ونمط مسجد المشربة كنمط مساجد مكة والمدينة التي أقيمت للذكرى لا للصلاة، وهو خير في بنائه وفي صيانته من كثير من المساجد التي من نوعه، وفي صحنه إلى جوار الجدار المقابل للمحراب بئر ما يزال الماء بها، لكنها لم تبن فوهتها، ولم تعلق عليها دلو ، مما يدل على أن ماءها غير مأثور للشرب ولا للتبرك.
أقمت طويلا عند مسجد المشربة، ودرت حوله من نواحيه جميعا، وحاولت أن أصور لنفسي تلك المصرية التي سكنت هذا المكان كيف كانت، وهل كانت تعيش ها هنا كما كانت تعيش في مصر؟ أما أنها آثرت حياة أهل المدينة فسارت سيرتهم ونسجت على منوالهم؟ وإن المؤرخين ليذكرون أنها كانت جميلة، حلوة القسمات، قمحية اللون، يتوج رأسها شعر أسود متموج، وأنها كانت تعيش في مشربتها بين الحدائق التي أهداها مخيريق إلى الرسول بعد جلاء بني النضير عن المدينة، عيش طمأنينة ونعمة، أما بعضهم فيذكر أنها أقامت أول عهدها في دار بالمدينة تجاوز حجرات النبي، وأنا لم تنقل إلى المشربة إلا بعد مولد إبراهيم، وحين ظاهرت حفصة وعائشة على النبي بعد أن عادت حفصة يوما من دار أبيها فوجدت مارية في بيتها مع النبي، وهذا قول مرجوح؛ لأن مارية لم يعرف لها بالمدينة بيت قط، ولأن مظاهرة حفصة وعائشة لا ترجع إلى سبب واحد.
1
على مقربة من مسجد المشربة يقع مسجد الفضيخ شرق قرية العوالي، وهو أوسع رقعة من مسجد مارية ومن كثير من المساجد الأثرية، له شرفات وخمس قباب، ومحراب يجاوره منبر من حجارة يرتفع عن الأرض درجتين، وقد سمي هذا المسجد الفضيخ لما يروى من أن أبا أيوب أراق به الفضيخ، وهو خمر التمر، إذ بلغه وهو في نفر من أصحابه نزول تحريمها، ويسمى هذا المسجد كذلك مسجد الشمس؛ لأن الشمس تطلع عليه أول شروقها، وهو مسجد مأثور لصلاة النبي بموضعه ست ليال حين حصاره بني النضير.
ليس يقابلك إذ تسير شرق الخندق من ظاهر المدينة أثر غير ما قدمنا خلا مسجد بني ظفر ومسجد الإجابة، وقد ذكرنا مسجد الإجابة حين تحدثنا عن آثار المدينة، أما مسجد بني ظفر فيقع شرق البقيع، ويؤثر عنه أن رسول الله أتى بني ظفر فجلس على الصخرة التي في مسجدهم في جماعة من أصحابه وأنه أمر قارئا فقرأ حتى أتى على هذه الآية:
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، فبكى رسول الله وقال: «أي رب! شهيد على من أنا بين ظهرانيه! فكيف بمن لم أره؟!» ويذكر صاحب مرآة الحرمين أن هذا المسجد يسمى كذلك مسجد البغلة لوجود أثر بجوار المسجد في حرة واقم يزعم المزورون أنه لحافر بغلة النبي، كما يزعمون في تأويل انخفاض في حجر هناك أن رسول الله اتكأ في هذا المكان بمرفقه فترك في الحجر هذا الأثر، كما تركت أصابعه أثرا في حجر آخر، ويضيف إبراهيم باشا رفعت: «ولم يثبت شيء من ذلك، وإنما هو محض افتراء زوره المرشدون للآثار ليستدروا بذلك أموال الدهماء.»
