ولم يثر بي التطلع إلى تحقيق موضع مجنة ما ثار بي إلى تحقيق موضع عكاظ، فقد خشيت أن أعود من بحثي بمثل ما عدت به من عكاظ من ترجيح رأي على رأي دون القطع بأي منها، ثم إن مجنة لم تكن يوما ذات أثر في الأدب العربي ولا في التاريخ العربي كما كانت عكاظ، فهي لم تزد على أنها سوق في جوار مكة يجيء إليها الحجاج بعد انصرافهم من عكاظ في العشرين من ذي القعدة ويجيئون إليها محرمين قد نسوا خصوماتهم ومفاخراتهم وتوجهوا بقلوبهم إلى ربهم، وهذا موقف تنكر النفس فيه التنافس والحسد، وترغب فيه عن الأذى والخصومة، وقد ألف الناس ألا يعرف تاريخهم إلا آثار الحسد والتنافس وما يجران إليه من حروب ومنازعات، وما ينشأ عنهما من تطور إلى الكمال، فكأنما كتب على هذه الإنسانية ألا تبلغ الكمال المنشود، وألا تبلغ الخير المحبب إلى النفس الفاضلة إلا من طريق الشر والأذى، ولو عرف الناس التضامن وأقاموه مقام التنافس وبنوا صلاتهم على الإخاء الحق، لكان خيرا لهم وأدنى إلى ما توجبه كرامة بني جنسهم.
أقمت بمكة بعد العود من الطائف أعد العدة للرحيل إلى المدينة أزور بها قبر الرسول الكريم وأقف فيها على آثاره الخالدة، لم يبق لي إذن غير يومين اثنين أقضيهما في البلد الحرام، والله وحده يعلم أقدر لي أن أعود إليه؟! فلأنهل إذن من ورد ذلك الجو الروحي المصفى ما استطعت النهل، ولأتزود منه، وخير الزاد التقوى.
في مساء اليوم الأول لقيت الملك ابن السعود، فاستأذنته في مغادرة مكة، وشكرت له معونته ومعونة حكومته إياي في بحوثي، وصعدت إلى غار ثور في اليوم الثاني، فلما كان اليوم الثالث وكنت على أهبة السفر ذهبت إلى المسجد الحرام أطوف بالكعبة طواف الوداع، وألقي على البيت العتيق نظرة رجاء أن أعود إليه يوما، لعله يكون قريبا؛ لأنهل من نبعه الروحي كرة أخرى، ولأجد في القربى منه تجردا من الدنيا وتقربا إلى الله.
حقق الله هذا الرجاء، إنه على كل شيء قدير.
الكتاب الرابع
بين الحرمين
طواف الوداع
أما واليوم موعد الرحيل عن مكة فهلم إلى طواف الوداع، وخرجنا مع المطوف فطفنا ودعونا الله أن يغفر لنا، وأن يجعل لنا من العود إلى البلد الأمين والطوف ببيته المحرم قسما ونصيبا، وملت إلى حجر إسماعيل بعد تمام الطواف فصليت فيه، ثم صليت في مقام إبراهيم، وبعد أن أقمت زمنا أدعو وأستغفر انتحيت ناحية الفيء، وأقمت أفكر في هذا الرحيل من مكة وأستذكر أيامي السعيدة بها، وأية سعادة كهذا النعيم الروحي الماثل في كل رحابها، يتضوع بأريجه هواؤها، وتتحدث عنه أنباء الماضي في تاريخها، وينشر البيت العتيق شذاه في كل أرجائها!
وصرف التفكير في هذه السعادة الروحية عني إحساسا طالما دب إلى نفسي كلما ودعت بلدا احتواني وأنا في شك من العودة إليه، فقد كنت أشعر في مثل هذه المواقف بأن ما أفارقه ينهار بالنسبة لي في لجة ما لا نرى ولا نحس إلا خيالا وحدسا، كما أشعر بأن ما مضى من حياتي إلى ساعة هذا الوداع ينهار في لجة الزمن الذي لا يذر العالم لحظة من غير مور ولا تجدد، أما اليوم فكان إحساسي وتفكيري، وأنا بمجلسي من المسجد الحرام، بعيدين كل البعد عن معاني الانهيار وعن تصور الزمن لجة تبتلع الحياة والأحياء، لقد انبسط الزمن أمام بصيرتي وحدة جمعت الماضي والمستقبل، وانكشفت أمام الروح في بساطة دونها بساطة المكان ووحدته، تدركها بل تراها إذا جلست في غرفة ضيقة للإذاعة اللاسلكية، تسمع فيها وتشهد منها عن طريق «التليفزيون» كل ما شئت أن تسمعه أو تشهده في أنحاء العالم المختلفة، ليس للزمن ولا للمكان إذن لجة، بل روحنا هي هذه اللجة التي تسع الزمان كله والمكان كله، ما عرفنا أن نسمو بها فوق مادة الحياة الدنيا المحدودة بالزمان والمكان، وأين يتيسر للإنسان هذا السمو ما يتيسر له أمام البيت العتيق وفي هذا المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا؟!
في الحق أن ليس في العالم كله موقف يطوع للروح أن تسمو فوق حجب الزمان والمكان ما يطوعه لها هذا الموقف الذي أنا فيه، وليس ذلك لسر في الحجارة التي بني البيت العتيق منها، فالحجارة مادة، والمادة تنهار وتتجدد، ولقد جدد بناء هذا البيت غير مرة، إنما يطوع للروح هذا السمو فكرة التوحيد التي قام البيت رمزا لها منذ رفع إبراهيم القواعد منه وإسماعيل، وفكرة التوحيد هي الحقيقة السامية، الحقيقة الأولى، الحقيقة التي تتفرع عنها كل الحقائق، والتي يهتدي بها العلم والفن، وتهتدي بها الحياة كلها إلى وجه الله الأكرم، يسبح له - جل شأنه - من في السموات والأرض، لا إله إلا هو الكبير المتعال، نعم! فكرة التوحيد هي المركز الذي تنجذب إليه العوالم وسننها والكون وأطواره، والذي تتجه إليه ذرات هذا الوجود كلها مسبحة مقدسة، والفكرة روح وليست مادة، ومعنى وليست جسدا؛ وهي لذلك سامية في خلودها فوق المادة المصورة والصورة المجسدة؛ ولذلك يبقى رمزها بيت الله العتيق لا تعدو عليه عادية، ولا يصرف الإنسان عنه صارف، وكيف تنصرف الإنسانية عنه وهو يمثل خير ما فيها وأسمى معانيها؟!
Bilinmeyen sayfa