى، وكان رجاؤنا أن ندرك ابن السعود في طوافه وسعيه، وأقلتنا السيارة وانطلقت بنا على هون بين قوافل الإبل، فرأيت هذا الطريق من منى إلى مكة لأول مرة في ضوء النهار، ولم أستبن منه كثيرا ونحن في زحمة من هبطوا يقصدون إلى ما نقصد إليه من الطواف والمسعى، وإن حرص مضيفي على أن يذكر لي أنه طريق جديد شقته الحكومة القائمة في الجبال، وأقامت إلى جانب قسم طويل منه سورا يمنع السيول أن تطغى عليه، ولم يطل بنا السير حتى كنا على مقربة من مكة، إذ ذاك اجتمع هذا الطريق بطريق الإبل، ولم يكن للسيارة بد من التمهل والوقوف أحيانا، فلما بلغنا قصر الملك لفت مضيفي نظري إلى الجبل القائم عن يميننا بين جبال عدة وكأنه منها في عزلة الناسك، وقال: هذا جبل النور، وصادف لفته نظري وقوف السيارة لمرور قافلة أمامها، فتوجهت ببصري إلى هذا الجبل الذي اختاره النبي العربي ليتعبد فوقه قبل أن يبعثه الله نبيا، توجهت ببصري إليه فاسترعى كل انتباهي بهذه العزلة التي تفرد بها عما حوله من الجبال، وبهذه الاستقامة المخروطية في انطلاقه إلى السماء استقامة تجعله أدنى إلى برج شاده الإنسان لغاية خاصة، منه إلى جبل قائم بين عشرات من الجبال حوله، لا يميزه عنها إلا الحادث الفذ الذي جعله القدر نصيبه، حادث هبوط الوحي الأول على رسول الله فوقه.
ودخلنا مكة وقصد مضيفي إلى دار أحد معارفه لنتوضأ قبل أن نطوف ونسعى، وكانت الدار في طريق يجاور المسعى، فلم يكن بد من أن نخترق صفوف الساعين إليها، وأجلت بصري أتفرس في وجوه هؤلاء وأتحرى أمر هذا المكان الذي يؤدي المؤمنون اليوم فيه منسكا كان إخوانهم يؤدونه فيه منذ مئات وألوف من السنين خلت، ولقد كنت في حاجة إلى الدقة في تعرفه؛ فلم ترتسم منه لدي صورة حين سعيت فيه سعي العمرة قبيل الفجر أول ما حللت مكة؛ لأنني كنت في شغل بالسعي والدعاء؛ ولم أقف صبح الغد من ذلك اليوم على كل ما أردت منه، وألفيت وجوه الساعين في هذا الصباح من يوم النحر أكثر طمأنينة، وأصواتهم في الدعاء أدنى إلى السكينة، وكأنما شعروا بعد أن أتموا فرض الله بعرفة أنهم أدنى إليه، فدعاؤهم إياه أدنى أن يستجاب، ويحصرهم هذا المكان الظليل بسقفه المهلهل وبالمباني الرفيعة القائمة على جانبيه في غير انتظام رغم فخامة بعضها، فلا يرون ما كان يراه أسلافهم من زرقة السماء وفسيح الصحراء، وهم يهرولون أول سعيهم أثناءه ثم ينبعثون سائره بخطى مطمئنة، ولا يفترون أثناء ذلك عن ذكر الله ولا عن التلاوة والدعاء.
وانعطفت وراء مضيفي في زقاق ضيق قذر متصل بالمسعى، ثم صعدنا بعد خطوات فيه درجا يشهد بأن الدور تقوم على ربوة قديمة، ودق مضيفي بابا فتحه أهله واستقبلونا بالتحية والترحيب رغم مجيئنا على غير انتظار، وتناولنا القهوة وتوضأنا وصلينا، ثم قصدنا إلى المسجد الحرام نطوف طواف الحج؛ لنسعى من بعد ذلك سعيه، ودخلنا المسجد فعلمنا أن الملك سبقنا إليه فطاف وسعى من بكرة الصباح، وألقيت بنظري أول ما دخلت من ناحية الكعبة فألفيتها نصف عارية من كسوتها، وألفيت القسم الذي لا يزال مكسوا منها عليه ثياب بيض وضعت قبيل يوم عرفة إيذانا بإحرام البيت العتيق، واليوم، يوم عيد النحر تنزع عن الكعبة ثياب العام الذي ودعنا لتوضع مكانها ثياب العام الذي نستقبله.
وأبدى عريها أحجار الجرانيت الأسود الذي بنيت منه دالة على صلابة وقوة على الزمان، والناس يطوفون بها، ومنهم من حل إحرامه في منى، ومنهم من لا يزال محرما، وانبسطت أشعة شمس الصباح في صحن المسجد الفسيح وأضاءت بنورها كل أرجائه، والموكلون بإلباس الكعبة كسوتها ينزعون عنها الثياب البيض، ثياب الإحرام، وينزعون كسوة العام الماضي ليسدلوا مكانها كسوة هذا العام، ويفرغ الناس من طوافهم فينحرفون إلى مقام إبراهيم وإلى حجر إسماعيل يصلون فيهما، ثم يقصدون إلى البناء القائم فوق زمزم يلتمسون عنده شربة من مياه بئر إسماعيل، أما نحن فقد يممنا زمزم منذ دخلنا المسجد، ودق مضيفي باب مقامها ففتحه لنا الموكولون بها، فتوضأنا من مائها ولبسنا خفافا وخرجنا نطوف بالكعبة، ولم يكن معي في هذه المرة مطوف أتلو من بعده ما يتلو من الأدعية؛ لذلك تركت نفسي على سجيتها تتجه إلى الله كما أفهم أنا كيف يجب أن يتوجه الإنسان إلى الله، فإذا مررنا بالركن اليماني سمينا الله وكبرنا وتلونا قوله - تعالى:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وعدنا إلى تسمية الله وتكبيره قبالة الحجر الأسود، وانطلقنا بعده نتم الطواف ونحن ندعو ونستغفر، والطائفون طواف الحج يسيرون سيرتنا، يسمون الله كما نسميه، ويكبرونه كما نكبره، ويتلون من الأدعية ما يلقيه المطوف عليهم أو ما تجيش به خواطرهم وما يريدون الاستعانة عليه بالله في أمرهم وفي أمر من يحبون من ذويهم وأهلهم.