تقع هذه الآثار كلها بحرة واقم، والحرة كما أسلفنا منطقة سوداء من الحجارة المحترقة اختلط بها أكثر الأمر حمم بركاني، وحرة واقم تحد المدينة من الشرق كما تحدها حرة الوبرة من الغرب، ولقد كانت واقم أكثر عمرانا من الوبرة أول ما جاء رسول الله إلى المدينة، كانت منازل اليهود من بني النضير تقع في جنوبها ويليها إلى الشمال منازل بني قريظة منهم؛ ثم كان بها ثلاثة منازل للأوس: منازل بني ظفر واقعة إلى الشمال من وادي مهزور، ومنازل بني عبد الأشهل في أوسط الحرة، ومنازل بني حارثة في شمالها، وفي منازل بني عبد الأشهل كان يقوم في حصنهم واقم الذي سميت الحرة باسمه، وقد ترك أصحاب هذه المنازل من اليهود والأوس آثارا في الحرة تدل على حضارة ونظام؛ تركوا بها آثار مصانع وصهاريج مياه لم يبق منها اليوم إلا أطلال دوارس، ولا عجب، وقد كانت هذه الحرة ميدان حرب مذ استقر الإسلام بالمدينة، حاصر رسول الله بني النضير في منازلهم بها وقد ائتمروا به ليقتلوه، وذلك حين خرج إليهم بعد مقتل كعب بن الأشرف يريد أن يقر السلم باحترام عهد الموادعة بينه وبينهم، وقد أدرك ائتمارهم فانسحب من ديارهم، وأرسل إليهم محمد بن مسلمة يبلغهم: «أن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي، لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي، لقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه.» وتحيرت بنو النضير ما تصنع، ثم انتهت بتحريض عبد الله بن أبي إلى عدم النزول على حكم هذا الإنذار النهائي الذي أبلغ إليهم، هنالك حاصرهم المسلمون وقاتلوهم عشرين ليلة وقطعوا نخيلهم، فلما بدا لهم اليأس من المقاومة سألوا محمدا أن يؤمنهم حتى يخرجوا من المدينة، وخرجوا منها تاركين وراءهم مغانم كثيرة.
وحاصر رسول الله بني قريظة بعد أن نقضوا عهده وغدروا به وانضموا إلى الأحزاب في غزوة الخندق، فلما تولى الأحزاب عن المدينة بعد أن خلع الإعصار خيامهم وقلوبهم، قاتل المسلمون بني قريظة في منازلهم خمسا وعشرين ليلة حتى سلموا وحكموا سعد بن معاذ في مصيرهم، فحكم بأن تقتل المقاتلة، وتقسم الأموال، وتسبى الذرية والنساء، وكذلك كان.
من بعد ذلك ظلت المدينة آمنة إلى مقتل عثمان، ثم بدأت الثورات والحروب الداخلية بين علي ومعاوية، فلما قتل علي بالكوفة وانقضى عهد معاوية وتولى يزيد ابنه إمارة المؤمنين انتقض عبد الله بن الزبير والحسين بن علي، وأقام عبد الله بن الزبير بمكة وبايعه الهاشميون، فجهز يزيد لمحاربته جيشا مؤلفا من اثني عشر ألفا من الفرسان وخمسة آلاف من المشاة وجعل على رأسهم مسلم بن عقبة المري، وبلغ مسلم المدينة سنة ثلاث وستين فوجدها محصنة حولها الخندق، لكنها لم تقاوم غير أربعة أيام ثم سلمت، وكانت هذه وقعة الحرة المشهورة في التاريخ الإسلامي، وإنما سميت هذه الوقعة الحرة؛ لأن جيوش يزيد جاءت من حرة واقم.
تحد هذه الحرة المدينة من الشرق وتحدها حرة الوبرة من الغرب، وتبدأ حرة الوبرة قبالة قباء من الجنوب عند ذي الحليفة؛ ميقات الإحرام لأهل المدينة، وأول الطريق منها إلى مكة، وليس بذي الحليفة اليوم غير بئر ومسجد؛ بئر توضأ منها رسول الله وتوضأ منها المسلمون للإحرام للعمرة والحج عام الحديبية وعام الوداع، ومسجدها قائم بالمكان الذي كانوا يصلون فيه للإحرام، والمسجد القائم اليوم أثري لا يتسع لمائة أو لمائتين من المصلين، وبه محراب كتب أعلاه :
Bilinmeyen sayfa