خرجنا إذن من مكة عصر يوم الإثنين الثالث والعشرين من شهر مارس بعد أن ودعني بدار مضيفي من أنست إليهم وأنسوا إلي من شباب مكة، وصحبنا مضيفي في السيارة إلى دار وزير المالية بجرول، واستقبلنا الشيخ عبد الله سليمان بترحاب، وزودني بعد القهوة بخطابات من جلالة الملك إلى أمير المدينة عبد العزيز بن إبراهيم وإلى أمير خيبر ليعاوناني فيما أريد أن أقوم به من مباحث، وأهدى إلي ساعة ذهبية عليها اسم جلالة الملك ابن السعود، وستارا من كسوة الكعبة، وخرج يصحبني ويصحب الشيخ عباس قطان إلى باب الدار، فلما أردت أن أستأذنه مودعا وأشكره على جميل ضيافته ألفيته يشير إلي كي أركب معه سيارته، ولقد تأثرت نفسي لهذا التلطف غاية التأثر، وذكرت إذ ذاك هذا البيت الذي تمثل به الشيخ محمد صالح القزاز ساعة وصلنا الطائف:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت رب المنزل
وأبديت ما خالج فؤادي من عرفان الجميل لوزير المالية، فرد تحياتي بأحسن منها في لسان عربي بدوي وقع من نفسي أبلغ موقع، وأقلتنا سيارته حتى جاوزنا أبواب مكة، هنالك نزلت منها وكررت آي الشكر له ولمضيفي الشيخ عباس قطان، وركبت سيارتي مع والدتي والشيخ عبد الحميد حديدي ومطوفنا الشيخ إبراهيم النوري، فلما بلغنا الشميسي وقفت السيارة أمام فندقها، وألفينا عنده جماعة من أصدقائي شبان مكة؛ ليودعوني على حدود موطنهم بالمدينة المقدسة، وبعد أن تبادلنا التحية والشكر كروا بسياراتهم راجعين إلى مكة، وعادت السيارة تجري بنا في الطريق صوب جدة، لكننا ما نزال في وضح النهار، وهذه الشميسي هي الحديبية حيث كانت بيعة الرضوان، وحيث عقد الرسول أول عهد له مع قريش، فنزل فيه الوحي بسورة الفتح، ولقد حال الجهد وتقدم الليل والشوق إلى دخول مكة دون وقوفي عندها يوم نزلت الحجاز، أما وفي مقدوري الآن أن أنزل بها وأقف عندها فهذه فرصة لن أضيعها.
ولم يثنني عن ذلك ما قرأته أثناء وجودي بمكة في «شفاء الغرام» للفاسي من أن مسجد الشجرة والحديبية لا يعرفان الآن، فلو أن مثل هذا القول صدني عن الوقوف عند أثر مأثور لوليت وجهي عن الآثار المأثورة جميعا فيما خلا الحرم وحراء وثورا؛ لذلك نزلت بعد قليل من مغادرة السيارة فندق الشميسي قبالة مسجد الرضوان فإذا هو مشيد من حجر أزرق متين على طراز مساجد مكة؛ لكن متانته وحسن عمارته يجعلانه يبدو للنظر أكثر اتصالا بالحياة منها، وهو أفسح رقعة من أكثرها؛ لذلك قامت به ثلاثة عقود وضعت فوقها البواكي لتمسك سقفه، ومحرابه أدق فنا من محاريب تلك المساجد. ولا عجب في ذلك وبناؤه لا يرجع إلى أكثر من مائة سنة بشهادة ما نقش بأعلى هذا المحراب مما نقلته في فصل «ظاهر مكة».
والمشهور - على رغم ما يقوله الفاسي - أن هذا المسجد يقوم في الموضع الذي كانت تقوم فيه شجرة الرضوان؛ وهي الشجرة التي نزل فيها قوله - تعالى:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ، ولم تبق هذه الشجرة في موضعها بعد وفاة الرسول إلى أكثر من عهد عمر بن الخطاب حين خشي أن يتخذها المسلمون إلى الله زلفى كما كان يفعل الجاهليون بأصنامهم، فأمر بقطعها.
ولنزول هذه الآية في المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة سميت البيعة بيعة الرضوان والشجرة شجرة الرضوان، ولا عجب أن يخشى عمر تقديس المسلمين هذه الشجرة؛ فقد كانت بيعة الرضوان من أروع ما عرفه التاريخ في سيرة الرسول - عليه السلام، ولقد تمثل لي هذا المشهد في كل روعته وأنا بموقفي فوق الهضبة التي قام المسجد عليها، فازددت له إكبارا وبه إعجابا، فها هو ذا محمد على رأس المسلمين قد خرجوا جميعا من المدينة محرمين لا يحمل أحد منهم سلاحا إلا ما يحمل المسافر من سيف مغمد، وها هم أولاء قد انطلقوا في طريق مكة يلبون وقد ساقوا الهدي أمامهم سبعين بدنة بعد أن مازوا جوانبها اليمنى.
انظر إليهم؛ لقد قطعوا البيداء حتى بلغوا عسفان؛ وهذا رجل يجيب الرسول إذا سأله عن أنباء قريش: «قد سمعوا بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم.» ويعجب الرسول لأمر قريش ويقول: «يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله، لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.» إنه الآن يرى فرسان مكة على مرمى النظر فينادي في الناس: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» وهو يفعل إيمانا منه بحرمة مكة مدينة السلام وحرصا منه لذلك على أن يدخلها معتمرا لا مقاتلا، ويخرج رجل من المسلمين فيسلك بهم طريقا وعرا بين شعاب مضنية حتى يبلغ بهم سهلا عند منقطع الوادي، ثم يخرج بهم على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة.
والآن ماذا أرى؟ لقد كان ما شهدت حتى الساعة أدنى إلى صورة ترتسم أمام الخيال ثم تتجسم وتدب فيها حياة كحياة صور السينما، أما الآن، فإنني أرى! نعم! أرى بعيني، وأسمع بأذني، ويهتز كل وجودي لما أرى وأسمع، فهؤلاء ألفان من المسلمين مقبلين علي وأنا بموقفي من هضبة الحديبية، محرمين كلهم، يلبون كلهم، وعلى رأسهم رسول الله
Bilinmeyen sayfa