وأتممنا الطواف وصلينا في مقام إبراهيم وفي حجر إسماعيل، ثم انتحينا إلى فيء قباب المسجد، فجلسنا وتناولنا شربة من زمزم وصلينا، وأقمت مكاني هنيهة محدقا ببيت الله وبالطائفين به وبالركع السجود، وإني لكذلك إذ مرت بخاطري صورة الرسول الكريم - عليه السلام - في عمرة القضاء، يومئذ ظنت قريش به الظنون، وحسبته وأصحابه في عسرة وجهد أوهناهم وضعضعا من عزمهم، ألم يجيئوا ليعتمروا قبل عام من ذلك اليوم فلما صدتهم قريش عن مكة وحالت بينهم وبين البيت كفى محمدا أن يعقد معها عهد الحديبية وأن ينصرف إلى يثرب؟! ولولا العسرة والجهد لما فعل، ولما ارتضى أن يؤجل عمرته وعمرة المسلمين عاما كاملا، ذلك ما خيل يومئذ إلى قريش.
فلما انقضى العام وأقبل المسلمون إلى مكة ومحمد على رأسهم، وانصرفت قريش عنها إلى الجبال المحيطة بها، أراد الرسول أن يريهم كيف وهموا فيما ظنوا من ضعف المسلمين ووهنهم، فلم يلبث حين دخل المسجد ونادى بنية الطواف أن أخرج ذراعه اليمنى من ردائه، وأن صاح بأصحابه: «رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة!» ثم استلم الركن عند الحجر الأسود وهرول، وهرول أصحابه من ورائه، حتى بلغ الركن اليماني، هنالك مشى إلى الحجر الأسود مسبحا الله مكبرا إياه، ثم هرول من جديد وأصحابه يهرولون حتى أتمو ثلاثة الأشواط الأولى ومشوا سائر الأشواط السبعة، ورأى المشركون من قريش كذب أوهامهم؛ إذ رأوا محمدا والألفين من المسلمين معه أقوياء لم يصبهم نصب ولا لغوب، والمسلمون لا يزالون إلى اليوم يهرولون في الثلاثة الأشواط الأولى اتباعا لسنة الرسول، وإن لم يعرف أكثرهم حكمة هذه الهرولة، وإن لم يدر بخاطر أكثرهم ما يدل عليه هذا المظهر من أن الإسلام دين بأس وقوة ونظام.
والمسلمون اليوم يطوفون لا يؤمهم أحد؛ وهم لذلك تختلف أثناء الطواف صفوفهم، لا يهرولون في نظام، ولا يتئد سيرهم في نظام، وشتان في ذلك ما بينهم وبين المسلمين الأولين، شتان ما أرى اليوم وما كان في عمرة القضاء أو حجة الوداع، كان محمد يؤم ألفين في عمرة القضاء، ومائة ألف في حجة الوداع، يسيرون كلهم سيره، ويتبعونه، في نظام أدق نظام، هرولة ومشيا واستلاما للركن أو للحجر الأسود، وهذا النظام المتصل بروح الإسلام سبب من أسباب القوة، بل هو مصدرها وملاكها، وهذه الإمامة يقوم بها رجل مطهر يؤمن أصحابه بصدقه هي روح هذه القوة وقوامها، ولو عاد المسلمون إلى الإمامة والنظام في الحج وفي غير الحج، ولو أنهم واءموا كما يوائم دينهم بين حرية تامة أساسها الإيمان بالله وحده وإباء الخضوع لكل من سواه، وألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، وبين هذا النظام الكفيل بحرية الجماعة وحياتها - إذن لاستطاعوا أن يؤدوا في العالم رسالة الإسلام كرة أخرى، ولسعد العالم بهذا الدين كما يجب أن يسعد به.
مرت هذه الخواطر بنفسي وأنا في مكاني من فيء المسجد، فانطلق ذهني على أثرها يفكر فيما يجب أن تكون الإمامة والنظام في العالم الإسلامي الحاضر، وكيف يجب أن يكونا في الطواف والسعي وسائر فراض الحج ومناسكه، وإني لفي تفكيري إذ نبهني مضيفي إلى القيام لنسعى، وأتممنا السعي بين جماعة الساعين، يزحمنا هذا، ويدفعنا ذلك، ويعترضنا بين آن وآخر صف من النجديين شبكوا أيديهم بعضهم ببعض، فإذا صادفهم ساع صاحوا به: طريق! طريق! وانطلقوا في سعيهم ينادون ربهم بلغتهم: «رب اغفر، حتما تغفر، إن لم تغفر من ذا يغفر؟!» وذكر بعض أصحابي أنه سمعهم يقولون: «رب اغفر، حتما تغفر، إن لم تغفر جنتك تصفر »، ويمر بين هذه الصفوف كما يمر بين صفوف الطائفين بالبيت ما بين حين وحين جماعة يحملون محفة عليها شيخ أو عجوز أو مريض لم تستطع قدماه حمله ليطوف ويسعى، فطاف به هؤلاء وسعوا، والمطوف يسير إلى جانبهم يدعو والمحمول في المحفة يدعو معه.
Bilinmeyen sayfa